هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية) VO
أربع نساء مشغولات حول صندوق محاسبة مصنوع من الفولاذ. على الرف، عبوات خشبية تحتوي على تفاح آنورتشيه ذي العطر النفاذ، وهو نوع تختص به تلك المنطقة ويستهلك في الموقع. بحركات ماهرة ونظرة تنم عن تركيز شديد، وباستخدام سكاكين صغيرة حادة جداً، يتم تفريغ التفاحات المغسولة ثم تقطيعها ورميها في قدور كبيرة. وبإضافة القرفة والسكر الأحمر، تتحول التفاحات إلى واحدة من أطيب أنواع المربيات وأكثرها رواجاً في "طيبات بيت لورينا" (Ghiottonerie di Casa Lorena ) . أما النجاح الحقيقي لهذا المشروع الذي يشمل الأطعمة السريعة وأطعمة الذواقة والمخبوزات والمربيات... فهو شيء آخر تماماً. وقد أسست كل ذلك، قبل عشر سنوات، تعاونية ايفا EVA الاجتماعية.
جميع النساء اللواتي يعملن في "أطايب الطعام عند لورينا" Ghiottonerie di Casa Lorena وكذلك في محترف ايفا Eva.Lab وفي مقصف ايفا، وهما مشروعان آخران أسستهما تعاونية ايفا cooperative EVA، هنّ جميعاً من النساء اللواتي كنّ في حقبة معيّنة ضحايا للعنف الذكوري. بفضل هذا العمل، استطعن اكتشاف وإعادة اكتشاف استقلاليتهنّ الشخصية بعد فترة طويلة من الألم. جميعهن كنّ وما زلن يعملن بمتابعة حثيثة من السيدات اللواتي يشرفن على تسيير المراكز الخمسة ضد العنف التي تديرها تعاونية ايفا في منطقة كامبانيا.
ما يعيد لهؤلاء النساء الشعور بالقوة والكرامة هو ممارسة عمل جديد وتوقيع عقد عمل قانوني خارج "السوق السوداء" وراتب يتم قبضه في نهاية كل الشهر. بالإضافة إلى ذلك، تتعلّم هؤلاء النساء كيفية إدارة أموالهن الخاصة، ويفتحنَ للمرة الأولى حساباً مصرفياً خاص بهنّ (في إيطاليا، لا يتعدى عدد النساء اللواتي لديهن حساب مصرفي خاص37 % فقط من مجمل النساء). وعلى هذا النحو، تشعر هؤلاء النساء بأنهنّ تخلّصن من وضعية التبعية التي كانت تكبّلهنّ تحت سلطة رجل "يمتلكهن" بدعوى الحب، لكنه في الواقع ليس إلا جلاداً ما تلبث حقيقته أن تنكشف للعيان.
نشطت التعاونية على دعم هؤلاء النساء ومواكبتهن على طول الطريق الصعب الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تحريرهنّ من شريك عنيف أثناء المحاكمات، وكذلك خلال الدعاوى التي يرفعنها بسبب الإساءة وسوء المعاملة، وخلال الإجراءات الطويلة للحصول على التفريق أو على الطلاق، أو للتوصل أيضاً إلى امتلاك الحق بحضانة الأطفال. بعض هؤلاء النساء تم استقبالهنّ في واحد من مراكز الإيواء الثلاثة التي تديرها تعاونية ايفا قبل أن يتمكّنّ من التوصل في نهاية الأمر إلى استئجار بيت. كثيرات منهنّ حظينَ بمساعدة مختصات في علم النفس وعاملات اجتماعيات من جمعية إيفا وذلك لإعادة بناء علاقات صحية مع أبناء أو بنات تركت سنوات العنف المنزلي آثارها عليهم وعليهنّ.
