هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: English (الإنجليزية)
الصورة الرئيسية من تصوير عبد زاغوت - الأناضول
قتلت إسرائيل أكثر من 12 ألف امرأة وشردت مئات الألاف إضافة لمعاناة أغلبهن من سوء التغذية، وتدهور حالاتهن النفسية نتيجة لما رأينه من مشاهدة مروعة للحرب القاسية. فقدت كثيرات في هذه الحرب أرواحهن، وأخريات فقدن منازلهن وأحبّتهن، وبعضهن خسرن أطرافًا من أجسادهن. غير أنّ للإبادة أوجهاً أخرى قبيحة وأحيانا غير مرئية؛ فإلى جانب الدماء والأشلاء والأحلام المحطمة، سلبت الحرب من نساء غزة كرامتهن، وخيّم شبحها الثقيل وكوابيسها على تفاصيل حياتهن اليومية. فالناجيات من الموت لم ينجين من النزوح، إذ نزح منذ أكتوبر 2023 نحو مليوني شخص، من بينهم قرابة مليون امرأة وفتاة، غالبًا إلى بيوت الأقارب أو مدارس أو منشآت تابعة للأونروا باتت تعاني اكتظاظًا يفوق طاقتها الاستيعابية. لكننا قلّما نسلط نحن الصحفيون في أخبارنا الضوء على هذه المعاناة؛ ففي حربٍ تُزهق أرواح الأطفال والصحفيين والمسعفين والأطباء والعامليين الإنسانيين، قد يبدو الحديث عن عذاب النساء اليومي أمرًا ثانويًا في سلّم أولويات التغطية الإخبارية لحرب تطهير عرقي هي الأعنف في القرن الواحد والعشرين.
" أنا الآن مشردة من مكان لآخر"
ترك النزوح والحرب أثرًا بالغًا على حياة النساء الناجيات، بدءًا من صعوبة استخدام دورات المياه، وحرمانهن من النوم في غرف مستقلة، مما أجبر كثيرات منهن لأنهن محجبات على الاستمرار في ارتداء الحجاب ل 24 ساعة 7 أيام في الأسبوع، مع الحر والرطوبة العاليتين، لا يوجد لهن مساحاتهن الخاصة، عُلا الشابة المهندسة (27 عامًا) من غزة قالت:" منذ أِشهر ونحن نعيش أياما سوداء، بعد أن كان لي بيتي الهادئ والجميل، والذي مكثت عاما كاملا اشرف على بنائه حجرا حجرا دمرته إسرائيل في ثواني، كنتُ انتقي أفضل الأثاث واللوحات، بيتي كان ملجأي الذي أحب، أنا الآن مشردة من مكان لآخر، منذ أشهر وانا أرتدي حجابي 24 ساعة 7 أيام في الأسبوع لأننا نشترك مع غرباء في المسكن، حيث أننا ننزح من بيت لآخر بحثا عن الأمان...أعرف أنني أفضل حالا من غيري فلم أفقد زوجي أو أبني الحمدلله، لكني فقدتُ بيتي وسلامي، أريد أن أعود لخصوصيتي وبيتي، كل تلك التفاصيل الصغيرة التي كنت احبها، الأن كل ذلك يبدو حلما أمام ما نراه من أهوال ودماء وجثث، لا اعتقد بأني سأعود لما كنت عليه قبل أكتوبر2023، جزء من إنسانيتي قد تشوه.”
سلبت الحرب من نساء غزة كرامتهن، وخيّم شبحها الثقيل وكوابيسها على تفاصيل حياتهن اليومية.
