هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
في الجزائر، الحديث عن الجنسانية يعني أولًا مواجهة فراغ _فراغ إحصائي ومؤسسي ورمزي. تقول الدكتورة خديجة بوسعيد، الباحثة في علم الاجتماع في مركز البحث في الاقتصاد التطبيقي من أجل التنمية (CREAD) بجامعة الجزائر: "على عكس دول أخرى، لا نملك أي مسح وطني حول الجنسانية."
وتضيف الباحثة، التي تشغل أيضًا عضوية مشاركة في مركز دراسات الجندر بجامعة لوزان في سويسرا:
"المكتب الوطني للإحصاء يقيس الاستهلاك، والعمل، والسكن… ولكن ليس الجنسانية."
غياب هذه البيانات ليس تفصيلاً؛ بل يعكس تابو سياسيًا وأخلاقيًا يحصر الجنسانية في وظيفتها الإنجابية.
الجنسانية: مجال علمي غير مستكشف للآن

لتسليط الضوء على هذا النقص، تشير الدكتورة بوسعيد إلى بعض الأعمال القليلة التي حاولت كسر هذا الصمت.
في ثمانينيات القرن الماضي، نشرت السوسيولوجية فاطمة وسّديك وعدد من الباحثات كتاب المرأة والخصوبة في المناطق الحضرية، وهو عمل رائد حول وسائل منع الحمل وتنظيم الأسرة، تناول قضايا الجنسانية ضمن سياق التحكم السكاني.
ثم مهّدت شخصيتان كبيرتان الطريق للتفكير في "الجنسانية الحميمة" في المغرب العربي، كما تقول بوسعيد، التونسي عبد الوهاب بوحبيدة في كتابه المجتمع المغاربي ومسألة الجنسانية (1984)، الذي يحلل العلاقة بين الدين والاستعمار والجسد الاجتماعي. ثم الأنثروبولوجي الجزائري مالك شبل في روح الحريم (1988)، الذي حلل التابوهات والمناطق الرمادية للرغبة.
مؤخرًا، في عام 2023، نشر الطبيب النفسي فريد قاشا كتاب ذاك الشيء…، حيث يستكشف الجنسانية عند تقاطع البيولوجيا وعلم النفس عبر حالات سريرية، مشيرًا إلى غياب اختصاص علم الجنس في الجزائر. تقول بوسعيد: "عنوان الكتاب نفسه يختصر حجم التابو حول تسمية الجنسانية."
ورغم هذه الأبحاث، يبقى الفراغ العلمي قائمًا. تضيف بوسعيد: "لا توجد دراسات موجهة حول الجنسانية في الجزائر، بل فقط دراسات حول الصحة الإنجابية."
فمسح المؤشرات المتعددة (MICS) يتناول الخصوبة ووسائل منع الحمل، لكنه يتجاهل المتعة والرغبة والحميمية.
هذا أيضًا فراغ سياسي: فهو يحدد حدود ما يمكن للمجتمع الاعتراف به: الإنجاب؟ نعم، بينما المتعة؟ لا.
هذا أيضًا فراغ سياسي: فهو يحدد حدود ما يمكن للمجتمع الاعتراف به: الإنجاب؟ نعم، بينما المتعة؟ لا.
أول مسح حول الجنسانية في الجزائر قيد الإنجاز
في عام 2021، قررت خديجة بوسعيد كسر الصمت. بالتعاون مع الأخصائي النفسي بوقرعة عيسى، أطلقت أول مسح كمي حول الجنسانية في الجزائر: الجنسانية وعلاقات الجندر في الجزائر. شارك ما يقرب من 900 شخص في مشروعٍ غير معهود، لا يزال جاريًا ولم يُنشر بعد. تشرح بوسعيد: "سوسيولوجيًا، نحن لا نتحدث عن جنسانية واحدة، بل جنسيانيات: ظاهرة فردية واجتماعية، ذهنية وجسدية في الوقت نفسه."
النتائج الأولية تقلب العديد من المسلّمات:
- 55% من المشاركين والمشاركات يرون/ن أن الجنسانية لا تعتمد على الزواج.
