الطالبة رنين قديح – تصوير لميس الأسطل
لميس الأسطل
تتنفس الطالبة رنين قديح الصعداء بعد إنهاء اختبارات الثانوية العامة، التي خاضتها تحت القصف والخوف والنزوح المتكرر. عامان من الترقّب القاسي ومحاولات الدراسة عن بُعد وسط انقطاع الكهرباء وشح الإنترنت، وفي قلب إبادة جماعية طالت غزة، لم تُطفئ عزيمتها.
رنين قديح، 19 عاماً، من خزاعة شرق خان يونس، أنهت الصف الحادي عشر بحماس وانتقلت إلى الثانوية العامة وسط رهبة وقلق، حالمةً بدراسة تكنولوجيا المعلومات في إحدى جامعات الجزائر، بلد والدها.
تلقت رنين دعماً وتشجيعاً كبيراً من أسرتها، كونها الابنة الكبرى وأول تجربة للعائلة في الثانوية العامة، فطمحت أن تكون من الأوائل وترفع اسم عائلتها بفخر.
نزحتْ هي وكتبها
بين صفوف المدارس التي تحولت إلى ملاجئ مكتظة، تمسكت قديح بكتبها كأنها خيط الأمل الوحيد في زمن الحرب، تقول: "عند اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في تشرين الأول/ أوكتوبر عام 2023، ظننتُ أنه سيستمر لأسابيع أو لعدة أشهر، ولم أتوقع أن يمتد حتى اللحظة لحوالي عامين على التوالي".
نزحت رنين وعائلتها في اليوم الثاني للحرب، إذ كانوا يسكنون منطقة حدودية، واتجهوا إلى إحدى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" المكتظة بالقرب من مجمع ناصر الطبي غربي محافظة خان يونس، وتشاركوا النوم والجلوس سوياً في إحدى الصفوف المدرسية الذي كان يضم 7 عائلات، بواقع 50 شخصاً على الأقل.
وفي خضم النزوح، حرصت على حمل كتبها الدراسية ، مدفوعة بعزيمة لا تلين رغم الفوضى المحيطة، مردفة: "وضعت كتبي ودفاتري أولاً في حقيبة نزوحنا، محاولةً الدراسة والتركيز بشتى الطرق والوسائل، لكن الأمر كان صعباً للغاية في ظل الاكتظاظ الهائل في الصف المدرسي، والقيام بأعباء تعبئة المياه والوقوف على طوابير الحمامات لساعات لقضاء الحاجة دون أدنى خصوصية أو نظافة، وقضاء يوم كامل في محاولة الحصول على ربطة خبز واحدة من المخابز ووجبة طعام من 'التكيات'. مع انقطاع الكهرباء التام، كنت أشحن هاتفي بصعوبة عبر نقاط الشحن بالطاقة الشمسية، لمتابعة دراستي واستخدام ضوئه للقراءة ليلاً، رغم التعب والإرهاق الشديد".
تنقلت رنين قديح من خيمة إلى أخرى، محاولةً الحفاظ على بصيص الحلم الذي كاد أن ينطفئ. بعد أشهر، حاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلي أسرتها، فاضطرت للخروج تاركةً كتبها خلفها على أمل استعادتها لاحقاً. نزحت العائلة يوم 26 كانون الثاني/ يناير عام 2024 إلى خيمة في رفح جنوب القطاع، لتبدأ معاناة جديدة تحت القصف وفقدان الأمان، بين حرّ النهار وبرد الليل وصعوبة المعيشة وانتشار الأوبئة. أصيبت رنين وعائلتها بالتهاب الكبد الوبائي، ورغم ضعف الإنترنت وبطئه، واصلت متابعة دروسها.
