تعكس قصص النساء السوريات العائدات من لبنان فصلًا قاسيًا من فصول الأزمة، إذ يجدن أنفسهن يواجهن واقعًا مضاعف التعقيد في بلد أنهكته سنوات الصراع. فبعد أعوام من الهروب، كثيرًا ما يعدن إلى مناطق مدمّرة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. هذه العودة القسرية تضعهن في مواجهة مباشرة مع الفقر المدقع، في وقت تشير فيه التقديرات الأممية إلى أن أكثر من 90% من سكان سوريا يعيشون ويعشن اليوم تحت خط الفقر.
هذا الواقع يدفع بالكثير من النساء إلى أن يصبحن المُعيل الرئيسي لأسرهن. وتتعدد الأسباب: فعدد كبير منهن فقدن أزواجهن بسبب الموت في الحرب أو الاختفاء في المعتقلات، فيما تتحمّل أخريات عبء الإعالة لأن الزوج أو الأب أو الأخ اختار البقاء في لبنان للعمل حيث تكلفة المعيشة أقل نسبيًا. هذا التباعد لا يزيد الأعباء المالية فحسب، بل يضاعف الضغوط النفسية أيضًا، إذ تجد المرأة العائدة نفسها مسؤولة وحدها عن إدارة شؤون المنزل وتأمين احتياجات الأطفال والعائلة في ظل ظروف قاسية وغير مستقرة.
وفي ظل بيئة اجتماعية هشة، تواجه المرأة تحديات قاسية، فارتفاع أسعار السلع الأساسية والمحروقات بنسب قد تتجاوز 1000% يفاقم معاناتها ويجعل تأمين أبسط الاحتياجات مهمة شبه مستحيلة. وقد اضطرت بعض العائلات إلى العودة مجددًا إلى لبنان بحثًا عن ظروف معيشية أقل قسوة وفرص عمل أفضل.
هذا ما روته نيفين، وهي لبنانية متزوجة من سوري: "حين سقط النظام ذهبنا إلى حمص. احتفلنا مع المحتفلين وفرحنا، لكن بناء حياة هناك كان مستحيلًا." وتتابع: "عدنا بعد شهر إلى لبنان، على أمل أن تتحسن الظروف في سوريا… لعلّنا نعود يومًا إلى وطن زوجي وأولادي."
تتحمّل أخريات عبء الإعالة لأن الزوج أو الأب أو الأخ اختار البقاء في لبنان للعمل حيث تكلفة المعيشة أقل نسبيًا
إغلاق المخيمات
تقول فاطمة شوش، وهي لاجئة سورية كانت تعيش مع أطفالها الخمسة في مخيم للاجئين في منطقة البيرة–عكار شمال لبنان:
"اضطررتُ للمغادرة قبل سبعة أشهر إلى سوريا بعد أن عاد/ت معظم اللاجئين/ات في المخيم إلى بلادهم/ن، ثم تم إغلاق المخيم بشكل نهائي."
غادرت فاطمة خيمتها في لبنان لتجد نفسها مضطرة إلى نصب خيمة أخرى في مدينتها حمص، بعدما دُمّر منزلها بالكامل خلال الحرب. بالكاد تستطيع تأمين لقمة العيش، فهي المُعيلة الوحيدة لأسرتها بعد وفاة زوجها الذي قُتل "في بداية الثورة عام 2011 على يد النظام السابق"، كما تقول.
تضطر فاطمة إلى العمل في المواسم الزراعية كي تستطيع تأمين بعضاً من متطلبات أسرتها، فبحسب فاطمة: "الراتب لا يكفي لسد النواقص وتأمين حاجات المنزل لكنه أحسن الموجود".
وعن الفارق بين الحياة في سوريا ولبنان، تقول فاطمة إنها كانت تفضّل البقاء في لبنان، فهناك، كما توضح، كانت تتلقى مبلغًا شهريًا من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وكانت قدرتها على الوصول إلى الماء والكهرباء أفضل بكثير. أمّا في سوريا، فهي لا تحصل على أي مساعدات، والحصول على الخدمات الأساسية يكاد يكون مستحيلًا.
ثم تختصر تجربتها بمرارة قائلة: "من جحيم إلى جحيم يا أختي."
أُجبرت على العودة... "تكاليف لا تحتمل"
منال الأحمد، وهي سيدة سورية وأرملة وأم لثلاثة أطفال، كانت تعيش في مخيم بمنطقة خرب الداود في عكار. قبل عام، اضطرت إلى مغادرة لبنان والعودة إلى سوريا بعدما قرر صاحب الأرض طرد جميع اللاجئين واللاجئات من المخيم. لم يكن أمام منال سوى الرضوخ للأمر الواقع، فعادت إلى بلدها واستأجرت منزلًا صغيرًا يؤويها مع أطفالها، بعدما كان منزلها الأصلي قد تهدّم في الحرب ولم تعد تملك القدرة المادية على ترميمه.
