"ارتديتُ الحجاب بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، عقب تعرّضي لمضايقات كلامية ذات طابع طائفي "، تقول السيدة عبير (اسم مستعار)، التي تعمل ممرضة في مستشفى المواساة في العاصمة دمشق. إلا أن عبير لم تستطع إخفاء هويتها الدينية بسبب لهجتها الساحلية الواضحة، إذ يتركّز العلويون في مناطق الساحل، وهم جماعة دينية تنتمي تاريخيًا إلى الإسلام الشيعي وتتمركز أساسًا في سوريا.
تضيف عبير أن الوضع أصبح أكثر انضباطًا نسبيًا مع قدوم أعداد كبيرة من محافظات الشرق السوري ومحافظة إدلب، ممن يتحدثون/ن لهجات قريبة من لهجتها، ما جعلها أقل لفتًا للانتباه.
الحجاب كوسيلة للنجاة
يمكن اعتبار هذا الأمر قديمًا نسبيًا، فمنذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 وتحولها لاحقًا إلى صراع مسلح، لجأت كثير من النساء إلى ارتداء الحجاب تجنبًا لاستفزاز أي طرف قد لا يقبل الاختلاف، فيما خلعت أخريات الحجاب للسبب ذاته. ففي حين ضيّق نظام الأسد على النساء المحجّبات، استهدفت الجماعات المتشددة النساء غير المحجّبات بوسائل وأساليب مختلفة وخاصة في مناطق سيطرة المعارضة قبل سقوط نظام الأسد.
خارج العاصمة دمشق، بات ارتداء الحجاب ضرورة يفرضها الانفلات الأمني الذي تعيشه عدة محافظات، منها حمص والساحل السوري، ولا سيما بعد المجازر الطائفية التي ارتُكبت بحق أبناء وبنات الطائفة العلوية في بداية شهر آذار/مارس من العام الحالي، إلى جانب موجة الخطف التي انتشرت منذ سقوط نظام الأسد العام الماضي، واستهدفت على نحو خاص النساء العلويات. وقد أسهمت هذه العوامل مجتمعة في دفع كثير من نساء الطائفة العلوية إلى ارتداء الحجاب، بوصفه وسيلة للتماهي مع محيط اجتماعي محافظ بات يمنح شعورًا بالأمان لمن ترتديه فقط.
ارتدت العديد من الفتيات في حمص وحماة، ولا سيما طالبات الجامعات، الحجاب لتسهيل الحركة والتنقّل داخل المدينة، في ظل تصاعد النشاطات الدعوية والحملات التي تدعو إلى ارتدائه. وكان آخر هذه الحملات اللافتات الطرقية التي انتشرت في مدينة حماة، وتروّج لما تسميه "اللباس الشرعي"، الذي يغطي كامل الجسد، بما في ذلك الوجه والكفّين.
لم يقتصر الأمر على نساء الطائفة العلوية فحسب، إذ تقول راما (اسم مستعار) وهي شابة من الطائفة السنية: "لم أكن محجّبة من قبل، لكن الجو العام والمناخ السائد دفعاني إلى ارتداء الحجاب بوصفه شكلًا من أشكال الانتماء إلى الجماعة."
ارتدت العديد من الفتيات في حمص وحماة، ولا سيما طالبات الجامعات، الحجاب لتسهيل الحركة والتنقّل داخل المدينة، في ظل تصاعد النشاطات الدعوية والحملات التي تدعو إلى ارتدائه.
منذ سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 وتولّي المعارضة الإسلامية المتشددة الحكم، بقيادة أحمد الشرع برز مناخ سياسي وأمني يثير مخاوف لدى النساء غير المحجّبات، ويحدّ من شعورهن بالأمان والانخراط في الفضاء العام. وتتعزّز هذه المخاوف على ضوء تاريخ هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع في تقييد الحريات، إذ كانت حكومة الإنقاذ، العاملة في مناطق سيطرة الهيئة، قد طرحت قبل عام من سقوط الأسد مشروع قانون الآداب العامة، الذي تضمّن فرض الحجاب على الفتيات فوق سنّ 12 عامًا، ومنع تشغيل الأغاني في الأماكن العامة، وحظر الاختلاط بين الجنسين في أماكن العمل.
في المقابل، ترى السيدة مها (اسم مستعار) أن ارتداءها للحجاب سيكون قرارًا ينطوي على مهادنة لا تقبل بها. وتضيف أنها معروفة في حيّها ومكان عملها بانتمائها إلى الطائفة العلوية، ولا ترى مبررًا لإخفاء ذلك. وتقول: "هذه أنا، وهذه هويتي، ولن أحاول إخفاءها مهما كانت الظروف. على السلطة الحالية تأمين الحماية لجميع المواطنات والمواطنين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية".
من يقرر ما ترتديه النساء؟
منذ سبعينيات القرن الماضي، أدرك النظام السوري أن ضبط المجال الديني يشكّل أحد مفاتيح البقاء، ولا سيما أن حافظ الأسد كان في مواجهة مباشرة مع التيارات الدينية المتشددة، وعلى رأسها "الإخوان المسلمون". وقد دفعه ذلك إلى استمالة التيارات الدينية المعتدلة، ولا سيما الصوفية منها، لتعزيز خطابه القائم على أنه يحارب التطرّف لا الدين.
