ينتظر خصوم النسوية أي فرصة ليثبتوا فشل الحركة ويظهروا كيف أن حملاتها ومشاريعها غير جديرة بالثقة، فيغدو أي خبر لرجلٍ من المحتمل أن يكون وقع ضحية تلاعب فرصةً ممتازة للهجوم.
عموماً، لا ضير في نقد تيارات أو أفعال أو أفكار نسوية بموضوعية وإظهار نقاط القوة والضعف فيها، إلّا أن هناك نوعاً خبيثاً من النقد وهو شبيه بردة الفعل الاجتماعية التي تتهم النسوية "بالإباحية" أو "التطرّف" أو "تفكيك الأسرة". هذا النوع من النقد أقل ما يقال فيه إنه خبيث، ذلك لأنه غالباً ما نراه يصدر عن مجموعة من المثقفين والفنانين والصحافيين الذين يؤطرون الطرح بنظرياتهم الخاصة غير المستندة إلى وقائع وبأسئلةٍ هدفها التشويش العام بعيداً من استنباط الحقائق ومعالجة المشكلة المطروحة. فتأتي مجريات قضية كانفاصال الممثّلَين جوني ديب وآمبر هيرد كدليلٍ جديد وصل على شكل هديّة، سيتسلّح به العديد من رافضي النسوية بالمطلق، لكونها بنظرهم تشكّل تجسيداً واضحاً لمظلومية الرجل وصورةً مثاليّة عن المرأة المخادعة والمتلاعبة وغير الجديرة بالثقة.
لسنا هنا بصدد الغوص في الجدالات القانونية لقضية طلاق الزوجَين ومسار محاكمات التشهير وطلبات التعويض، إنما ما يهمنا منها هو العودة إلى صورة المرأة المتلاعبة والرجل المظلوم التي يبدو أنها ما زالت متجذرة في الوعي الثقافي والديني للشعوب، هي التي بُنيت عبر تراكمية مستمرّة من خلال الحكايات الشعبية واستخدام القوة في إرضاخ النساء عبر التاريخ وحملات التطهير بحق الساحرات والعالمات. وما حوّاء إلا الماكرة التي أسقطت آدم من النعيم إلى الأرض. وميدوسا الإغريقية المرأة الجميلة التي عوقبت بتحويل شعرها إلى أفاعٍ لأنها مارست الحب في المعبد. ميدوسا الخطيرة التي تحوّل كل من نظر إليها إلى حجر. إنها الأنوثة الخطيرة، لكن عقابها لا يتوقف عند تحويل شعرها إلى أفاعٍ، إذ يقرّر المجتمع الأبوي قتلها في النهاية بقطع رأسها في محاولة منه للتخلص من شرورها.
ميدوسا ليست مجرد أسطورة. إنها اختصار لحياة النساء. لحياة امرأة اُغْتِصبت أو مارست الحب، فكان العقاب وصمها بالشرّ. غير أنّ المجتمع البطريركي لا يكتفي بهذا الحد من العقاب، بل يسعى إلى التخلص منها بحجة التخلص من شرها تماماً. إنها أساطير منتشرة في كل مكان، حرفياً. ففي المغرب العربي هناك حكاية شعبية عن جنية تدعى "عيشة قنديشة" يتم تصويرها على أنها ساحرة مخيفة وحسودة تسعى إلى تفريق الأزواج، وتستطيع التحول إلى امرأة فاتنة تغوي مَن يراها فيتبعها إلى حيث تقيم لتلتهمه. باختصار، المرأة في الحكاية الشعبية مغوية وماكرة وضحيتها في النهاية هو الرجل. واليوم، نرى الدفاع عن مظلومية الرجل يتجسد بأشكال مختلفة، أحدها جعل آمبر دليلاً ضد المرأة ذاتها وقضيتها.
تمثّل اليوم آمبر هيرد الصورة المطبوعة في العقل الجمعي ولذا يبدو تأثيرها قوياً. أصبحت الإثبات القطعي المُنتظر لمظلومية الرجل، أو ببساطة، لمقولة: "ألم نقل لكم أن النساء شرّيرات؟!". قد تكون آمبر شريرة لكن ليس لكونها امرأة، بل لكونها نفسها. أما الخوف اليوم، فيتمثّل في أن تترك هذه القضية أثراً حتمياً في كيفية تعامل الجموع مع قضايا من هذا النوع، بخاصة في المنطقة العربية حيث لم يمضِ وقت طويل على نجاح الحركات النسوية في إيصال رسائلها وقضاياها إلى الحيّز العام، فتستحيل قضية جوني-آمبر حجّة جديدة لكارهي النساء ومكذّبيهن. هل سيجعل التجنّي المُحتمل لآمبر على جوني من كل النساء المعنَّفات كاذبات؟ وهل إيذاؤها لإصبع جوني يجعل من كل الرجال ضحايا نساء عنيفات في السرّ؟
السؤال المتكرر لمناوئي النسوية اليوم، ومن ضمنها الحملات ضد التحرش والاغتصاب والتعنيف مثل حملة "نصدق الناجيات"، هو: هل كانت تعني كل تلك الحملات أن هناك رجال وقعوا ضحايا كذب وتجنٍّ بدافع الانتقام، وكيف يمكن حماية الرجال من أن يكونوا ضحايا التقارير الكاذبة؟
هكذا فجأة، ومن دون سابق إنذار، وبينما نحاول دعم قضايا نساء يقتلهن شركاؤهن في بث مباشر وأخريات تزغرد نساء حين يلفظن أنفاسهن الأخيرة وفتيات يتعرّضن للتحرّش والإقصاء اليومي، يُخرج رجال رؤوسهم من بين كل تلك الجراح مُطالبين بحمايتهم من "كيد" النساء لكيلا يصبحوا هم مظلومين يوماً، فتبدأ قصص النساء وقضاياهنّ المحقة في التلاشي مرّةً أخرى.