- 56% يرون/ن أنها مصدر متعة أولًا.
تكشف هذه الاتجاهات عن تحول صامت في التصورات. وتشدد الباحثة: "الجنسانية لا تبدأ بالزواج، بل بالخيال. بمجرد أن نشعر بالرغبة، نصبح كائنات جنسية."

في بلد لا تزال مؤسساته تتجنب دراسة هذه القضايا، يظهر المسح أن ما نعتبره واقعًا ليس سوى "خيال اجتماعي: "فخلف الصمت، يعيش المجتمع بشكل مختلف بالفعل". تضيف بوسعيد: "نحن نتحدث عن عزوبية النساء، وليس الرجال."
في بلد لا تزال مؤسساته تتجنب دراسة هذه القضايا، يظهر المسح أن ما نعتبره واقعًا ليس سوى "خيال اجتماعي: "فخلف الصمت، يعيش المجتمع بشكل مختلف بالفعل".
لكن كلاهما يشهد تحولًا متوازيًا: فمنذ 1966، ارتفع سن الزواج الأول:
- من 18 إلى نحو 30 عامًا للنساء
- ومن 23 إلى 33–35 عامًا للرجال
هذا التأخر لا يعكس رفضًا للعلاقات أو الجنسانية، بل تغييرًا في الإيقاعات والتوقعات. "لقد أعادت النساء ضبط ساعاتهن الاجتماعية وبالتالي البيولوجية."
فهن يدرسن أكثر، يعملن أكثر، ويؤجلن الزواج دون التخلي عن الحب أو الرغبة. أما الرجال، فيواجهون أزمة "نموذج المعيل: "يريدون الاستمرار في توفير السكن والدخل والاستقرار، لكن الأمر يصبح أصعب."
هكذا يعيد الأزواج ابتكار حياتهم خارج الأطر المؤسساتية، في سرية غالبًا، بخوف أحيانًا، وبموازنة هشة دائمًا بين الحرية والقيد.
العيش كزوجين خارج الزواج
آسيا، 36 عامًا، تستقبلني في شقتها الصغيرة المرتبة في شارع هادئ بوسط الجزائر. هي في علاقة مستقرة منذ ثلاث سنوات بدون زواج.
تقول: "في البداية، كان الأمر مرعبًا. كنت خائفة من الحمل، ومن الحكم، ومن أن ينهار كل شيء إذا عرف أحد بعلاقتنا. كنت أظن أن الزواج فقط هو الذي يحميني."
مع الوقت تراجع الخوف، وحلّ مكانه نوع من التوازن. يعمل الشريكان وفق "كود صامت"، إشارة صغيرة تكفي ليفهم أحدهما أن على الآخر استقبال العائلة هذا اليوم، فيتفادى الحضور. "هذه طريقتنا للحفاظ على السلام مع الجيران. تعلمنا أن نعيش بين السطور."
تتحدث آسيا اليوم عن الاختيار: "علاقتي تناسبني لأنها تحترم حريتي. أستطيع العمل حتى وقت متأخر، والسفر، واتخاذ قراراتي. لست ضد الزواج، لكني أرفض أن يُعرّفني. همّي الوحيد هو رغبتي في الأمومة: لا أريد الزواج فقط لإنجاب طفل ثم الطلاق."
علاقتي تناسبني لأنها تحترم حريتي. أستطيع العمل حتى وقت متأخر، والسفر، واتخاذ قراراتي. لست ضد الزواج، لكني أرفض أن يُعرّفني
تقول إن شهادتها مشتركة بين العديد من صديقاتها: جيل لا يرفض العلاقات ولا الجنسانية، بل يعيد تعريف الحب.
في مجتمع حيث كل شيء مقنّن، الحياء، الشرف، العيب، تصبح الرغبة شكلًا من أشكال التمرد الحميم.
والحميمي، تذكّرنا بوسعيد، هو دائمًا سياسي.
"الجنسانية تتشكّل عبر الصور والكلمات والأصوات. السينما، الموسيقى، الخطب الدينية، والإعلانات، كلها تشكل خيالنا."
الحب رغم الوصمات المتعددة
تنضم إلينا نادية لاحتساء القهوة، فتضيف قطعة جديدة إلى قصة آسيا.
