هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2025، أُفرِج عن عشرين رهينة إسرائيلية كانت تحتجزها حركة حماس، وفي الوقت نفسه أطلقت السلطات الإسرائيلية سراح نحو 250 أسيرًا فلسطينيًا من سجونها. ورغم تزامن الحدثين، انصبّ تركيز معظم وسائل الإعلام الغربية على معاناة الطرف الأول، متجاهلةً الطرف الثاني الذي يفوق عدد ضحاياه أضعافًا مضاعفة.
كيف يمكن تفسير هذا الانحياز الإعلامي في ضوء أطروحتك في كتابك الأخير "الحضارة اليهودية – المسيحية: تشريح زيف تاريخي"، حيث توضّحين كيف حوّل هذا المفهوم، الذي برز في ثمانينيات القرن الماضي، إسرائيل إلى رأس حربة الغرب في قلب الشرق؟
منذ الردّ الإسرائيلي على مجزرة السابع من أكتوبر، بات واضحًا أن الإعلام الغربي السائد جعل من مبدأ "الكيل بمكيالين" قاعدة ثابتة في تغطيته. فعندما يتعلّق الأمر بالأسرى الفلسطينيين، يتجاهل هذا الإعلام أن لكل واحدٍ منهم اسمًا وعائلةً وقصةً وألمًا. حتى الصحف التي تُوصَف عادة بـ"المحترمة" مثل لوموند خصّصت صفحاتٍ كاملة لفرح العائلات الإسرائيلية، من دون أن تُفرد سطرًا واحدًا لنظيراتها في غزة. إنه انحياز فجّ ومؤلم.
أمّا فكرة "الحضارة اليهودية – المسيحية"، فمن المهم التذكير بأن المنظّرين الأوائل للصهيونية - وهي حركة قومية يهودية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر - كانوا مثقفين/ات أوروبيين/ات من أصول يهودية، أبرزهم تيودور هرتزل، صاحب كتاب الدولة اليهودية. كان هرتزل صحفيًا نمساويًا يهوديًا علمانيًا، وقد وصف المشروع الصهيوني منذ بداياته بأنه مشروع استيطاني، قائلاً إن الدولة اليهودية ستكون "متراسًا متقدّمًا للحضارة في مواجهة الهمجية".
لاحقًا، ومع شيوع تعبير "الحضارة اليهودية – المسيحية" بعد ذلك بعقود، أُعيد دمج اليهودية رمزيًا في المنظومة الغربية، ومُحيت جذورها الشرقية. وهكذا غدت إسرائيل تُقدَّم بوصفها قاعدة متقدّمة للغرب في قلب المشرق. وبفضل هذا التماهي الرمزي - الذي يدرك الصحفيون جيدًا قوّته - أصبح يُنظر إلى الإسرائيليين باعتبارهم "غربيين"، بينما يُصوَّر العرب، والفلسطينيون خصوصًا، كغرباء "مشبوهين" أو "مُهدِّدين". هؤلاء يُستقبلون بالتعاطف، وأولئك يُقابلون بالريبة.
والمفارقة أن اليهود أنفسهم كانوا، طوال قرونٍ في أوروبا، يُجسّدون صورة "الآخر" الشرقي الغريب، وهي الصورة التي غذّت معاداة السامية وأفضت إلى إبادة ستة ملايين يهودي على يد النازية.
أما داخل إسرائيل اليوم، فإن اليهود من أصول شرقية (المزراحيم)، رغم ما عانوه من تمييز طويل، تبنّوا في النهاية خطاب الطبقة المهيمنة، تلك ذات الجذور الأوروبية. وهذه مفارقة مألوفة في التاريخ: فالطبقات المقهورة غالبًا ما تستبطن أيديولوجيا الطبقة السائدة، كما أشار ماركس. وهكذا بات معظم الإسرائيليين/ات ينظرون/ن إلى أنفسهم/ن اليوم باعتبارهم/ن غربيين، والغرب بدوره يعاملهم/ن على هذا الأساس.
بصفتك "يهودية عربية"، هل تؤمنين بإمكانية تحقيق سلام دائم بين العرب واليهود في فلسطين؟
لن يكون جوابي بصفتي "يهودية عربية"، بل كمؤرخة. فكلّ الحروب، في النهاية، تضع أوزارها. وحتى هذه الحرب — التي تكاد تتحوّل إلى «حرب المئة عام» — ستنتهي بدورها. لا أعرف كيف سينتهي هذا الصراع، لكنه سينتهي حتمًا إلى شكلٍ ما من أشكال السلام. خوفي الوحيد هو ألّا أعيش لأشهد ذلك اليوم.