نصدق الناجيات لأننا كنّا منهنّ يوماً ولم يصدّقنا أحد
تجدر الإشارة إلى أن قضية جوني وآمبر ليست النموذج الأمثل للتعبير عن أحوال النساء العربيات. فالمجتمعات العربية خاضعة لعدد من العوامل القانونية والاجتماعية والدينية التي تجعل مقارنتها بحالات غربيّة غير دقيقة تماماً، ومجحفة في بعض الأحيان، ذلك أن الوضع القانوني والاجتماعي للنساء المقيمات في العالم العربي متخلف عن أوضاع النساء في أوروبا والولايات المتحدة بأشواط. من جهة أخرى، إن القضية نفسها معقدة وعلاقة الثنائي لم تكن يوماً علاقة صحية على ما يبدو، لذا ليس ذكياً الآن طرح الأسئلة حول العلاقة إنما الأجدى إيجاد الإجابة عن الأسئلة حول الظاهرة الناشئة التي نلمسها اليوم على منصات التواصل الاجتماعي.
عندما نخاف على رجل من الظلم وخسارة حياته المهنية، يجب أولاً أن نخاف على عشرات النساء من العنف. وعندما نخاف من خسارة رجل وضعه الاجتماعي، يجب أولاً أن نخاف على عشرات النساء اللواتي خسرن حياتهن بالفعل. لا يعني ذلك العين بالعين، لكن الحل ليس بنقاش المظلوميات لوجه المظلوميات، إنما بإلتذكير أو إيجاد حلول جديدة تلهمها أي قضية جديدة، قانونية أو مجتمعية، من شأنها أن تحمي النساء. حينها ربما لن يقع رجل من بين العشرات أو المئات ضحية لأي ظلم أو إجحاف.
لفهم هذه النظرية القديمة الجديدة، نذكّر بأن نسب التحرش بالنساء وصلت في مصر إلى حوالى 90%. أما في المغرب فوصلت إلى 89% وفي الأردن 55%، إذاً من الطبيعي تصديق الناجيات، من باب النسب قبل السرد، وهي نسب مرتفعة جداً بالأصل تشكّل إثباتاً واضحاً على أن النساء لسن بخير. وبحساب بسيط ستكون نسب الادعاءات غير الصادقة حوالى5% أو 10%، حالها حال نسب الادعاءات الكاذبة في سائر الجرائم. أما من تمّ التحرش بهن فعلاً فلنقل إهن يشكلن 90% من المدعيات. أمام هذه الأرقام، هل نصدق الناجيات أم الجناة؟
بدلاً من أن يخاف الرجال على أنفسهم، الأجدى أن يثقّفوا أنفسهم ويدعموا المساعي النسوية في المطالبة بتعزيز حقوق النساء والفئات المهمشة ليكون الجميع، ومن ضمنهم الرجال، بمنأى من العنف والتحرش والتمييز. حينها فقط سيصبح المجتمع آمناً. وبدلاً من اعتبار قضية جوني وآمبر دليلاً على فشل النسوية، يجدر بالمشككين الإشارة إلى الأثر الإيجابي لحملة "نصدّق الناجيات" في البلاد العربية، هي التي شجّعت مئات النساء والفتيات.
لماذا نصدّق الناجيات؟ لأن الظلم الواقع على النساء منذ آلاف السنين هو المبرّر الأقوى لحملة "نصدق الناجيات". نصادف كل يوم نساء تعرضن للتحرش في العمل والحياة، والأسر أيضاً، من أقرب الناس إليهن، ونعلم أنهن لا يملكن دليلاً سوى خوفهن وعجزهن أحياناً. نصدق الناجيات لأننا كنّا منهن يوماً ولم يصدّقنا أحد.
لماذا نصدق الناجيات؟ لأن آلاف السنين من الظلم تستحق بعدها أن نصدّقهن. لأن حين يكون حجم الظلم الواقع على النساء مرعباً، هل من العدل أن نستكثر تصديقهن لو كانت إحداهن كاذبة؟ هل ننسف آلاف النساء اللواتي لا يمتلكن دليلاً ملموساً في جرائم يصعب إثباتها أصلاً؟ نصدق الناجيات لا يعني أننا قطعاً معهن في كل شيء، بل يعني أننا ندعمهن إلى حين ظهور حقيقة معاكسة فيما لو حُدّد مسار عادل لظهورها.
لماذا يخاف مَن يستقوي اليوم بقضية جوني-آمبر، هو الذي سيستسهل رفع شكاوى التشهير والافتراء التي غالباً ما تنتهي لصالحه؟ خشيته الوحيدة هي أنه قد يكون هو التالي، لأنه لم يتخلص من ذكوريته بعد، فلا يقف إلى جانب النساء من الأساس. ربما يدعمهن بشعارات رنانة لكن دون إيمان حقيقي بقضاياهن. فهو لا يريد أن يعاقَب اجتماعياً لأنه مُكتفٍ بكونه مستفيداً من الوضع الراهن، ومن كونه أخيراً وجد آمبر. صورة المرأة التي يتمنى أن تشبهها كل النساء الشجاعات اللواتي خرجن بقصصهن إلى العلن. لكنّ هذا الحلم لن يتحقّق.