بشعرها الأسود الطويل وملابسها الزاهية بالأزرق الفيروزي والأصفر وحذائها الطبي، تدخل نادية متكئة على عكاز يشبه صولجانًا في يدها، بطاقةٍ تكسر الصمت من حولها. تسبقها ضحكتها العالية قبل أن تنطق بكلمة. ناشطة على الإنترنت، تردّ على الشهادات بسخرية لاذعة تحوّلت مع الوقت إلى شكلٍ من أشكال مقاومتها. تقول: "عندما يمارس الرجال الجنس خارج الزواج، يبرر الناس ذلك بأنهم لا يستطيعون الزواج مع أن المتزوجين أيضًا يخونون. ودائمًا الذنب على النساء: لسنا تقيات، ولسنا محترمات. نصبح ‘الخارجات عن الطريق’".
تشكو من عجز الناس عن الاعتراف باحتياجاتهم العاطفية والجنسية. ثم يلين صوتها: "مع إعاقتي، أنا موصومة مرتين. عندما يريد رجل أن يأخذ العلاقة خطوة أبعد، ترفض أمه. أدركت أن العلاقة لا تعتمد على من أكون، بل على ما يرونه."
في عمر 39، تفضّل نادية العلاقات الافتراضية: "أسهل، أحيانًا محببة، وقبل كل شيء أقل إذلالًا."
لكن الخط الفاصل بين الرغبة والعنف رفيع: "كثيرًا ما يريدون فقط الحديث عن الجنس، حتى لو لم يعرفوني. بعضهم يستغل إعاقتي للضغط عليّ كي أرسل صورًا أو أقول أشياء لا أريد قولها."
بعد دقائق، تتصل آسيا بصديقتهما إيناس، 27 عامًا، وهي أيضًا من ذوات الإعاقة. في المكالمة تقول إيناس:
"منذ تخرجي، بالكاد أخرج من البيت. أنا معتمدة على والديّ. الإنترنت نافذتي للعالم. أبحث عن أشخاص أتحدث معهم، وأحيانًا أكثر… لكن غالبًا ما تنتهي الأمور بشكل سيء. تعرضت للابتزاز مرتين بسبب مراسلات حميمية".
تضيف: "في المرة الأولى، ظننت أنه خطئي. في الثانية، أدركت أن السبب لأنني امرأة و‘لا أحد سيقبلني في الواقع’".
لذلك أصبحت تخفي إعاقتها في مواقع المواعدة. "بمجرد أن أذكر الكرسي المتحرك، يحظرني معظمهم."
تضحك إيناس: "المثير للدهشة أنني أرى العديد من الرجال ذوي الإعاقة على فيسبوك يضعون إعلانات زواج. يبحثون عن امرأة‘ صالحة وجادة في حدود الشريعة’… والجميع يهنئهم. لكن عندما تجرؤ امرأة على قول إنها تريد أن تحب أو تُحب، يحكمون عليها فورًا. وكأن مجرد التعبير عن رغبتنا هو قلة الحياء."
تؤكد خديجة بوسعيد أن هذه القصص ليست هامشية:
"الأشخاص ذوو الإعاقة، خصوصًا النساء، من الأكثر إقصاءً من المجال العام. لكن الرقمنة ووسائل التواصل الاجتماعي توفر لهن ولهم دخولًا رمزيًا لهذا المجال: يمكنهن/م الوجود، تبادل الأفكار، والرغبة، ولو أن العالم الافتراضي ما زال خاضعًا لنفس موازين القوة."
رقمنة الحميمية: ملاذ وساحة معركة
لقد أعادت وسائل التواصل تعريف العلاقات، تتيح تجاوز التابوهات العائلية، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن ديناميات جديدة من السيطرة.
اللقاءات باتت تحدث عبر إنستغرام وسنابشات وفيسبوك، غالبًا بأسماء مستعارة، داخل عالم سري تُعاد فيه صياغة الإغواء والرغبة والحميمية، وتُصنع فيه أيضًا أدوات جديدة للتحكم.