وضعت كتبي ودفاتري أولاً في حقيبة نزوحنا، محاولةً الدراسة والتركيز بشتى الطرق والوسائل، لكن الأمر كان صعباً للغاية في ظل الاكتظاظ الهائل في الصف المدرسي، والقيام بأعباء تعبئة المياه والوقوف على طوابير الحمامات لساعات
تقول رنين: "بعد فترة، سمعنا بانسحاب الجيش من محيط مجمع ناصر الطبي، فخاطر والدي ووالدتي بالذهاب إلى هناك لجلب ما تبقى من حاجياتنا إن كان لا يزال موجوداً. وكانت المفاجأة عندما قدمت لي والدتي كتبي، التي ظننت أنها احترقت أو أُخذت ولن تعود، فشعرت بفرحة عارمة وهممت بتقبيلها ومتابعة دراستي من جديد".
تكرر سيناريو النزوح بين الفينة والأخرى، حتى عادت رنين وعائلتها إلى بقايا منزلهم بعدما تم التوصل إلى هدنة مؤقتة في شهر كانون الثاني/ يناير من العام الجاري. شرعت بالتحضير لاختباراتها بعدما توفر فيها الحد الأدنى من الطعام والشراب، لكن الخوف ظل يلازمها، فالقصف وإطلاق الرصاص لم يتوقفا حتى في ظلال الهدنة.
ولأن غزة لا تعرف الاستقرار، لم يدم حلم رنين طويلاً قبل أن يعود العدوان الإسرائيلي بأشدّ ضراوته، فتوقفت أحلامها الجامعية وعادت رحلة النزوح والمعاناة. كانت الرحلة قاسية وغير عادلة لطالبة تحاول الدراسة في ظروف صعبة.
تقول رنين: "آخر محطات نزوحنا كانت في ميناء غربي محافظة خان يونس، وذقنا المرارة خلال فترة التجويع الممنهج الممارس ضدنا، فلم يكن هناك طعاماً في الأسواق ولا دخول لأي مساعدات، وإن وجدت بعض الأصناف فأسعارها باهظة جداً، فكنا نأكل وجبة واحدة في اليوم، غالباً ما تكون حساء العدس المسلوق بالماء فقط مع رشة ملح". خلال هذه الفترة فقدت رنين التركيز مع نقص الفيتامينات والمعادن التي يحتاجها الجسم، فتوقفت عن الدراسة.

تتابع رنين قصتها: "عندما أعلنت الوزارة أخيراً جدول الاختبارات النهائية، شعرت بخوف كبير، خصوصاً وأنها ستكون إلكترونية. لا مكان آمن في قطاع غزة، فكنت أتساءل: أين سأتقدم للاختبارات؟ هل سيكون الإنترنت عالي السرعة؟ وهل سأتمكن من إنجاز دروسي؟ هذه التساؤلات شوشت عقلي".عادت رنين للدراسة رغم القصف المتواصل الذي لم يهدأ لحظة.
السماء تمطر ناراً، بينما تحاول رنين قديح الدخول إلى أول اختبار لها، لكن التكنولوجيا خانتها في اللحظة المصيرية. تقول: "كان من المفترض أن أتقدم لاختبار اللغة العربية في اليوم الأول، لكنني لم أستطع الدخول إلى الموقع الإلكتروني، وحاولت مراراً وتكراراً دون جدوى. شعرت برعب مزدوج في قلبي: رعب الاستهداف وتحول المكان الذي أتواجد فيه إلى ركام ومفارقتي للحياة، ورعب عدم التقدم للاختبار. حتى أعلنّت الوزارة لاحقاً أن هجوماً سيبرانياً أعاق دخول الكثير من الطلبة، فتمَّ تأجيل الاختبار إلى آخر يوم بعد انتظام بقية الامتحانات وفق الجدول".