في غزة صار الاستحمام مرة في الأسبوع ترفًا بعيد المنال، بعض النساء في غزة تخلين عن شعورهن خوفا من أمراض فروة الرأس والالتهابات. وحلق الرأس بالإجبار قرار مؤلم لأي امرأة، خاصة وأن شعر المرأة في الثقافة العربية هو تاج جمالها كما يعتقدون، لأنه بالنسبة لهن رمز لأنوثتهن. لكنهن في غزة كن مجبرات على حلق رؤوسهن، حيث قالت لنا أم فلسطينية نازحة فضّلت عدم ذكر اسمها: "في غزة، الجمال لم يعد مهمًا، البقاء فقط هو الأهم. اضطررتُ، وأنا أبكي، لأن أحلق شعري وحلقت أيضًا شعر ابنتي وابني لأنه لم تعد لدينا مياه كافية لنغسل شعرنا. القليل المتاح من الماء لا يكفي إلا للشرب ولنبقى على قيد الحياة. فعلنا ذلك لنحمي أنفسنا..." أضافت:" تركنا بيتنا بعدما قُصف بالكامل، ولجأنا الى هذه المدرسة مع مئات العائلات الأخرى، جميعنا نتشارك الحمامات القليلة مقارنة بعددنا الكبير، لا يوجد ماء، وإن وجد، فهو للشرب أو الطبخ فقط."
أما ليلى الشابة الغزية 22 عامًا فقالت: "لطالما أحببت التغيير، وكان قص شعري يمنحني شعورًا بالحيوية والتجدد، لكن ومع الحرب، خرجنا من منزلنا لننجو من القصف الإسرائيلي، وانتقلنا من مكان إلى آخر تحت وابل القصف والدمار وإطلاق النار. حياتنا لم تعد طبيعية أبدًا... لم يعد لدينا أي من احتياجاتنا الأساسية التي كنا نملكها في بيوتنا، بدءًا بالماء، مما اضطرنا لتقليل عدد مرات الاستحمام." وتضيف ليلى: "الوضع الذي نعيشه صعب للغاية: الناس يموتون جوعًا وعطشًا وقنصا، يبدو الحديث عن حلق شعرنا أمرا غير مهما فهو خبر أقل من ثانوي، أنا محظوظة لأنني مازلت على قيد الحياة، وحلقت شعري نعم، لكن الآن الأولوية هي النجاة من القتل والأمراض والجوع... غدًا ستنتهي الحرب وإذا نجوتُ، سأعيد بناء بيتي وسأزرعه بالزهور، وسينمو شعري من جديد".
" أريد أن أعود لخصوصيتي وبيتي، كل تلك التفاصيل الصغيرة التي كنت احبها، الأن كل ذلك يبدو حلما أمام ما نراه من أهوال ودماء وجثث، لا اعتقد بأني سأعود لما كنت عليه قبل أكتوبر2023، جزء من إنسانيتي قد تشوه. "
النساء المعيل الوحيد بعد مقتل الأب أو الزوج
معاناة النساء في غزة تمتد من نقص المستلزمات الأساسية كالفوط الصحية وغيرها، وسوء التغذية، والولادة دون تخدير، والاضطرار للسير لمسافات قد تصل إلى 25 كيلومترًا للوصول إلى مستشفيات بالكاد تعمل وتفتقر إلى التجهيزات الطبية. إلى الأعباء التي خلفتها المجاعة والحصار الخانق؛ فتُضطر النساء لأن يكنّ أول من يتنازل عن حصتهن من الطعام كي لا يُحرم أطفالهن أو أقاربهن من لقيمات قد تحفظ حياتهم. في خضم كل ذلك، تحمل النساء مشقات جديدة لم يعرفنها من قبل؛ كجمع الحطب وتقطيعه لطهي الطعام في غياب أبسط وسائل الحياة، والعيش في خيام لا تقي بردًا ولا تحجب حرًا، وسط بيئة تفتقر تمامًا للخصوصية والأمان. أصبحن في كثير من العائلات المعيل الوحيد بعد مقتل الأب أو الزوج، الآثار النفسية لهذه الحرب القاسية لم تُبقِ لهن فسحة لالتقاط الأنفاس؛ صدمة النزوح، فقدان البيوت، وقتل الأحبة، وشبح الموت الذي يطاردهن على كل لحظة. ومع كل ذلك، يحاولن النجاة لحظةً بلحظة وأن يكن قويات لأجل أسرهن وأطفالهن.