ينبغي النظر إلى عاملين أساسيين.
أولًا، أثبت الفلسطينيون، حتى في قلب هذه المأساة الإبادية التي تمثّلها حرب غزة، أنهم متمسكون بأرضهم إلى حدّ تفضيل الموت على الرحيل. لقد تعلّموا درس النكبة: حين غادر كثيرون أرضهم مرة واحدة، اقتُلِعوا منها إلى الأبد. وهم اليوم يرفضون السماح بوقوع نكبة ثانية.
ثانيًا، يتقارب اليوم عدد الفلسطينيين والإسرائيليين ديموغرافيًا؛ فكلاهما يزيد تعداده عن ستة ملايين نسمة. قد يهاجر بعض اليهود، لكن الأغلبية ستبقى. هل هذا الوضع عادل؟ بالطبع لا. لكن وجود هذه الدولة ليس أول "أمر واقع" يفرضه التاريخ. وسيأتي يوم _عاجلًا أم آجلًا _ يُعاد فيه تصحيح هذا الواقع المختل.
أمّا الشكل السياسي للحل، فلا أستطيع التنبؤ به. لم أعُد أؤمن بحلّ الدولتين، إلا إذا نشبت حرب أهلية داخل إسرائيل، لأن المستوطنين وعددهم اليوم نحو 800 ألف في الضفة الغربية والقدس الشرقية لن يغادروا طوعًا. ربما يكون الحل في دولة واحدة، أو اتحاد فدرالي، أو كونفدرالية.
سيأتي يوم عاجلًا أم آجلًا يُعاد فيه تصحيح هذا الواقع المختل.
أما أمنيتي الشخصية فهي قيام دولة واحدة، من النهر إلى البحر، يعيش فيها الجميع، بكل تنوّعهم الثقافي والديني، على أساس المساواة التامة، من دون تفوّق شعبٍ على آخر.
في أيار/مايو 2025، قدّرت هيئة الأمم المتحدة للمرأة أنّ امرأة أو فتاة تُقتَل كل ساعة في غزة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أعلنت الأمم المتحدة واليونيسف أنّ نحو 70% من ضحايا الحرب هنّ من النساء والأطفال. ومع ذلك، نرى بعض النسويات الغربيات _ رغم القيم المفترَض أن يحملنها من تضامن وأخوّة _ يبرّرن هذه المجزرة أو يخفّفن من وطأتها. كيف يمكن تفسير ذلك؟
من البديهي أنه كلما ارتفع عدد الضحايا المدنيين في أي صراع، كانت النساء والأطفال هم الأكثر تضرّرًا. ففي أوكرانيا مثلًا، الحرب تدور بين جيشين نظاميين، ولذا فإنّ الغالبية الساحقة من الضحايا هم من الرجال. أمّا الحرب التي يشنّها الكيان الإسرائيلي على غزة، فهي حرب تستهدف المدنيين بالدرجة الأولى؛ ولهذا تبدو النساء والأطفال في قلب الكارثة.
ومع ذلك، لم تتجاوز كثير من النسويات الغربيات في تعليقاتهن حدّ القول: "لقد ذهبت إسرائيل بعيدًا."
وأردت أن أسألهن: عند أي عدد من القتلى يمكننا القول إن الأمور "ذهبت بعيدًا"؟ خمسون ألف إنسان؟ ستون ألفًا؟
كثيرٌ من النسويات الغربيات هنّ، في نهاية المطاف، غربيات أولًا قبل أن يكنّ نسويات. وقد خيّبت بعضهنّ ظنّي خيبة كبيرة. كنت أكنّ لعدد منهن احترامًا عميقًا، لكنهنّ التزمن الصمت، أو لجأن إلى التبرير، أو اتخذن مواقف أخلاقيًا وسياسيًا ملتبسة لا تليق بقيم العدالة التي يرفعن شعاراتها.
كثيرٌ من النسويات الغربيات هنّ، في نهاية المطاف، غربيات أولًا قبل أن يكنّ نسويات. وقد خيّبت بعضهنّ ظنّي خيبة كبيرة. كنت أكنّ لعدد منهن احترامًا عميقًا، لكنهنّ التزمن الصمت، أو لجأن إلى التبرير، أو اتخذن مواقف أخلاقيًا وسياسيًا ملتبسة لا تليق بقيم العدالة التي يرفعن شعاراتها.
