هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: English (الإنجليزية)
قتَلوا خالي، فؤاد الحنّا. لم أتخيّل يوماً أن أكتب نعياً لأحد أفراد عائلتي قُتل برصاص حيّ خلال المواجهات الطائفية التي شهدتها السويداء. ثلاث رصاصات أُطلقت عليه، إحداها اخترقت عنقه واستقرّت فيه.
كان كلّ شيء فوضوياً، ضبابياً، كأننا نعيش في كابوس لا ينتهي. حتى الآن، أُقنع نفسي بأنني سأستيقظ منه.
أُصيب خالي بثلاث رصاصات أمام باب منزله، رفض مغادرة بيته في قرية الدويرة في السويداء، متمسّكاً بشقاء عمره، بحديقته الصغيرة، وبشجيرات البرتقال التي زرعتها جدّتي، وبشجر الزيتون الذي طالما آمن به أكثر من إيمانه بالبشر.
بدأ الهجوم على مدينة السويداء يوم الاثنين الماضي. ومنذ تلك اللحظة، لم أتوقّف عن محاولة الاتّصال بخالي وزوجته. مع بدء الاشتباكات ومحاولات الفصائل المسلّحة المحسوبة على حكومة دمشق التقدّم نحو المدينة، توسّلنا إليه أن يخرج. قال: "والرزق؟ والبيت؟" ثم انقطع الطريق، وبات الخروج مستحيلاً.
خالي فؤاد، الذي حمل قلبه في اسمه، رجل طيّب، أحبَّ أرضه ومنزله وأشجار بيته. كان يعتني بشجر الليمون، ويقصد المشاريع الزراعية ليزرع الخضار الموسمية. لم تكن له أي علاقة بأي جهة مسلّحة، كلّ ما أراده هو أن يبقى في منزله… فقتلوه.
كان خالي بخبرته الطويلة في الزراعة يعرف تماماً ما أُحب. يزورنا محمّلاً بكراتين الذرة الطازجة من أرضه، ويصيح من الباب بصوته الممتلئ بالفرح والحماسة: "مناهل، جبتلّك ذرة صفرا يا ويلييي!".
وفي موسم الأكيدنيا، كان حريصاً على أن تصلني ثمار شجراته إلى حيث أسكن في لبنان، يقول لي دائماً: "قطفتلك أكيدنيا من أطيب شجرة عندي". لقد كان يميّز خالي أشجارها جيّداً، يعرفها وتعرفه.
خالي لم يكن مجرّد فلاح، كان يحمل الحياة في يديه، ويقدّمها لنا على شكل ذرة وأكيدنيا وبرتقال وخضار طازجة وضحكة دافئة.

لم يزرنا خالي يوماً إلّا وكان يحمل معه الحبّ وكراتين الخضار والفاكهة. علّمته الأرض التي سكنها الكرم والطيبة، فصار يتفاخر بما زرعه وأنتجه كأنه يملك الدنيا. كان ابن الأرض بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، لكنّه قُتل في أرضه.
بقيت على تواصل معهم حتى قرابة الساعة الثالثة من يوم الاثنين، حين وصلتنا لاحقاً رسالة من زوجته تقول: "خالك اتقوّص...".
لكنّ عائلتي في قرية بعيدة، والطرقات مقطوعة، وأخي هو الرجل الوحيد بينهم، لا يستطيع ترك والدَيَّ العجوزين، ولا زوجته وطفليه.
قرية خالي، الدويرة، مزيج من الدروز والمسيحيين والبدو. حين أُصيب، نقله أصدقاؤه البدو إلى مدينة درعا، ومن هناك تمّ تحويله إلى دمشق بسبب خطورة حالته، لكنّه فارق الحياة بعد يوم ونصف اليوم.
قُتل خالي فؤاد الحنّا الذي كان يتحدّث بلكنة أهل درعا بسبب القرب الجغرافي، خالي الذي كان يبدأ صباحه بدلّة قهوة عربية يصنعها بنفسه، وكانت قهوته الألذ على الإطلاق. يضع أبريق الشاي إلى جانبها، ويجهّز الطاولة أمام محلّ تصليح الآليات الزراعية الذي يملكه. هناك، كان يتوافد إليه أهالي القرية، وأصدقاء من القرى المجاورة - من الدروز والمسيحيين والبدو - يتحدّثون ويضحكون، ويمضون ساعات برفقته.
كان بيته ومحلّه عامرين دائماً بالضيوف. لم يكن ليؤذي أحداً، ولا أحد ممّن عرفوه كان ليؤذيه. من قتله كان غريباً حتماً… غريباً عن المكان، وغريباً عن القلب.
لم يكن وحده…
المسلّحون الذين اقتحموا السويداء وعاثوا فيها انتهاكاً وقتلاً وسرقة، قتلوا عشرات غيره خلال يومين، قبل أن ينتهي ذلك بضغوطات دولية وإقليمية أسفرت عن انسحاب مسلّحي الحكومة.
