تخيّلوا أن ينتقل الجمهور إلى خشبة المسرح ليعيش تجارب النساء المعنّفات، أو يشعر بما تختبره لاجئة، أو يدخل عالم عمالة الأطفال! طريقة صادمة ومباشرة لفهم معاناة النساء والفئات الأضعف في المجتمع.
هذا بالضبط ما تفعله الفنانة والممثلة السورية إيمان59 عاماً، من خلال المسرح التفاعلي. ابنة مدينة السويداء، التي التقيتها صدفةً في ورشة حوارية بدمشق، كانت تتحدث عن عملها في ردم الهوة بين أبناء الوطن الواحد، كانت كلماتها تنساب بعفوية صادقة، ولهجتها المحبّبة تدلّك فوراً على بيئتها الجميلة، فيما شعرها المنسدل على كتفيها بدا وكأنه امتدادٌ لحضورها الدافئ.
مع إيمان، تجد نفسك أمام سنبلة قمح. لا تحتاج إلى مقدمات أو بروتوكولات لتتواصل معها. هي ببساطة، كالماء: واضحة، غنيّة، وطيبة
أسّس المسرحي البرازيلي أوغستو بوال ما يُعرف بـ"مسرح المقهورين" أو "مسرح المنتدى"، حيث يشارك أصحاب القضية أنفسهم في عرض مشاكلهم بدلاً من الممثلين. يشترط بوال أن تكون الحلول المطروحة واقعية وغير عنفية، وأن يؤدي الجمهور دور المقهور لا القاهر، وأن تُبنى المسرحية من روايات الناس. بهذا، نقل بوال النقاش من حيّز الفكر إلى الواقع، داعياً المشاركين إلى معايشة القهر لفهمه والتفاعل معه بصدق.

إيمان ناشطة مدنية وعضوة في الحركة السياسية النسوية السورية، وعضوة مؤسسة في منظمة "نحنا قدها" في السويداء، إلى جانب مشاركتها في عدد من المبادرات المجتمعية. وجدت في الشأن العام مكانها الطبيعي، وكنسوية آمنت بأن المسرح يمكن أن يكون وسيلتها في التأثير، فتطوّعت في العمل المدني وكرّست تجربتها المسرحية وعملها التمثيلي لتحويل الخشبة إلى مساحة لتفريغ الواقع وعرضه كما هو. تقول: "لنفعل ذلك هنا على الأقل، لنناصر على الخشبة القضايا السياسية والاجتماعية، فالمسرح أداةٌ للتغيير".
تتابع: "وجدتُ نفسي مهتمةً بالشأن العام الذي يمسُّ حياتنا في كلّ تفصيلةٍ، فهنا تُقتل فتاةٌ لأنها تزوّجت دون إرادة أهلها، وهنالك عائلة تحرم بناتها من الإرث لأن الأرض يجب أن تكون فقط للذكور، وفي مكانٍ ما هناك بيتٌ للمقاطيع تعيش فيه النساء اللواتي ترمّلن أو تطلّقن، فلا بيت لهنَّ إلا ذاك البيت، وشبابٌ هنا وهناك يعيشون وهم البطولة عبر وسائل التواصل، فيستخدمونها للابتزاز الجنسي والإلكتروني، ما يؤدي إلى الانتحار أحياناً".
إلى جانب نشاطها المدني، شاركت إيمان في عدد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية، من أبرزها في السينما: اللجاة (1993) والطحين الأسود (2001)، وفي التلفزيون: بنت الضرة (1997)، أزهار الشتاء (1999)، سحر الشرق (2001)، حد الهاوية (2002)، والخربة (2011).
المسرح التفاعلي يعالج قضايا متنوعة
تحلم إيمان بمسرح يمتدّ إلى كلّ أنحاء سوريا، وتعمل حالياً على تحقيق هذا الحلم، تقول إيمان: "المسرح يمكن أن يساعد السوريين والسوريات على تجاوز ما مرّوا به من مصاعب، وخاصة النساء، اللواتي يجب أن تُسمع أصواتهن في سبيل الوصول إلى العدالة وانتزاع الحقوق كاملة". ترى إيمان في المسرح وسيلةً حيّة للتعبير، تُمكّن الإنسان من أن يشارك في القصة وفي التغيير، على خشبة صغيرة، تمهيداً لتغيير أكبر على خشبة الحياة نفسها.
تؤمن بلان أيضاً بقوة التواصل اللاعنفي من خلال الفن، حيث يُستخدم المسرح للتعبير عن المشاعر والاحتياجات بطريقة خالية من العنف، مما يُعزّز التفاهم والتعاطف داخل المجتمعات. فبدلاً من بناء حواجز، يسعى هذا الفن لبناء جسور، عبر استكشاف القضايا الإنسانية بأساليب إبداعية تُقرّب بين الأفراد وتفتح المجال للتغيير.