لقد عشتِ نشأة الحركة النسوية التونسية المستقلة أواخر السبعينيات، التي أدّت إلى تأسيس الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات (ATFD) وجمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية. ما الذي بقي من تلك المرحلة؟ ولماذا اخترتِ النضال في الحركة النسوية التونسية بدلًا من النسوية الغربية؟
في الحقيقة، كنتُ دائمًا منخرطة في الحركات النضالية التونسية. وعندما وصلتُ إلى باريس لمتابعة دراستي الجامعية، كانت أول خطوة قمتُ بها هي الانضمام إلى خلية الطلبة التابعة للحزب الشيوعي التونسي — وهو الحزب الذي غادرته لاحقًا بعد بضع سنوات. تابعتُ نضالات النساء في فرنسا باهتمام، غير أنني لم أكن حاضرة هناك في اللحظة التأسيسية للحركة النسوية الفرنسية، إذ كنتُ في تلك الفترة، ما بين 1973 و1975، أعيش في الكاميرون.
شهدتُ ولادة الحركة النسوية التونسية عن قرب، عندما كانت المناضلات الأُوَل يلتقين في نادي الطاهر الحداد. وعندما أُضفي الطابع القانوني على الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات عام 1989، التحقتُ بها فورًا. وأظن أنها بطاقة الانخراط الوحيدة التي احتفظتُ بها منذ مغادرتي الحزب الشيوعي!
هل كان انخراطكِ في الحركة النسوية التونسية نتيجة تجارب تمييز شخصية؟
شخصيًا، لم أعانِ من تمييز داخل عائلتي؛ فقد كان والداي منفتحين وتقدميين. لكننا جميعًا كنّا نعيش، من دون اختيار، داخل مجتمع مشبَع بالذكورية، حتى داخل العائلات اليهودية التي كانت — رغم قدر من الانفتاح — أكثر تحررًا نسبيًا من نظيراتها المسلمة في هذا الجانب.
أتذكّر حادثة بسيطة لكنها معبّرة: كان لجدي وجدتي ثلاثة أبناء، وكلّ واحد منهم أنجب بناتًا فقط. وكان الناس يواسون جدي — أحد وجهاء المدينة — كما لو أنه "بائسًا" لعدم حصوله على حفيد ذكر. وعندما وُلدت أختي، آخر العنقود، لم يكلف موظفو جدي أنفسهم حتى بالصعود لتهنئة والديها؛ اكتفى أحدهم بالقول: "لا بأس!"
ثم حين أنجب عمي صبيًا، تنفّس الجميع الصعداء: "الواريث الذكر ولد أخيرًا!"
أما أمنيتي الشخصية فهي قيام دولة واحدة، من النهر إلى البحر، يعيش فيها الجميع، بكل تنوّعهم الثقافي والديني، على أساس المساواة التامة، من دون تفوّق شعبٍ على آخر.
كبرت وأنا أرى هذا التمييز حاضرًا في كل زاوية من المجتمع التونسي. ربما لم أكن ضحيته المباشرة، لكن تجاهله كان مستحيلًا. لقد كان جزءًا من الهواء الذي نتنشّقه جميعًا.
في مقدمة كتابكِ الشجاعات: خمس تونسيات في التاريخ (دار إليزاد، 2017)، كتبتِ: "منذ أزمنةٍ سحيقة، كانت تونس تستقبل أو تُنجب نساءً حرّات. إن هذا التوق الأنثوي إلى الحرية، وهذه الثورة على الأعراف والعقائد، ليست سلعةً مستوردة…"
كيف تفسّرين هذه الخصوصية التونسية؟
في المجتمعات التقليدية، لا تحافظ الأمهات على مكانتهن الاجتماعية إلا حين يُعدن إنتاج الأيديولوجيا السائدة ويصبحن أدواتها الأكثر فاعلية. كم من فتاة تونسية قالت لي: "أمي لم تكن تريدني أن أذهب إلى المدرسة، وكان أبي هو من أجبرها على القبول بذلك."
لكن إذا نظرنا إلى تاريخ العالم، نجد في كل مكان نساءً استثنائيات، وأشكالًا من التمرّد النسوي، فردية وجماعية. حتى اللواتي خضعن اضطرارًا لم يتوقفن عن المقاومة، وإن بأشكال أخرى. فالحيلة كانت سلاح المرأة، سلاحًا تحوّل مع مرور الزمن إلى وصمة.
في العالم العربي، وبعد ثورات 2011، برزت حركات نسوية ترفض استغلال النساء من قِبل الأنظمة الاستبدادية. لكن يبقى السؤال: هل يمكن لهذه الحركات أن تستمر في ظل أنظمة غير ديمقراطية؟
أعتقد أن الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات كانت نموذجًا رائدًا في هذا المجال. ففي أوائل التسعينيات، ومع ازدياد تشدد نظام بن علي، دار داخل الجمعية نقاش حاسم: هل نكتفي بالمطالب النسوية فقط، أم نناضل سياسيًا من أجل الديمقراطية أيضًا؟
في النهاية، رجحت الكفة للخيار الثاني. وقد أكدت شخصيات بارزة مثل خديجة الشريف، وبشرى بالحاج حميدة، وسناء بن عاشور أن حقوق النساء لا تُنتزع إلا داخل أنظمة ديمقراطية. هذا الموقف منح الجمعية شرعية قوية ومكانة راسخة داخل المجتمع.
