"مرام... حبيبتي..." جاء الصوت هادئًا، صوت لم تسمعه منذ عامين، كان يعبر عن الأمان والفرح المكبوت. دُهشت، وتلعثمت كلماتها بينما ردّت بصوت باكي: "علاء... اشتقتلك... غبت عنا كثير."
تلك المكالمة كانت بداية رجوع الحياة إلى قلبها المنكسر، وبداية لحكاية الصمود التي ترويها اليوم.
امرأة واجهت الغياب والحرب
مرام السراج، 34 عامًا، زوجة الأسير المحرر علاء السراج، البالغ من العمر 34 عاماً، كانت قد نزحت إلى الدير مع أولادها الخمسة عند اعتقال والدهم أثناء نزوحه على حاجز "نيتساريم" الذي يفصل شمال غزة عن جنوبه بداية كانون الأول/ ديسمبر عام 2023، ومنذ تلك اللحظة حملت مرام على كاهلها أعباء الغياب لوحدها مع أطفالها، بلا أي مقومات حياة، تكافح لتوفير الحليب والطعام والشراب لأولادها الصغار: ماريا ومريم، 6 سنوات، سلمى، 5 سنوات، ومحمد وأدهم، سنة واحدة.
تقول مرام: " عشت أيامًا قاسية من النزوح والخوف والقصف، تعرضت لفترة طويلة من الاكتئاب وكنتُ أحتضن أطفالي ليلًا خوفًا عليهم من الموت، عشتُ بلا قلب خلال اعتقال علاء، غارقةً في الحزن والقلق عليه." ظلت مرام تنتظر أخبار زوجها، حتى كانون الثاني/يناير عام 2024 حين جاءها خبر من صديقه صالح وهو أسير محرر يؤكد أن: "علاء بخير."
على الرغم من كل ما تعرض له علاء داخل السجون، خرج قويًا وعزيمته لم تضعف. وعن لقاء أولادها بوالدهم لأول مرة بعد غيابه الطويل، تقول: "بنتي سلمى، عمرها 7 سنوات، كانت معشوقة والدها ودخلت في حالة اكتئاب عندما كان في المعتقل. كانت تحكيلي: "ما بدي آكل لأنه بابا ما بياكلش، لأنه بيتعذب عند إسرائيل"، فجأة لما شافت أبوها، صارت تبكي وتقول له: "إنت طولت، أنا اشتقتلك كثير." ظنَّ محمد الصغير أن والده خرج مشوار وسيرجع، أما أدهم فكان صغيرًا جدًا ولم يكن يدرك ما يحدث. ولا زال أطفال مرام يخشون على والدهم حتى بعد خروجه من السجن.
وتشير إلى أن زوجها عندما رأى أولاده يمشون أمامه، لم يتعرف عليهم لأنهم كانوا صغارًا جدًا وقت اعتقاله، خاصة أدهم الذي لم يكن مدركًا لما حدث. في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2025، أفرجت إسرائيل عن نحو 2000 أسير وأسيرة فلسطينيين/ت، من بينهم قرابة 1700 معتقل من قطاع غزة. تم احتجازهم خلال الحرب أو بعدها، إلى جانب نحو 250 معتقلًا من الضفة الغربية محكومين/ت بالسجن لفترات طويلة. وبين من شملهم الإفراج، كانت هناك معتقلتان فلسطينيتان أيضًا. خرج مئات الأسرى الفلسطينيين/ات من سجون الاحتلال إلى غزة وسط دموع الفرح والوجع، حيث احتضنتهم عائلاتهم بعد سنوات من الغياب والانتظار. كان المشهد مزيجًا من الصمود والألم، يعكس قوة الروح رغم آثار التعذيب والدمار.
وفقًا لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، كان عدد الفلسطينيين/ات المحتجزين/ات في سجون إسرائيل قبل الصفقة يُقدَّر بـ حوالي 11 056 معتقلًا/ةً، منهم نحو 3500 معتقل ومعتقلة دون محاكمة رسمية. و قتلت حرب إسرائيل على غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 68159 مدني منهم 12400 امرأة و18592 طفل الى جانب عشرات الألاف من المفقودين منهم على الأقل نحو 5000 طفل وامرأة حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
" عشت أيامًا قاسية من النزوح والخوف والقصف، تعرضت لفترة طويلة من الاكتئاب وكنتُ أحتضن أطفالي ليلًا خوفًا عليهم من الموت، عشتُ بلا قلب خلال اعتقال علاء، غارقةً في الحزن والقلق عليه."
