هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: English (الإنجليزية)
يوم الخميس 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، سرْتُ في شوارع الجزائر العاصمة إلى جانب رفيقاتي النسويات ومئات الجزائريين والجزائريات. بُحّ صوتي وأنا أُهتف "فلسطين حرّة حرّة والمُحتلّ برّا برّا"، لأنني على قناعة بأنّ مكافحة الاستعمار جزء لا يتجزأ من نسويتي، ومن نسويتنا، لأنّني أؤمن بأنّ حقوق الإنسان وحقوق النساء وحقوق الأطفال، بأنّ الحريات والمساواة وكلّ ما نحمله في قضايانا كنساء، لا يمكن أن يتحقّق تحت وطأة الاستعمار، ولأنّني لا أساوم حين يتعلّق الأمر بالحرية، ثمّ لأنني ولأننا نتنفّس الحرية.
لأنّني على يقين بالفظائع التي تحدث اليوم، وبما يجب أن يكون خطّين متوازين لا يلتقيان، ولأنني كنتُ وما زلتُ غاضبة، رافضة للظلم، مقتنعة بالحق، ولأنني على قيد الحياة، ولأنّه على تلك الأرض ما يستحقّ الحياة.
لأجل كل ذلك، خرجتُ لأقول كفى قتلاً لأهلنا في غزة وفي فلسطين، ولأن أقول بوضوح إنّ ما يحدث إبادة وتطهير عرقي، وإنّ ما يحدث جرائم حرب لا يجب فقط أن تتوقف، بل لا بدّ من معاقبة المتورّطين فيها، لأنّني ولأننا ما زلنا ندفع ثمن الحرب والاحتلال الذي دام 132 سنة في بلدي، في بلدنا، في الجزائر، ولأنني كافرة بمن لم يقف ضدّ سلب أرضٍ كانت تُسمّى فلسطين وصارت تُسمى فلسطين.
في إحدى اللافتات التي رفعتها النسويات الجزائريات في مسيرة الغضب والتضامن يوم الخميس 19 تشرين الأول/أكتوبر، كُتب بالبند العريض
، وعلى أخرى، "القضية الفلسطينية قضية عادلة، إنه استعمار، إنه احتلال، إنها جرائم ضدّ الإنسانية"، وعلى واحدة ثالثة، "من لم يستطع رفع الظلم فليُخبر عنه".
ضمّت النسويات الجزائريات اليوم أصواتهنّ إلى أصوات الشعوب المتضامنة مع فلسطين المظلومة. تبذل الحركات النسوية قصارى جهدها من أجل أن يتحرّك هذا العالم، وتكفّ الدول عن سياسة الصمت أو الإهمال أو الظلم، فتُرفع الحصانة عن كيان أطلق على نفسه اسم "إسرائيل"، وهو كيانٌ يسلب وينهب ويكذب ويُعذّب، على مرأى من العالم كلّه، وبتواطؤ المتخاذلين.
مؤمنةٌ أنا اليوم، بأنّه لا يمكن أبداً أن ندافع عن حقوق النساء، وأن نؤمن بالمساواة، ونعد بمواصلة النضال من دون أن نُندّد ونرفض كلّ أشكال الظلم والاستعمار، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تصلنا عبر آلاف الصور من فلسطين، والكثير منها تحجبه عنّا مواقع التواصل الاجتماعي لفظاعته وتحّذرنا من مشاهدته لما يتضمّنه من مشاهد لا يتقبّلها العقل الإنساني.
أكثر من أي وقت مضى، أنا مقتنعة بأنّ نسويتنا تتقاطع في عمقها مع الكثير من أشكال الظلم، مع العنصرية، مع الحرب، مع الاستعمار، وتلزمنا الوقوف ضدّ الاحتلال الصهيوني، وضد الأنظمة المُطبّعة، وضد ازدواجية المعايير، وضد الإعلام الإمبريالي، وضد من قالوا لا لوقف إطلاق النار، وضد من يقتلون المدنيّين ويقصفون المدارس والمستشفيات والمعابد ويقطعون الإنترنت والاتصالات على أكثر من مليوني شخص... وضد سلْبِ أرضٍ كانت تُسمى فلسطين وصارت تُسمى فلسطين.