بالتأكيد، سُجّل منعطف مهم في حياة كل واحدة من هؤلاء النساء في اللحظة التي فهمن فيها أن الاستمرار في تحمّل العنف بصمت، بسبب ما تفرضه الأعراف الاجتماعية، وبحسب ما يفترض بالزوجة "الطيبة" أن تقوم به، هو أمر يعرّض للخطر ليس فقط حياتهن، وإنما أيضاً وبشكل خاص، حياة أولادهن.

في معظم الحالات قالت هؤلاء النساء، "ما كنت أريد أن أحرم أولادي من وجود والدهم". وبالفعل، يتحكّم الرجال بحياة النساء من خلال أولادهن؛ كما يقومون بحبسهنّ ضمن دوامة الأعمال المنزلية والعناية التي يُعتقد أن عليهنّ تقديمها للعائلة، وهي مهمات تقع على عاتق الأمهات وحدهنّ لأنهن، كما يقال باللغة العامية، مجرد fimmine "حريم" (الكلمة من المترجمة).
لا بل أن الرجال يجبرون النساء، وبالقوة في معظم الأحيان، على ترك العمل -إن كان للواحدة منهنّ عمل-ويطلقون الوعود قائلين، "أنا سأعتني بك، هل تريدين أن يقول الناس أنني لست قادراً على تلبية حاجات زوجتي؟".
إيفا، مشروع تعاونية نسوية
"عندما أسّسنا التعاونية عام1999 وفتحنا أول مركز نسوي ضد العنف في منطقتنا، ما كانت هناك أي بنية من هذا النوع في كل منطقة كازيرته"، وفق ما تتذكر ليلى باللادينو، وهي عالمة اجتماع وواحدة من مؤسسات التعاونية وكانت رئيستها أيضاً. في تعاونية ايفا اليوم عشرون عضوة وحوالي أربعين عاملة.
في إيطاليا، ولدت أول مراكز مناهضة العنف التي تديرها مؤسسات نسائية في بداية التسعينيات في مدن كبيرة مثل ميلانو وبولونيا وباليرمو وروما وجنوة. وكانت قوة هذه المراكز ولا تزال تكمن في العلاقة بين النساء، "المشغّلات" منهنّ و"الناجيات"، وكذلك في التفسير السياسي للعنف الذكوري تجاه النساء. فبحسب منطق الحركة النسوية، لا يقتصر العنف الذكوري تجاه النساء على أعمال معزولة تسمّم حياة بعض هؤلاء النساء، وإنما يتعلق الأمر في الحقيقة بظاهرة اجتماعية منتظمة تمسّ حياة جميع النساء بشكل أو بآخر، كما أنها تستمر وتكتسب شرعيتها من الثقافة الأبوية والأدوار المنمّطة المعطاة للرجال وللنساء عبر التاريخ.
وتضيف عالمة الاجتماع في إيفا، "يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضاً كوننا نتواجد في إحدى المقاطعات الإيطالية التي تعيش فيها النساء بأسوأ حال، وهي مقاطعة كامبانيا".
وفق المعطيات التي نشرها في تشرين الثاني/نوفمبر2022 ديوان المحاسبة الإيطالي، هناك في هذه المنطقة أقل من امرأة واحدة من أصل ثلاثة (29,1 % ) لديها عمل مأجور، في حين أن النسبة الوسطية الوطنية للتشغيل هي 9,4 % ، أي ما يعادل امرأة واحدة من أصل اثنتين. والنساء هنّ اللواتي يلبّين ما يعادل 75 % من مجموع ساعات العمل غير المأجور المتعلق بالعناية بالأطفال وتربيتهن (مقابل نسبة وسطية وطنية تصل إلى 67 %)، وذلك بناءً على تقديرات منظمة العمل الدولية التي تجد أن هذه "الحياة العائلية المريحة" بالذات هي السبب في انخفاض نسبة تشغيل النساء في مقاطعة كامبانيا.