لكن كيف حصل ذلك؟
كان القصف قد بدأ على البلدة، وبدأت فصائل عشائرية مسلّحة بالتقدّم من جهة درعا. لم يبقَ في البلدة سوى بعض البدو من سكّانها وعائلة خالي. جاء بعض أبناء البدو إلى بيته، وسألوه إن كان بحاجة إلى شيء، وأكّدوا له أنهم سيفعلون ما بوسعهم لحمايتهم. لكن مع تصاعد الفوضى وشدّة القصف، بدأت مجموعات مسلّحة أخرى تدخل البلدة من جهة درعا، وساءت الأمور بسرعة.
دخلت أكثر من مجموعة وسألت خالي من يكون، ومن أي طائفة هو، ثم غادرت.
لاحقاً، اقتحمت مجموعات من العشائر والبدو الغرباء القرية. نهبوا المنازل وأشعلوا فيها النيران. حاول بدو القرية منعهم، ما تسبّب بخلافات بينهم.
في ذروة الفوضى، سمعت زوجة خالي أحد المسلّحين يُطلق النار على قفل المحلّ ثم ينادي صديقه قائلاً: "تعال، هون الغنيمة، تعال شوف قديش في شغلات!"، وهو ما يوحي بأنه غريب عن البلدة، فكلّ بدو القرية يعرفون محلّ خالي، ولم يكونوا ليتحدّثوا عنه بدهشة أو طمع، وعندما خرج أطلقوا النار عليه.
سارعت زوجته إلى الاتّصال بأصدقاء خالي من بدو القرية، الذين جاؤوا فوراً. تجمّعوا خلال دقائق، وأسعفوه، ثم نقلوه إلى مدينة درعا، لأنها الأقرب إلى القرية.
خالي، فؤاد الحنّا اعتقله نظام الأسد في عام 2012. يومها، كانت أمي تجلس كلّ مساء على مصطبة دارنا في القرية، تبكي ظلماً لا يُحتمل، وترفع يديها إلى السماء، تُناجي الله أن يُعيده من بين أيدي الظالمين. وحين عاد، لم يكن هو الشخص نفسه الذي عرفناه. المعتقل التهم نصف جسده، وأطفأ في عينيه شيئاً لا يمكن استعادته.
اعتقله نظام الأسد بتهمة "الإرهاب"، واختفى لأشهر طويلة من دون أن نعرف مكانه. وحين عُرف مصيره، دفعت زوجته أموالاً طائلة حتى تُخرجه. كانت نجاته في ذلك الوقت أشبه بأعجوبة. خرج بعدما خسر نحو 50 كيلوغراماً من وزنه. أظافره كانت قد نُزعت، وآثار السياط لا تزال محفورة في جلده. أخذها معه إلى قبره. علّقوه من قدميه، وهدّدوه باغتصاب أخواته… لقد عذّبوه بأبشع الطرق.

ومع ذلك، وعلى رغم كلّ هذا الجحيم، خرج خالي من المعتقل واستعاد إيمانه بالحياة بطريقة لا أفهمها حتى اليوم. ربما لأنه كان يحبّ الأرض. عاد إلى الزراعة، وراح يجرّب أصنافاً جديدة. زرع شجرة موز، وأخبر الجميع أنه نجح في إنتاج ثمارها. أكاد أجزم أن حبّه للحياة هو ما أنقذه من المعتقل. أراد أن يعيش، أن يزرع، أن يحصد، أن يعصر الزيتون بيديه. في كلّ ما فعله، كان يقول للحياة: أنا هنا… أريد أن أعيش بقوّة.
أعلم أن العدالة لن تتحقّق لخالي تماماً، كما لم تتحقّق لضحايا سوريا منذ أربعة عشر عاماً. ومع ذلك، لا أكفّ عن تخيّل وجه القاتل. يُثقلني هذا الغمّ الذي لا يفارقني: أننا لن نعرفه، لن نرى ملامحه، لن نواجهه أو نحاسبه. مات خالي، ونجا قاتله.
قُتل خالي، رحل رغماً عنه وعنّا، رحل حاملاً تعذيب نظام الأسد على جسده وعظامه، رحل وفي كفّيه رائحة تراب اللجاة، رحل خالي وكل ما تركه لنا الأوغاد هو انكسار لا ينتهي.
لم يعد في قلبي إيمان، لا بثورة، ولا بشعارات، ولا بنصرٍ مؤجل.. الثورة التي أعرفها ليست تلك التي تتحدثون عنها اليوم. وسوريا التي أحملها في قلبي، لا تشبه صراخكم ودعواتكم لذبحنا. والبلد هو شيء غامضٌ في خاطري، لا أملك له تعريفاً، لكنه دافئ… على رغم كل شيء.
فقدت الإيمان بالثورة والحلم… كل ما أؤمن به الآن هو شجيرات البرتقال التي زرعتها جدتي، ودماء خالي على عتبة منزله، ودموع أمي كلّ مساء.




