وتشير منال إلى أن الغلاء في سوريا لا يختلف كثيرًا عن الغلاء في لبنان، فالعائلة السورية تحتاج ما يقارب 600 دولار أميركي شهريًا لتأمين احتياجاتها الأساسية، وهو مبلغ يستحيل تأمينه في ظل ندرة فرص العمل وانخفاض الرواتب بشكل كبير.
تعمل منال اليوم في إحدى المدارس في مدينتها حمص، وتتقاضى راتبًا شهريًا لا يتجاوز 150 دولارًا، وهو، كما تقول"، مبلغ قليل جدًا، لا يكفي حتى لدفع إيجار المنزل والماء والكهرباء."
وتشرح أن الكهرباء لا تصلهم إلا ساعتين في اليوم، أما المياه فتتوفر مرة كل يومين، ما يضطرها إلى شراء هذه الخدمات بدل الحصول عليها مجانًا أو شبه مجاني كما كان الحال سابقًا. هذا العبء الإضافي يجعل حياتها وحياة أطفالها أكثر هشاشة، ويضعهم في دائرة معاناة مستمرة لا تجد لها مخرجًا.
يُشير تقرير صادر عن اليونيسف إلى أن ملايين الأشخاص في سوريا يفتقرون/ن إلى مياه صالحة للشرب، بسبب تدهور البنية التحتية للمياه، ما في ذلك محطات الضخ والخزانات. كما يوضح التقرير أن نقص الكهرباء ينعكس مباشرة على قدرة محطات المياه على العمل، ما يؤدي إلى تراجع جودة الخدمة ويضاعف المخاطر الصحية على السكان.
وبحسب التقرير نفسه، يحتاج نحو نصف مليون شخص يعيشون/ن في مخيمات النزوح الداخلي إلى توفير مياه نظيفة وخدمات صرف صحي بشكل عاجل، وهذان الأمران يظلان محدودين بسبب نقص التمويل وغياب قطع الغيار اللازمة لإصلاح الشبكات.
تفاقم المسؤولية بغياب الأزواج
إيمان الجاسم، سيدة سورية عادت في تموز/يوليو الماضي من مدينة زحلة في البقاع اللبناني إلى سوريا مع زوجها وأطفالها. استقرت في عفرين – حلب، بينما توجّه زوجها إلى سراقب في إدلب للعمل في ورش إعادة بناء المناطق المدمّرة.
تصف إيمان الوضع الذي فرضته العودة بأنه كان قاسيًا عليها وعلى زوجها معًا، فزوجها يعيش كأنّه مغترب بعيدًا عن عائلته، فيما تضاعفت الأعباء والمسؤوليات اليومية عليها وحدها.
تقول إيمان إنها بدأت تتأقلم مع الحياة في سوريا، ومع المسؤوليات الثقيلة التي باتت تقع على عاتقها في ظل غياب زوجها لفترات طويلة عن المنزل. أما أطفالها، "فلم يعتادوا على العيش هنا بعد"، ويواجهون صعوبة في الحصول على تعليم جيد بسبب الإضراب المستمر للمعلمين احتجاجًا على تدني رواتبهم. فبحسب ما توضح: "راتب الأستاذ المدرسي لا يتجاوز مئتي دولار، وهو مبلغ زهيد للغاية مقارنة بمتطلبات الحياة وغلاء المعيشة."
وتشير إيمان أيضًا إلى صعوبة الحصول على الرعاية الصحية، إذ أُغلِق معظم المراكز الصحية نتيجة توقف التمويل الخارجي عنها، ما يضطر العائلات إلى مراجعة عيادات خاصة للحصول على الخدمات الطبية، وهي كلفة إضافية لا تقوى عليها معظم الأسر.
بحسب تقرير الوضع في سوريا الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان، قد يؤدي استمرار النزوح الداخلي، وعودة اللاجئين، وتدمير البنية التحتية، والتعرّض لأحداث صادمة، إلى جانب الارتفاع الهائل في تكاليف المعيشة، إلى زيادة هشاشة السكان النازحين—وأغلبهم من النساء والفتيات. فهؤلاء يواجهن مستويات متصاعدة من العنف القائم على النوع الاجتماعي، والزواج المبكر في بيئة تفتقر إلى آليات الحماية والدعم.
وكما لخّصت إحدى السيدات اللواتي قابلناهنّ هذا الواقع بمرارة:
"إنها حال النساء… كل النساء!"




