"إنهم يستمرون في عدم قراءة المعطيات المرتبطة بالعنف، بدءاً من العنف الاقتصادي، وهو أحد أكثر أشكال التحكم بالنساء وسوء معاملتهن انتشاراً"، بحسب ما تؤكد ليلى بالادينو، وهي تعطي بعض الأمثلة على ذلك، كـ "منع النساء من العمل خارج المنزل، أو إجبارها على أن توطن راتبها في حسب جاري يوضع باسم الرجل وحده. وذلك يعني أن الرجل هو من يخصّصها بمبالغ صغيرة من أجل التسوق، وأنه يجب عليها دائماً أن تتسول هذه المبالغ، وفي ذلك مذلّة دائمة. وبمجرد أن تتجرأ على الوقوف في وجه شريكها، تبدأ الشتائم ويبدأ تشويه السمعة"... "أنا من يحفظك، ولذلك يجب أن تفعلي ما أقوله لك!". ومع مرور الزمن، يتم إحكام السلسلة أكثر وأكثر حول رقبتها، وتتزايد كمية العنف".
لهذا السبب، فهمتْ اللواتي أسّسن تعاونية إيفا أن النساء، حتى ولو أمضين فترة في مركز مناهض للعنف، يُخشى عليهن أن يقعنَ من جديد في علاقة تبعية اقتصادية إن لم يكن لديهن عمل، بل ويمكن أن يرجعنَ إلى الشريك العنيف نفسه.
"البطالة هنا مرتفعة جداً بالنسبة للجميع وليس فقط بالنسبة للنساء، وحتى بالنسبة للشبان والرجال. البديل هو العمل "في السوق السوداء" بدون عقد ودون حقوق. وفوق ذلك كله هناك camorra أي الجريمة المنظمة التي تتحكم بالمنطقة كما تشرح بالادينو. لذلك كنا مجبرات على أن نخترع مجالات العمل للنساء اللواتي استطعن الإفلات من حالة العنف!"
من هنا، ولدت أول ورشتي عمل تهدفان لتحقيق الإندماج المهني للنساء من ضحايا العنف وهما "أطايب الطعام عند لورينا"، ومحترف إيفا، وكلاهما يقعان -وتلك ليست مجرد مصادفة – في قلعة الأمير Casal di Principe.
"اليوم لم يعد زوجي يستطيع أن يؤذيني لأنني صرت أقوى منه بكثير"
Casal di Principe: التشجيع على العمل الشرعي في بلاد الجريمة المنظمة
الشوارع ضيقة وتخلو من المارة، غالباً ما تكون ذات اتجاه واحد تحفّ بها في بعض الأجزاء أرصفة مبلطة بالحجارة وأرصفة وعرة. البيوت لها أبواب كبيرة معدنية تمنع الرؤية، وتقع في نهاية الممرات التي تؤدي إلى الباحات الداخلية. في الماضي، كانت العربات تمرّ من هذه الأبواب، ثم الجرارات الزراعية. اليوم، صارت السيارات بشكل خاص هي التي تمر عبرها. في الطوابق الأرضية، لا توجد في كثير من الأحيان نوافذ تطل على الخارج، ولا يمكن رؤية الشارع وباحات البيوت المجاورة إلا من الطوابق النصفية المجهّزة بشرفات ضيقة تسمح برؤية الشارع وباحات البيوت المجاورة وامتداد سقوف "قلعة الأمير"، هذه القرية التي تضم حوال 20 ألف نسمة والتي أعطت اسمها لعصابة كازاليزي Casalesi، وهي إحدى أكبر مجموعت الجريمة المنظمة في مقاطعة كامبانيا.

الأبنية التي تأوي "أطايب الطعام عند لورينا"، ومحترف ايفا، تنتمي إلى ذلك النمط المعماري نفسه. كانتا في الأصل ملكية تمت مصادرتها لعائلة تشيافونه Schiavone، وهي إحدى مكونات عصابة كازاليزي التي نجد سيرتها في رواية غومورّا Gomorra (1)، التي أخذت شكل التحقيق الصحافي الاستقصائي، وكتبها روبريتو سافيانو Roberto Saviano وتم نشرها لدى أيناودي Einaudi في عام 2006. صُنفت هذه الرواية ضمن أفضل المبيعات وتُرجمت إلى عشرات اللغات وتحولت إلى فيلم أخرجه ماتيو غارونيه عام 2008. استوحى من قصتها مسلسل يحمل الاسم نفسه صاغته وبثته مؤسسة سكاي بين عامي 2014 و2021 (وعرضته في فرنسا كانال +)، ونال المسلسل بدوره جوائز عدّة. اضطر روبيرتو سافيانو بعد صدور كتابه أن يعيش تحت حماية البوليس.