عملت إيمان عام 2019 مع فريق منظمة "فجّة خرق" كمدرّبة في المسرح التفاعلي، من خلال عروض تناولت قضية قتل النساء بذريعة "الشرف". تصف هذه التجربة: "إنها قضيتي الأهم في مسيرة عملي، فالنساء يُقتلن كلّ يوم في بلادنا، على اختلاف الانتماءات والعقائد. ورغم إلغاء بعض القوانين التي كانت تتيح ذلك، لا يزال المجتمع يبحث عن أي ثغرة ليفرض وصايته ويتحكم بحياة النساء".
لا يشترط المسرح التفاعلي وجود ممثلين وممثلات محترفين/ت، فصاحب أو صاحبة القضية هو/ هي البطل/ ة الحقيقي. وحدهم من عاشوا التجربة قادرون على إيصالها بصدق، وعلى مناصرتها بمشاركة الجمهور، الذي لا يبقى متفرّجاً بل يتحوّل إلى شريك فاعل في طرح القضية، وتقييمها، والبحث عن حلول تُمهّد الطريق نحو تغيير حقيقي وسلام مستدام في الحياة.
"وجدتُ نفسي مهتمةً بالشأن العام الذي يمسُّ حياتنا في كلّ تفصيلةٍ، فهنا تُقتل فتاةٌ لأنها تزوّجت دون إرادة أهلها، وهنالك عائلة تحرم بناتها من الإرث لأن الأرض يجب أن تكون فقط للذكور، وفي مكانٍ ما هناك بيتٌ للمقاطيع تعيش فيه النساء اللواتي ترمّلن أو تطلّقن"
من خلال المسرح، عبّرت إيمان عن الصراع الداخلي الذي تعيشه المرأة، وعن تأثير المجتمع العنيف على مسار حياتها، حيث تبقى محكومة بثلاث كلمات: الحب، الزواج، والموت.
وعن قضية ما يدعى بـ"غرفة المقاطيع"، عملت إيمان على معالجتها من خلال إشراك المجتمع في تفاصيل حياة النساء، ودعوتهم لتبادل الأدوار، ليشعروا كما تشعر النساء، ويحاولوا التغيير. تقول: "حاولنا معالجة قضية غرفة المقاطيع، هذه العادة المنتشرة في بعض المدن السورية، والتي تُمنح فيها المرأة المطلّقة أو التي تعود إلى بيت أهلها بعد الانفصال، مكاناً صغيراً بالكاد يصلح للعيش، بديلاً عن حقها الحقيقي في السكن بحسب القانون. كان ذلك في عام 2020 مع فريق "We Do"، وكان تفاعل الحاضرين/ ات مذهلاً. استطعنا من خلال الفقرات المسرحية إشراك النساء والرجال في مواجهة هذا الواقع، على الأقل على خشبة المسرح".
وقد تركت هذه المسرحيات التفاعلية أثراً بالغاً في كثير من المناطق، حيث عبّر الجمهور عن سخطه من هذه العادات البالية، وعن قراره بمواجهتها ورفضها.
ولم تغب قضايا النساء السوريات اللاجئات عن عمل إيمان، فخصّصت جزءاً كبيراً من عملها المسرحي التفاعلي لتسليط الضوء على معاناة اللاجئات: من تحديات البيئة والقوانين، إلى قضايا الأطفال، ولمّ شمل العائلات، والحفاظ على الكينونة والهوية، وصولاً إلى دعم النساء لمناصرة قضاياهن بأنفسهن.
تقول: "عام 2022 عملت مع منظمة" تستقل" في تنفيذ عمل مسرحي تفاعلي مع لاجئات سوريات في مدينة أورفا التركية، وتناولنا قضايا المرأة اللاجئة بشكل مباشر. ثم تابعت العمل مع المنظمة كمدربة ضمن برنامج هام، كان المسرح التفاعلي جزءاً أساسياً منه، وقدّمنا من خلاله أربعة عروض في الشمال السوري، لاقت تفاعلاً كبيراً، حتى من الرأي العام".
من جهة أخرى، خصّصت إيمان جانباً من عملها مع اليافعين واليافعات، ففي عام 2023 تعاونت مع منظمة "نحنا قدها" لتنفيذ عروض مسرحية تناولت قضايا حساسة تواجه هذه الفئة، مثل التنمّر والابتزاز الإلكتروني، وما قد تقود إليه من نتائج مأساوية كالاكتئاب أو حتى الانتحار.
كما عملت على قضايا متعددة تمس الفئات الأكثر تهميشاً، مثل حقوق الأشخاص ذوي وذوات الإعاقة وغياب تمثيلهم/ ن في مجالات الحياة المختلفة، وقضية التسرّب الدراسي وخاصة لدى الطفلات، إلى جانب قضية البطالة وندرة فرص العمل التي تدفع بالشباب والفتيات نحو الهجرة، بالإضافة إلى قضايا التماسك المجتمعي والسلم الأهلي.
تؤمن إيمان بأن المسرح ليس مجرد خشبة، بل وسيلة للحياة والتعبير، وكلما شارك الإنسان في سرد الحكاية والسعي نحو التغيير على هذه الخشبة الصغيرة، اقترب خطوة من التغيير الأكبر على خشبة الحياة نفسها.




