عاد لها ابنها كفيفاً
أمال أبو الفول، امرأة في الستين من عمرها، وأمٌّ لتسعة أبناء وبنات، بينهم محمود، الأسير المحرر، الذي ظلّ لسنوات طويلة محور اهتمامها وقلقها، خاصةً وأنه كان المدلّل والمفضّل لديها. محمود، البالغ من العمر 28 عامًا، خرج مؤخرًا ضمن صفقة تحرير الأسرى بعد عامين من الاعتقال القاسي، لكنه عاد فاقد البصر نتيجة التعذيب الشديد الذي تعرّض له.
لم تتعرّف الأم على ابنها عند خروجه من السجن لأول مرة بسبب التغيرات الجسدية الكبيرة التي طرأت عليه بفعل التعذيب.
اعتقال محمود الأخير كان بتاريخ 27 كانون الأول/ديسمبر عام 2023 خلال نزوحه في مستشفى كمال عدوان في شمال غزة، حيث اقتحم جيش الاحتلال المستشفى واعتقل كل من فيه لرفضهم النزوح إلى الشمال.
هذه ليست المرة الأولى التي يتعرّض فيها محمود للاعتقال، فقد اعتُقِلَ لأول مرة عام 2010، حين كان قاصرًا يبلغ من العمر 16 عامًا فقط. في ذلك الوقت، كان عائدًا من علاج في أحد مستشفيات الضفة الغربية المحتلة، عبر حاجز بيت حانون الذي يسيطر عليه الاحتلال. وقد أصيب سابقًا في قدمه نتيجة إطلاق نار من جنود الاحتلال أثناء مشاركته في مظاهرة سلمية احتجاجًا على جرائمهم.
أمل بالعودة
فيما تروي آمنة حمدونة، 30 عامًا، زوجة الأسير المحرر عبد الحميد حمدونة 30 عامًا، وأم لأربعة أطفال، أكبرهما عمر ويامن، 12 و13 عامًا، لحظة اعتقال زوجها وما تبعها من معاناة امتدت لأشهر طويلة بين الخوف والانتظار حتى خروجه من السجون الإسرائيلية حرًا طليقًا والتي اعتبرتها بمثابة ولادة جديدة لها.
تقول آمنة حمدونة: "في العشرين من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2023، كنا نازحين من شمال قطاع غزة إلى الجنوب، عبر ما يسمى بـ«الممر الآمن» عبر حاجز "نتساريم"، نادى الجنود على عبد الحميد بالاسم. في تلك اللحظة، شعرت آمنة برعب وقلق شديدين، تعود بذاكرتها لتلك اللحظة: "وقفت أترقّب خروجه مع أولادي الذين رفضوا التحرك من المكان وبكوا بحرقة، مصرّين على البقاء إلى جانب والدهم."
تتابع آمنة بصوت تخنقه الذكريات: "انتظرت ساعات طويلة على الحاجز حتى آخر النهار، لكن عبد الحميد لم يعد. فقدت الأمل في رؤيته مجددًا، ومنذ ذلك اليوم لم أشاهده إلا لحظة خروجه من الأسر."
بعد فترة من الاعتقال، علمت آمنة عبر الصليب الأحمر أن زوجها نُقل إلى سجن النقب، وأنه يعاني من أمراض جلدية وتسمم نتيجة الإهمال الطبي وسوء المعاملة. وتوضح: "عرفنا أنه كان يتعرض للتعذيب أثناء العلاج، وتواصلنا مع مؤسسة الضمير الحقوقية التي بدورها تابعت حالته مع الصليب الأحمر. كل ما كنا نعلمه آنذاك أنه لا يزال على قيد الحياة، لكن تفاصيل وضعه الصحي كانت غامضة تمامًا، إذ كنا نعتمد على ما ينقله لنا الأسرى المحرَّرون الخارجون من السجون."
تصف آمنة لحظة فقدانها لزوجها بأنها كانت لحظة ضياع: "عندما أخذوا عبد الحميد عند الحاجز، شعرت أنني تائهة لا أعرف إلى أين أذهب ولا أي وجهة أسلك. لم يكن هناك من يعينني سوى طفليّ عمر ويامن، اللذين تحملا المسؤولية رغم صغر سنهما. كانا يجلبان الماء، ويشعلان الحطب، ويذهبان إلى السوق، متكفلين بكل أعباء النزوح. كبر أبنائي قبل أوانهم، وكانا يرددان دائمًا: نحن مكان بابا حتى يعود."
فيما تشير: "كان من المفترض أن يكونا في المدرسة، يدرسان ويلعبان مثل باقي الأطفال، لكن الحرب وغياب والدهما غيّرا كل شيء، حمّلاهما أعباء تفوق عمريهما. كنت أحتضنهما أثناء القصف لأشعرهما بالأمان، وأخبرهما أن والدهما سيعود قريبًا."




