"اتبع المال". تلك كانت جملة جيوفاني فالكوني Giovanni Falcone، وهو القاضي الذي أجرى أكبر كمية من التجديد في مناهج التحقيق ضد المافيا. وكان أول من أطلق فكرة ما صار بعد ذلك جزءاً من التاريخ تحت اسم المحاكمة العظمى، من باليرمو إلى كوزا نوسترا Cosa Nostra، وهي منظمة المافيا الصقلية التي اغتالت فيما بعد فالكوني في 23 أيار/مايو 1992 مع زوجته ورجال من حراسه الشخصيين. فبفضل فالكوني، وبفضل التجمع القضائي ضد المافيا الذي كان ينتمي إليه، تم حجز ممتلكات ممثلي الجريمة المنظمة ومصادرتها، وصار ذلك يحدث بشكل ومنتظم في محاولة لضرب رؤوس الأموال المالية للمافيات ومنعها من إعادة تشكيل العصابات.
يتعلق الأمر بمئات الشقق السكنية والأبنية والمخازن والمستودعات، وفي بعض الأحيان بشركات كاملة وأراض للاستثمار الزراعي في كل إيطاليا من الشمال إلى الجنوب، دون استثناء. ومنذ عام 2010، ومع تأسيس الوكالة الوطنية لإدارة وتوجيه الثروات المحجوزة والمصادرة من الجريمة المنظمة، تحققت انطلاقة جديدة في مجال إعادة استخدام هذه الأملاك، بحسب ما نص عليه القانون رقم 109/ 1996.
"لقد سمح القانون 109 بتقديم طلب لاستخدام الثروات التي تمت مصادرتها لتحقيق مبادرات اجتماعية، وكان ذلك يهدف إلى إدخال المجتمع في مسارات من الشرعية في نفس المواقع الذي كانت مافيا لا كامورا la camorra والندرانغيتا la 'ndrangheta تبسط فيها سيطرتها في الماضي، وفق ما تشرح دانييلا سانتاربيا، وهي رئيسة تعاونية ايفا. "هذا تماماً ما فعلناه عندما حصلنا على تلزيم البناء الأول لنا وهو ما صار كازا لورينا، مركز مناهضة العنف، مع دار إيواء ملحقة به. وهناك قمنا بتأسيس أول مشغل لطبخ أطباق لذيذة هو "أطايب الطعام عند لورينا "، وذلك بفضل المشروع الذي كانت منطقة كامبانيا قد دعمته منذ البداية".

"اليوم صار "أطايب الطعام عند لورينا" مشروعاً مستداماً"، تؤكد بكل فخر مدام سانتاربيا. "إننا نصنع مربى الملكة la Marmellata delle Regine ، وهو مربى مصنوع من البرتقال الذي يتم قطفه من حدائق القصر الملكي في كازيرتيه، ويباع تحت علامة مشتركة داخل منفذ للبيع في هذا البيت التاريخي. نحضّر الطعام لمجموعة من المؤسسات ونقبل الطلبات الطارئة. نصنع مثلاً عجينة يمكن مد الشوكولا عليها وكذلك الفستق، ونستخدم في صنعها حليب الجاموس المحلي. ومنذ فترة قريبة صرنا نخبز كذلك أنواعاً من أقراص التاراليني وأنواع أخرى من البسكويت المملح تنال نجاحاً كبيراً".