يوفر الإنترنت حرية تعبير غير مسبوقة، خصوصًا للنساء المهمّشات بسبب العمر أو الوضع الاجتماعي أو الإعاقة. لكنها حرية هشة، فالعالم الافتراضي يعيد إنتاج، بل يضخّم، الهرميات الجندرية والاجتماعية.
في الجزائر، لم تُلغِ التكنولوجيا التابوهات؛ بل نقلتها إلى مكان آخر.
خلف صورهن الرمزية، تستمر النساء في التفاوض على حقهن في المتعة، محاصرات بين رقابة أخلاقية، ورغبة في الاستقلال، وحاجة للاعتراف. العالم الافتراضي ليس ملجأً… بل ساحة معركة حميمية.
لقد أعادت وسائل التواصل تعريف العلاقات، تتيح تجاوز التابوهات العائلية، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن ديناميات جديدة من السيطرة
أصوات النساء ذوات الإعاقة: بين تقدير الذات والعنف
في مكتبها بالعاصمة، تتذكر سعاد* رئيسة جمعية للأشخاص ذوي الإعاقة، لحظة عام 2023 حين قررت هي أيضًا كسر التابو والبحث في جنسانية النساء ذوات الإعاقة.
"نتحدث عن الاستقلالية الوظيفية، لكننا لا نتحدث أبدًا عن الاستقلالية العاطفية والجنسية. ومع أن هؤلاء النساء لديهن نفس الاحتياجات، نفس الرغبات، نفس الحقوق."
كشفت الأنشطة التي نُفذت ضمن المشروع عن جرحين عميقين، أولاً تقدير الذات، تروي العديد منهن قصص حبهن كاختبارات للحصول على "قبول". "لقد قبل إعاقتي…" جملة تتكرر، ممتزجة بالامتنان والاستسلام.
فالرغبة لديهن تطاردها فكرة موجعة، من سيقبل بجسد يعتبرونه ناقصًا؟هكذا يصبح الحب منّة، لا حقًّ.
ثانياً، العنف والابتزاز الجنسي، تعرّضت بعضهن للاستغلال من شركاء تذرعوا بـ"المساعدة" أو "الشفقة".
أخريات تعرضن للابتزاز العاطفي والجسدي.
تقول حليمة*، وهي من ذوات الإعاقة: "هذه أشكال من العنف غير مرئية. لا تجرؤ النساء على الكلام خوفًا من خسارة ما تبقى لهن من حرية."
تلاحظ سعاد أيضًا تكرار كلمة "غير طبيعي" التي يستخدمها بعض الآباء لرفض فكرة أن بناتهم يمكن أن يحببن أو يرغبن أو يتزوجن.
تعتبر سعاد أن معركة اليوم واضحة وهي الدفاع عن حق المرأة في أن تبقى امرأة _رغم الإعاقة_ امرأة لها احتياجات ومشاعر ورغبات.
تعتبر سعاد أن معركة اليوم واضحة وهي الدفاع عن حق المرأة في أن تبقى امرأة _رغم الإعاقة_ امرأة لها احتياجات ومشاعر ورغبات.
رغبة النساء كمساحة مقاومة
يظهر عمل خديجة بوسعيد، والشهادات التي جمعتها سعاد، أن رغبات النساء في الجزائر _حقهن في حياة عاطفية وجنسية_ لا تختفي تحت وطأة الأعراف.
إنها تتكيّف… وتقاوم.
من الخاص إلى السياسي، تتكرر فكرة واحدة:
يجب أن يُعترف بالجنسانية كحقّ أساسي، لا كذنب.
تروي إيناس أنه في حفلات الزواج يُقال لبعض النساء:
"إن شاء الله نفرح بيك قريب." أما لها، وهي على كرسي متحرك، فيقولون: "ربي يخليك لوالديك."
حتى يتعلم المجتمع الحديث عن الرغبة بل والحب دون خجل، ستظل الحرية ناقصة، وستستمر الهوامش في تحديد حدودها.
*الأسماء مستعارة
تم إنجاز هذا المقال بدعم المكتب التونسي لمؤسسة "روزا لوكسمبورغ".





























