هاجر أسعد
في الأسبوعين الماضيين انقلب حال الحجر والبشر في ضاحية بيروت الجنوبية، وكأنَّ الزمن قد عاد بها إلى حرب تموز عام 2006*. تهاوى وابل القصف الذي كان اللبنانيون ينتظرونه، بعد عام من الترقب الحذر، كحبات البرد، فهدم البيوت على رؤوس مَن فيها. كنا نتساءل متى وكيف تبدأ الحرب "الشاملة"، والآن وبعد أسبوع دامٍ في قرى الجنوب والبقاع والضاحية، ما زلنا نقرأ ونسمع تهديدات القادة العسكريين الإسرائيليين بفزاعة توسّع القتال وانزلاق المنطقة إلى الحرب، وكأنَّ هذا الانزلاق يحدث رغماً عن الذين يخطط له. بعد كلّ "ضربة" تنتهك فيها إسرائيل الأعراف والقوانين والمبادئ الإنسانية، تخرج ثلة من دول العالم بتصريحات الإدانة والشجب والبعض الآخر يناشد بعدم التصعيد خوفاً على الجلاد لا الضحية، في هذه الأثناء، تقتنص إسرائيل الفرص لتصفّي حساباتها واحداً تلو الآخر، ظناً أنها تكسب النقاط، وأنّ هذا العالم البائس المتخاذل سيصدق أكاذيبها وحججها. لتتجاهل هذه الدول في النهاية أن إسرائيل هي مَن شرّعت أبواب الحرب وأوقدت نارها ضد لبنان.
أدركنا أنّ طبول الحرب قد قُرعت من ليلة الأحد، 22 أيلول\ سبتمبر، وإن كانت إسرائيل طوال العام الماضي مستمرة بالقصف لكنه لم يكن بهذه الوتيرة والكثافة، إذ سقط للىن أكثر من 1500 ضحية. لم نكن بحاجة إلى إعلان رسمي، فالمشهد كان واضحاً: لا أهداف دقيقة تنأى بالمدنيين، بل قصف عشوائي متعنّت مقصود لا يميز بين "خبيث" و"طيّب".
قريتنا الصغيرة في مرمى النار
لم نتخيل يوماً أن قريتنا الصغيرة، في قضاء صيدا، ستكون يوماً في مرمى النار، اعتقدنا أنها البقعة الآمنة التي سنلجأ إليها عندما تشتد الشدائد. على مدى أشهر من الهدوء الماكر، تهيأت ذاكرتنا الجماعية الحديثة لسيناريو مشابه لحرب تموز. ولأننا سبق وعشنا ويلات الحرب مع إسرائيل، كنا نظن أننا مستعدون لامتصاص الصدمة استناداً إلى التجارب السابقة. لكن الحال تبدّل اليوم وخرج كلّ شيء عن المألوف. في أيام معدودة، تدحرجت الكرة فانهار الهيكل كبيت من ورق.
في بضع ساعات حالكة، تحوّلت الضاحية إلى قطعة من غزة، وبدأ الكلام عن إبادة جماعية ثانية قبيل الذكرى السنوية الأولى لأحداث 7 أكتوبر.
خرج نتنياهو من نيويورك مدعياً بوقاحة سعيه للسلام، وناعتاً الأمم المتحدة من على منبرها بالمهزلة المثيرة للازدراء. ومن مقرّ الجمعية العامة للأمم المتحدة، أمر نتنياهو بتنفيذ عملية "النظام الجديد" دفاعاً عن إسرائيل، "في مواجهة هؤلاء القتلة المتوحشين". أسقطت إسرائيل حوالى 85 طناً من القنابل وسوّت 6 مبانٍ سكنية بالأرض في مشاهد تقشعر لها الأبدان، بهدف اغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصرالله ومجموعة من القيادات، تلا ذلك قصف متواصل على الضاحية الجنوبية بأكثر من 30 غارة في خمار الليل، وتهجير السكان الذين هرعوا بالآلاف تحت القصف، البعض منهم سيراً على الأقدام، من دون وجهة آمنة أو مأوى، فقضى الكثيرون ما بقي من ليلهم في العراء، على كورنيش بيروت أو شاطئ الرملة البيضاء. هذه هي أولى تجليات "النظام الجديد" الذي توعّد به نتنياهو، مدعوماً بترسانة من الأسلحة، والتمويل والدعم الخارجي غير المشروط المستند إلى مبدأ الإفلات من العقاب، بل إن فكرة المحاسبة تغيب تماماً دون أي محاولة لكبح جموح هذا الكيان السفاح، الذي يفتقد إلى جلّ معايير الإنسانية.
في اليوم التالي لإعلان "النظام الجديد"، لا أحد يعلم على ماذا ستستيقظ بيروت وغزة ومعهما سائر مدن المنطقة. ولكن من المؤكد أن بيروت لم تمتصّ الصدمة، بل حبستها داخل كل فرد فيها.
عن مرحلة السلام الزائف
الخطير في الأمر أن العالم، الذي انتقل من عهد الاستعمار في منتصف القرن الماضي إلى الاحتلال الاقتصادي والسيطرة المعلوماتية، يعيد اليوم تكريس البطش والإجرام كأدوات مُعترف بها للسيطرة على الأرض والشعوب، وإجبار كلّ من تُسوّل له نفسه المقاومة على الخضوع.
من خلال اغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصرلله، تعتقد إسرائيل أنها تؤسس لمرحلة جديدة مظهرها السلام الزائف القائم على شتى أشكال المجازر والقتل والتجزير، بما لا يتصوّره عقل. وأمام قلة الحيلة وتواطؤ حكومات العالم، نتساءل عن مصير شرائع حقوق الإنسان والقوانين الدولية التي وُجدت على إثر أتون الحروب العالمية. هل سيتم إعادة صياغة ما لم تمحه الإبادة، وعلى يد مَن؟ وبأي حبر؟
لخّص المؤرخ الإسرائيلي "أفي شلايم" ما تعيشه منطقتنا منذ 1948 بجملة واحدة، ولعله أيضاً رسم ملامح المرحلة التالية، فقال: "لطالما كان الصهاينة المعتدين الأصليين في الشرق الأوسط والرواد الحقيقيين للعنف، والعنف العربي هو ردٌّ فعلي حتميّ في المقابل".
*حرب تموز: بدأت في 12 تموز\ يوليو من عام 2006 بين حزب الله اللبناني وقوات الجيش الإسرائيلي واستمرت 34 يوماً في مناطق مختلفة من لبنان، خاصة في المناطق الجنوبية والشرقية وفي العاصمة بيروت.
كلمات مختصرة لا يشوبها اخلال ومفصلة لا يعيبها املال، لقد أمنت إسرائيل العقاب فلا بد أن تسيء الادب وتسرف بالقتل والدمار والتهجير. لا الوم قادتها لفقدهم انسانيتهم بقدر لوم قادة العرب لفقدهم شهامتهم.
ناهض