وتضيف مدام سانتاربيا شارحة، "بالإضافة إلى كازا لورينا، نستعمل بناءً آخر تمت مصادرته من بيت الأمير. أعدْنا هيكلته من أجل تأسيس حضانة في داخله تكون مخصصة ليس فقط لأطفال النساء اللواتي تساعدهن ايفا، وإنما أيضاً للعائلات المحلية، لأن هناك عدداً قليلاً جداً من المؤسسات من هذا النوع في منطقتنا". ووفق الأرقام الصادرة عن أوبن بوليس OpenPolis، فإن منطقة لا كامبانيا هي الأقل تغطية لجهة حضانات الأطفال في إيطاليا، إذ أن فيها فقط 11 747 مكاناً متوفراً مقابل ما يقارب 150 000 طفلاً وطفلة في سن الحضانة.
"هناك أيضاً يقع "نقطة ضوء" Punto Luce وهو مركز ترفيه للأطفال والمراهقين والمراهقات ما بين السابعة والسابعة عشرة تم تأسيسه بالتعاون مع مؤسسة إنقاذ الأطفال Save the Children"، تضيف مدام سانتاربيا. "لكن الأهم هو أننا في عام 2020 افتتحنا هنا مشغل موضة يحترم الأخلاق المهنية اسمه محترف ايفا. وهو ثاني مختبر أسسناه لتحقيق الإندماج الاحترافي للنساء اللواتي تخلصن من حالات العنف".
محترف ايفا، الخروج من العنف أشبه بعناق من الحرير
لكي نتأمل بإعجاب محترف ايفا وهو بكامل تألقه، ذهبنا في العاشر من يونيو/حزيران إلى نابولي حيث يقع ماتشيو أنجيونيو Maschio Angioino ، ذلك القصر ذو الأبراج الهائلة المعتمة الذي يُعدّ أحد رموز تلك المدينة الكبيرة التي تقع عند سفح جبل فيزوف. في هذا القصر تم تنظيم "عرض نابولي لتصميم الأزياء" الذي يعتبر حدثاً تُعرض فيه إبداعات نابولي في مجال الملابس والديكور الداخلي، وهو يحتفي اليوم بنسخته العاشرة. للمرة الأولى، تمّت دعوة محترف ايفا ليساهم في عرض للأزياء هنا، ولذلك كان من الممكن لمس انفعال الخياطات اللواتي صممّن الملابس العشرة التي سترتديها العارضات على منصة العرض.
نحن الآن في غرفة القياس. خُصّصت إحدى قاعات القصر لتكون غرفاً لارتداء الملابس. تسير العارضات الجميلات والطويلات ببطء ودلال. تعدّل الخياطات بنطلونات بالازو ذات الثنيات العريضة قياساً على أجساد العارضات. وكذلك أكمام القمصان المنفوخة والأجزاء العلوية القصيرة والفساتين المزينة بأقمشة متطايرة. يمكن سماع الموسيقى التي ترافق خروج العارضات، في حين تجرب البنات الوضعيات والحركات التي تبرز بأفضل شكل كل واحد من النماذج. وجه العارضات فيه تركيز وجدية، لكن عيونهن جميعاً تلتمع من السعادة.









"بدأت هذه المغامرة عام 2020 مع مشروع موّلته منطقة كامبانيا بالتعاون مع سان لوتشيو للأقمشة San Leucio Textiles، وهي مجموعة من معامل النسيج التي تحفظ تراث مشاغل الحرير التي بناها في نهاية القرن الثامن عشر في سان لوتشيو ضمن ضاحية كازيرته الملك فرديناند الرابع من عائلة البوربون، وهو ملك مستنير"، كما تروي دانيللا داديو التي تنسّق المشغل.
"كان علينا أن نخيط مجموعة من الكيمونو الياباني وكذلك عمامات للرأس من الحرير. لكن عندما حلّ الوباء وانتشر العزل الصحي، بدأنا نصنع كمامات من قماش يمكن غسله، وقمنا بتوزيعها مجانا في مراكز مناهضة العنف في كل إيطاليا، في زمن كانت مثل هذه الكمامات غير متوفّرة".