في تقريره الذي نشر في أيار/مايو الماضي، يكشف المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان تفاصيل موجعة عن أوضاع النساء في مراكز الإيواء المؤقتة بقطاع غزة؛ أماكن كان يُفترض أن تمنحهن الأمان، لكنها تحولت إلى بيئة قاسية تنعدم فيها مقومات الكرامة والخصوصية، وتضاعفت فيها المخاطر الجسدية والنفسية.
يُظهر التقرير كيف وجدت النساء والفتيات أنفسهن محاصرات داخل صفوف دراسية أو خيام مكتظة بلا فواصل أو جدران، فمجرد استخدام الحمامات يتحول إلى مهمة محفوفة بالحرج والمخاطر، إذ تُجبر النساء على مشاركة مرافق غير آمنة مع الرجال. هذه الظروف القاسية لا تقتصر على تقييد الحركة أو الشعور بالإحراج فقط، بل تمتد لتؤثر على الجوانب الصحية والجسدية للنساء. الأمهات المرضعات يعانين من صعوبة إيجاد مكان مناسب للرضاعة، ما قد يدفع بعضهن إلى التوقف عن الرضاعة الطبيعية، فيؤثر ذلك سلبًا على صحتهن وصحة أطفالهن. أما النساء النفاس والفتيات خلال فترات الدورة الشهرية، فيواجهن تحديات مضاعفة بسبب نقص المستلزمات الصحية وغياب أماكن آمنة ونظيفة، ما يضطر بعضهن لاستخدام بدائل غير صحية تهدد صحتهن الجسدية والنفسية معًا. كما تعيش النساء الحوامل معاناة إضافية، حيث يضطررن للانتظار طويلًا في طوابير المرافق الصحية غير الملائمة، أو قطع مسافات كبيرة للوصول إلى خدمات طبية محدودة، مما يزيد من احتمالات تعرضهن لمضاعفات خطيرة.
يتوقف التقرير أيضًا عند الأثر النفسي العميق لانعدام الخصوصية والأمان، إذ تعيش النساء في حالة توتر دائم، ويعانين من اضطرابات في النوم وقلق مزمن نتيجة الخوف المستمر من الاعتداء أو حتى التطفل. هذه المخاوف تدفع بعض النساء إلى الانعزال، ما يضاعف من شعورهن بالوحدة والاكتئاب. وتغيب عن هذه المراكز خدمات الدعم النفسي والاجتماعي الكفيلة بالتخفيف من حدة هذه الآثار. الأخطر من ذلك أن الاستجابة الإنسانية في هذه المناطق، كما يوضح التقرير، تفتقر إلى المنظور الجندري. ففي الوقت الذي تتم فيه الدعوات لتوفير الغذاء والمياه والمساعدات الطبية، تُهمَل مسألة حماية الخصوصية والأمان بشكل شبه كامل، ما يعكس خللًا في أولويات التدخل الإنساني. ويرى التقرير أن هذا التجاهل لا يقتصر فقط على كونه خطأً في التخطيط، بل يعد انتهاكًا مباشرًا للحقوق المكفولة للنساء في القانون الدولي الإنساني، الذي يُلزم أطراف النزاع بضمان بيئة آمنة تحفظ الكرامة الإنسانية.
وفي هذا السياق، يشدد التقرير على مسؤولية المجتمع الدولي ليس فقط في الضغط لوقف إطلاق النار، بل أيضًا في الدفع نحو استجابة إنسانية أكثر عدلًا وإنصافًا للنساء، عبر اتخاذ إجراءات عاجلة لتوفير أماكن مخصصة وآمنة لهن، مع مرافق صحية منفصلة وتدابير لحمايتهن من العنف القائم على النوع الاجتماعي. كما يوصي التقرير بضرورة تقديم خدمات دعم نفسي واجتماعي متخصصة، وإشراك النساء أنفسهن في صياغة السياسات وتحديد الاحتياجات لضمان استجابة تعكس واقعهن الفعلي.




