وعندما اندلعت ثورة 2011، أدرك الجميع أن الجمعية كانت حاضرة في كل المعارك ضد الديكتاتورية. وبعد الثورة، استطاعت النسويات تحقيق مكاسب مهمّة، من بينها المناصفة في القوائم الانتخابية والقانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضد النساء، وغيرها من الإنجازات.
حتى في العالم العربي، أصبح الأفق النسوي اليوم أكثر تنوّعًا وتشابكًا. فهل جعله ذلك أضعف أم أكثر قوة؟
إن مفهوم «التقاطع»، الذي ابتكرته النسويات السود في أمريكا، يظلّ بالنسبة إليّ أداة فكرية ثمينة أؤمن بها تمامًا. فقد ذكّرنا هذا المفهوم بأن ظروف امرأةٍ برجوازية بيضاء ليست كظروف عاملةٍ سوداء، وأن النسوية لا بد أن تراعي عناصر الطبقة والعرق والأصل الاجتماعي.
في تونس مثلاً، لو تجاهلت النسويات معاناة العاملات في الفلاحة، اللواتي يُعاملن أحيانًا كقطيع، لفقدن بُعدًا جوهريًا من نضالهن.
أنا أيضًا أساند دون تحفظ قضية مجتمع الميم (LGBTQ+)، لكنني لا أرى بالضرورة أن تتكفّل الجمعية بها مباشرة؛ إذ يمكن أن تكون هناك تقاطعات وتعاونات بين جمعيات مختلفة.
غير أن مفهوم التقاطع أُفرغ اليوم في بعض الأحيان من معناه الأصلي، بعدما اختُطف بفعل الأزمة الهوياتية العميقة التي يعيشها العالم. بعض النسويات انغلقن على ذواتهن وابتعدن عن النضال المشترك، رغم أن النساء، على اختلاف تجاربهن وخلفياتهن، ما زلن يعانين جميعًا من أشكال متنوعة من التمييز.
حركة أنا أيضًا(Me Too)، التي وُصفت بأنها ثورة عالمية، حرّرت صوت النساء ضد العنف الجنسي في بلدان المتوسط وفتحت جبهة جديدة:" معركة الحميمي". لكن كيف يمكن للنساء أن يخرجن من هذه المعركة منتصرات؟
ستكون معركة طويلة، خصوصًا في بلدان الجنوب. وأودّ هنا أن أحيّي منية بن جميع، أول امرأة تونسية تجرأت على كسر الصمت والحديث عن زنا المحارم في كتابها "قيلولات الجدّ" (منشورات سيريس، 2021). الجميع يعرف مدى انتشار هذه الآفة، لكن الصمت لا يزال سيّد الموقف. ففي مجتمعاتنا، يُعدّ الحديث عن الحميمي من المحرّمات لأنه "عيب".
تاريخيًا، حتى كلمة "زوجة" كانت مُحاطة بالتحفظ، وكان الرجل يقول عن زوجته "داري" أي "بيتي في إشارة واضحة إلى علاقة الملكية.
لقد خاضت النسويات التونسيات الأُوَل معركة القانون، ثم واجهن العنف ضد النساء إلى أن صدر قانون أساسي في هذا الشأن، لكنه للأسف بقي حبرًا على ورق لغياب المراسيم التطبيقية. الإنجاز الملموس الوحيد هو إلغاء الإعفاء عن المغتصب إذا تزوج ضحيته. أما اغتصاب الزوجة، فلا يزال خارج نطاق الاعتراف القانوني، لأن المجال الحميمي ما يزال «مقدسًا» وغير قابل للمساءلة.
وهنا يكمن جوهر القضية: لمن ينتمي جسد المرأة؟
في مجتمعاتنا، لا يزال كثيرون يعتقدون أنه ملك للعائلة، وتتحوّل العذرية إلى رأسمال اجتماعي ورمز لشرف جماعي.
حتى في الغرب، حيث تُخاض "معركة الحميمي" علنًا بفضل حركة Me Too، فإن النصر ما يزال بعيدًا، ما يدل على عمق المعركة وصعوبة تغيير البنى الذهنية والاجتماعية.




