هناك شريك آخر هام لمحترف ايفا هو أكاديمية الفنون الجميلة في نابولي واسمها آبانا ABANa، وفيها تعلّم المدرّستان مادالينا مارشيانو وانجلينا تيرزو دروس تصميم الموضة، وتشرفان على المشغل بشكل خاص، في حين تعمل كارميلا أموديو على تصميم النماذج. وبفضل نصائحهن يتم وضع اللمسات الأخيرة على عرض الأزياء، مثل اختيار الأكسسوارات والماكياج والتسريحات.
"الملابس التي نعرضها اليوم تم صنعها من قماش الحرير الذي قدمته بشكل مجاني لمحترف إيفا دار غوتشي، وذلك في إطار غوتتشي أب Gucci Up وهو مشروع يرمي إلى بث حياة جديدة في القطع التي تفيض عن الإنتاج، كما تشرح دانييلا داديو. "هذا الأمر يؤكّد نموذج المشروع الذي تم تصميمه لأجل محترف ايفا، والذي يتمحور حول شراكات محترمة تم تأسيسها من خلال إبراز قيمة المنطقة والتركيز على اقتصاد التدوير وإعادة الاستخدام واستدامة البيئة. إنه مشروع يعمل بشكل جيد، وفي ذلك ما يشكل إضافة إلى القيمة الاجتماعية التي يتضمنها محترف ايفا، وتتمثل في الدعم الملموس الذي تم تقديمه للنساء اللواتي خرجن لتوهن من تجارب العنف."
"لا شك في أن الأمر يتعلق بمحترف يختلف عن المشاغل الأخرى"، تقول دانييللا داديو. "هنا يتم احترام وقتَ النساء وبالتالي يتم احترام إيقاعهن في العمل. كما أن المصاعب التي يواجهنها تؤخذ بعين الاعتبار لأن إعادة بناء حياتهن هو أولوية. لكننا نبرز أيضاً مواهبهنّ، والكفاءات التي نسينها، مثل التطريز". وراحت دانييللا ترينا التزيينات الحمراء التي تم رسمها بكل مهارة بالإبرة والخيط على زنار من الحرير الوردي.
ثم ما لبث الليل أن حل، وظهر قمر عملاق في وسط سماء نابولي، واشتعلت باحة Maschio Angioino ماتشيو أنجيوونيو بآلاف الأضواء. الملابس التي تم صنعها في مشغل بيت الأمير تمر الواحدة تلوَ الأخرى. من بينها قمصان طويلة وتنانير بخصر عال وقمصان يتخللها نسيم البحر ويجعلها تنتفخ. وفي كل مرة تصعد فيها عارضة على الدرجات غير المتساوية للمسار المرتفع، تحبس الخياطات في المشغل أنفاسهن.
التصفيق الذي حيّى اصطفاف الملابس التي قدمها محترف ايفا كان بمثابة انعتاق، لكن الخياطات لم يصعدن إلى المنصة من أجل الرد على تحية التصفيق، وفضلن البقاء في الكواليس. ربما يأتي يوم يصعدنَ فيه إلى جانب التصاميم التي عملنَ عليها. أما الآن، فإنهن يتركنَ للثياب أن تكون شاهداً على مسيرة إعادة بناء حياتهنّ واستردادها.






مقصف ايفا: الولادة من جديد
ليس سهلاً على مَن تعرّضنَ للعنف أن يروينَ قصصهن. فرواية القصة لا تعني فقط أن تعيش المرأة من جديد كل المخاوف التي عانت منها، وإنما تعني أن تجد نفسها من جديد مسحوقة بلا هوادة في دور الضحية. "علّمتنا الحركة النسوية أن ما يهم ليس تفاصيل العنف، فالقصص تتشابه كلها لأن العنف المذكر تجاه النساء هو أمر اجتماعي وأمر جماعي ومنتشر بشكل واسع"، كما تذكر ليلى بالادينو.