تشير الإحصائيات بحسب مصدر خاص من المكتب الإعلامي الحكومي الفلسطيني إلى أن الاحتلال الإسرائيلي، منذ 7 تشرين الأول/ أوكتوبر عام 2023 وحتى الآن، ارتكب مجازر بشعة بحق أكثر من 13500 طالب وطالبة، وقتل 830 معلماً ومعلمة وكادراً تربوياً، إضافة إلى اغتيال 193 عالماً وعالمة وأكاديمياً/ةً وباحثاً/ةً، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف وحقوق الطفل. ويهدف هذا إلى تدمير الركائز المدنية الأساسية للمجتمع الفلسطيني وحرمان الأجيال من التعليم، بما يكرّس واقع الجهل والفقر والتهجير القسري، ويشكل جزءاً أصيلاً من مخطط الإبادة الجماعية الشاملة بحق سكان غزة.
شعرت برعب مزدوج في قلبي: رعب الاستهداف وتحول المكان الذي أتواجد فيه إلى ركام ومفارقتي للحياة، ورعب عدم التقدم للاختبار.
وفي نهاية الطريق، لم تبقَ من الذاكرة المدرسية إلا رنين قديح وقليلات مثلها، أما البقية فغادرن مقاعدهن إلى الأبد. تقول رنين: "معظم زميلاتي في مقاعد الدراسة استشهدن في هذه الإبادة الجماعية الدامية، وفارقن الحياة قبل تحقيق حلمهن".
دروس تحت النار...وذاكرة على الركام
من جهته، يشير معلم الثانوية العامة في وزارة التربية والتعليم، محمد البحيري، إلى أن العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة أثر بشكل كبير على سير العملية التعليمية. فقد دُمّرت المدارس بالكامل، وتحولت بعضها إلى مراكز لإيواء النازحين، بينما اضطر الطلاب إلى التنقل من مكان لآخر عدة مرات. كما واجه المعلمون ظروفاً قاسية انعكست على انتظام الدراسة واستقرار الطلبة، ما أدّى إلى شلل كبير في المؤسسات التعليمية وعجزها عن أداء مهامها بكفاءة.
لم تكن التحديات التعليمية في غزة مجرد تفاصيل يومية، بل حرباً أخرى تُخاض خلف جبهات القتال، بسلاح الإنترنت الشحيح والكهرباء المنقطعة. كما أثرت الحالة النفسية المرهقة جداً على الطلاب والطالبات، الذين عاشوا/ن تحت القصف وويلاته، فمنهم/ن من أصيب/ت أو فقد/ت جزءاً من جسده/ا، ومنهم/ن من فقد/ت عائلته/ا بأكملها، ومنهم/ن من انغمس/ت في توفير متطلبات الحياة. هذه العوامل مجتمعة خلقت ضغطاً نفسياً هائلاً أثر على تركيزهم واستقرارهم الاجتماعي والعاطفي والتعليمي.
تشير الإحصائيات إلى أن الاحتلال حرم أكثر من 785 ألف طالب وطالبة و25 ألف معلم ومعلمة، منذ 7 تشرين الأول/ أوكتوبر عام 2023 وحتى الآن، من حقهم/ن في التعليم للعام الثالث على التوالي، خصوصاً في المراحل الأساسية. ويعود ذلك إلى التدمير شبه الكامل للبنية التحتية التعليمية، إذ تضررت 95% من مدارس غزة وتحتاج معظمها إلى إعادة بناء، فيما تعرض 80% من المباني المدرسية للقصف المباشر، بينها 163 مؤسسة تعليمية دُمّرت كلياً. كما استُهدفت مدارس تحولت إلى ملاجئ للنازحين.
ورغم الحصار والتدمير، حاولت بعض المؤسسات الشريكة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التعليم بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم لضمان استمرار العملية التعليمية. ومن أبرز هذه المؤسسات: اليونيسيف، ومؤسستا النيزك وتامر، حيث قامت برعاية العديد من المبادرات المجتمعية المقامة في خيام أو في صفوف مصنوعة من الصفيح، بالإضافة إلى استمرار التعليم الإلكتروني عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وساهمت هذه الجهود إلى حد ما في تعويض جزء مما فُقد من العملية التعليمية.




