في تلك المرحلة، توسّع نشاط حركة القبيسيات وأصبح علنيًا تحت رعاية وإشراف وزارة الأوقاف، بعد أن كانت تمارس نشاطها لفترة طويلة ضمن حلقات مغلقة وبسرّية تامة. وهي حركة دينية نسوية نشأت في ستينيات القرن الماضي في دمشق على يد منيرة قبيسي، واتخذت من التصوف مرجعية لها، وتلقت مؤسِّستها تعليمها الديني على يد الشيخ أحمد كفتارو، المفتي السابق لسوريا. ورغم أن الجماعة تقدّم نفسها بوصفها تنظيمًا نسويًا، فإنها تقوم في جوهرها على أفكار تُعادِي الجسد والرغبة وتُقنِّعهما بأطر أخلاقية صارمة.
استمرت هذه السياسة في عهد بشار الأسد، حيث سُمِح لمثل هذه الحركات بالتمدد مقابل إبقاء المجال الديني تحت عباءة وزارة الأوقاف، والتحكّم بالخطاب الديني، ولا سيما الخطب، وبصورة "المرأة المحتشمة" عمومًا. وقد أسهمت هذه العلاقة الملتبسة بين النظام والخطاب الديني في تحويل الحجاب تدريجيًا إلى أداة سياسية صامتة ضمن منظومة تعيد إنتاج سلطة الدولة على المجال الاجتماعي.
اليوم، وبعد سقوط نظام الأسدين واتساع نفوذ السلطة الدينية في المجالين السياسي والاجتماعي، يتجدّد استخدام الخطاب الديني ويُعاد توجيهه بما يتلاءم مع المرحلة الراهنة، ليضع جسد المرأة في موقع "رمز الاستقرار المجتمعي" الواجب حمايته. ولم يعد الحجاب يُنظر إليه بوصفه مسألة شخصية، بل كوسيلة للضغط على النساء والتحكّم بقراراتهن الفردية، ضمن مجتمع يعاني من فوضى وانعدام في الاستقرار الأمني. وقد أدى ذلك إلى محاصرة النساء اللواتي اخترن عدم ارتداء الحجاب بخطابات تسعى إلى "تقويمهن" أو إخضاعهن للمعايير الأخلاقية السائدة.
المشاركة السياسية والاجتماعية
"تحاول اليوم العديد من النساء السوريات، في مختلف المهن، انتزاع حقّهن في مشاركة مجتمعية فعلية لا شكلية، إلا أن الأمر يزداد تعقيدًا ضمن منظومة سياسية لا ترى في المرأة سوى كائنٍ مطالب بالحفاظ على جسده وسترِه قدر الإمكان، باعتباره مصدرًا محتملًا للفتنة". هذا ما تقوله المحامية رنا (اسم مستعار)، التي تشكو من تقلّص مساحة عملها بشكل كبير، وتراجع حريتها في ممارسة مهنتها داخل القصر العدلي في دمشق مقارنةً بما كان عليه الحال سابقًا. وتشير إلى أن بعض المراجعين باتوا اليوم يفضّلون توكيل محامٍ رجل بدلًا من محامية، بحجّة "ما منحكي مع حرمة".
وتضيف رنا أنها لا تلوم المجتمع بأكمله بقدر ما ترى أن المشكلة كامنة في خطاب السلطة نفسه، الذي يكرّس هذه التصورات ويدعمها، ويُعيّن "شيخًا" للإفتاء في القضايا بدلًا من قاضٍ يحكم وفق القانون، لا وفق الشريعة.
في المقابل، حصلت فئة من النساء اللواتي يرتدين الحجاب أو النقاب اليوم على فرص عمل، ولا سيما في مجال التعليم، بعدما كان ذلك في فترات سابقة أمرًا صعبًا ويعرّضهن للوصم الاجتماعي. وبذلك أصبح النسيج الاجتماعي يتعامل مع النقاب بوصفه علامة "احترام" تتيح للمرأة الوجود في المجال العام دون خوف.
على اختلاف الأنظمة، ما زال جسد المرأة يُعامَل بوصفه مساحةً للنزاع ورمزًا للصراع بين قوى متعدّدة. فلباس المرأة السورية اليوم هو نتاج تراكُم عادات دينية واجتماعية تتكيّف، في أوقات كثيرة، مع السلطة السياسية الحاكمة، وتمنح "حرية مشروطة" تكشف هشاشة الفضاء العام ذاته، حرية لا تُمنَح إلا بقدر ما تلتزم المرأة بتقليص حضور جسدها.
وفي مجتمع يسعى باستمرار إلى مراقبة المرأة، يفشل في إخضاعها إخضاعًا كاملًا، تقف المرأة السورية، في مختلف الظروف، تفاوض عالمها بصمت وشجاعة، ساعيةً إلى مساحة صغيرة من الأمان، وإلى حقّ اختيار نفسها وما يشبهها.




