"مع ذلك، ومع مرور الزمن، اكتشفنا أن العنف كان يُصوّر على أنه نوع من القدر الذي لا فكاك منه، ولا بدائل عنه. لكن تبيّن لنا من خلال تجربتنا أن الأمر ليس كذلك، لحسن الحظ. فالنساء قادرات على التحرر فعلياً من العنف، من خلال اكتشفاهن، من جديد، مدى قوتهن، وشعورهنّ بالفخر إزاء الطريق الذي قطعنه. كما أن نجاحهنّ يمكن أن يستخدم كنموذج يُحتذى وكمصدر إلهام لنساء وصبايا أخريات"، كما تقول العاملة الاجتماعية.
انطلاقاً من هذا المنطق، وبنيّة تغيير قصة العنف، انطلقت تعاونية ايفا في العام الماضي في مغامرة جديدة واستلمت إدارة كافتريا مسرح ميركادانته Mercadante في نابولي، وهو مكان تاريخي يطل على ساحة البلدية Piazza del Municipio مقابل بناء Maschio Angioino. من هنا، ولد "مقصف ايفا" الذي يبدأ بالعمل كل يوم في الساعة الثانية عشرة ظهراً وفي المساء أثناء العروض.
"أعدنا تأهيل مدخل المسرح وجهزناه بلوحات كبيرة تشير إلى أن جميع النساء اللواتي يعملن في مقصف ايفا هنّ نساء خرجن لتوهّن من حالة العنف، كما تشرح ليلى بالادينو. أوضحنا أن كل ما نقدمه في المقصف يتم تحضيره في مطعم "أطايب الطعام في بيت لورينا"، أي تقوم بصنعه نساء خرجن لتوهن من حالة العنف هن أيضاً. كما أننا عرضنا واحداً من أجمل أردية الكيمونو التي صنعها محترف ايفا... باختصار، إنهن هنا، مبتسمات وفخورات ومحترفات... لسن ضحايا".
واليوم، بدأت أصواتهن تصبح مسموعة هي أيضاً.
تيزيانا ارميني واحدة من النساء العاملات في مقصف إيفا. هي امرأة طويلة وشقراء ترتدي ثوباً أسود ينحسر عن كتف واحدة من كتفيها، وعلى ثنيات الثوب ينسدل وشاح أبيض صُنع في محترف إيفا، في الثالث من تموز/يوليو، في البيت الدولي للنساء في روما.
تكلمت تيزيانا عن ولادتها الجديدة. تجمّع حولها نجوم الأغنية الإيطالية مثل فيوريللا مانويا وكاترينا كازيللي ونويمي والممثلات آنا فوغلييتا وفيتوريا بوتشيني وفانيسا سكاليرا والممثل ماركو بونيني؛ وقد اجتمعوا جميعهم ليحتفلوا بولادة Una Nessuna Centomila وهي المؤسسة الإيطالية الجديدة المخصصة للوقاية من العنف الذي يُمارس على النساء، والنضال ضده.
الجمهور الذي اجتمع في باحة المانوليا كان في غاية التأثر أمام وصف أنواع العنف النفسي الذي تعرضت له تيزيانا خلال سنوات. "من أصعب أنواع العنف التي يمكن التعرف عليها هي تلك التي تترك العلامات الأكثر عمقاً، تلك التي جعلت ابني يقول "ماما، لقد أضعتِ ابتسامتك".
في المقابل، شعر الحضور بالغضب من المعارك التي ما زالت تيزيانا تخوضها في المحكمة حيث قال لها القاضي: "لا أصدّق كلمة واحدة مما رويتِه لي".
لكن عندما روت تيزيانا كيف غيّر العمل في مقصف ايفا حياتها انفجر التصفيق بحماسة، لا سيما حين قالت، "اليوم لم يعد زوجي يستطيع أن يؤذيني لأنني صرت أقوى منه بكثير".