متأكّدة أنا اليوم أنّ وقوفنا كنسويات جزائريات، إلى جانب القضية الفلسطينية، يُترجم إيماننا القوي بالحق في الحياة، بحقوق الإنسان على أصولها وبكامل معانيها، وبحقوق متساوية للجميع، وإيماننا بأنّ فلسطين دولة تعيش تحت وطأة الاستعمار. ويُترجم إيماننا بالكُفر بهذا الاستعمار، والكُفر بأن يتساوى الجلاد مع الضحية، والكُفر بفكرة أن تُهزم فلسطين.
ردّدتُ إلى جانب رفيقاتي من ساحة أوّل مايو إلى ساحة الشهداء هتاف "فلسطين حُرّة حُرّة والمحتل برّا برّا" لأنّني على يقين بأنّه لا بدّ من إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، بتحرير فلسطين، بأن يعيش الشعب الفلسطيني بنسائه ورجاله في أرضه حُرّاً مُستقلّاً بسيادة ورفاهية، بأن يحلّ السلام في فلسطين، بخلاف السلام الذي صوّره الاحتلال الصهيوني والمطبّعين معه، سلامٌ من دون استعمار ومن دون احتلال.
النسوية بالنسبة إليّ هي ما يجعلنا اليوم نقول، "لا وكفى وستوب وخلاص وانتهى ولتحلّوا عن أرض فلسطين"، النسوية اليوم تُلزمنا أن ننتفض إلى جانب شعوب العالم التي خرجت ضدّ استعمار غاشم قتل الأطفال والنساء والرجال والمسنّين والمسنّات، وقتل أجنّة في بطون أمّهاتها، قتل أحلام وقتل آمال وقتل حياة، استعمار خلّف ولا يزال دماءً وآلاماً ودموعاً وجثثاً، استعمار شعاره الوحيد الأحد الدمّار.
أنا على قناعة بأنّه استعمار متكاملُ الأركان، في فلسطين اليوم وذات يوم في الجزائر، أذاقنا عذابه وقسوته، ولا نزال نكرهه، هو الذي شتّت وفرّق، سلَبَ ونهَبَ، اغتصب وعنّف.
ما يحدث اليوم في فلسطين يُبكي الحجر والصخر، ما يحدث مخالفٌ لمعاني الإنسانية والحريات، مخالفٌ لكلّ المصطلحات التي لاطالما تغنّت بها "أكبر الديمقراطيات" التي صرعت رؤوسنا بالمعاهدات والقوانين الدولية واللوائح، "ديمقراطيات" ترسم اليوم أقسى لوحةً دمويةً تطاردنا أينما ذهبنا وأينما حللنا، في بيوتنا، في مقرّات جمعياتنا، في أماكن عملنا، في وسائل النقل وكلّ مكان، ونحن نتأهبّ للنوم، ونحن ننام.
فيلمٌ جعلني أسبحُ بين غزّة القرن الواحد والعشرين والجزائر قبل 193 عاماً
قبل أيام، شاهدتُ مع بعض الرفيقات والزميلات الصحافيات الفيلم الوثائقي "ما وراء الجبهات: المقاومة والصمود في فلسطين" للمخرجة الفرنسية ألكسندرا دولس، بفضل رابط مفتوح إلى غاية يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر الجاري على موقع Vimeo. لم يكن مجرّد صور أو كلام أو كلام، إذ وجدتُ نفسي في ذلك الفيلم الذي يروي مرارة الاستعمار في فلسطين ومخلّفاته النفسية والسيوسيو-اجتماعية على النساء والأطفال والرجال، يُصوّر حجم الدمار النفسي وحجم الكارثة التي تحلُّ بسبب الاستعمار.
ترجمَتْ كلّ ثانية وكلّ دقيقة من لقطات الفيلم الوثائقي، ما أعيشه اليوم بسبب استعمار غاشم، وجدتُ نفسي التي أبحث عنها من خلاله، أجاب عن أسئلة راودتني وتُراودني، حول طمس هويتنا الذي تسبب فيها، عن الأمية التي خلّفها، عن المجتمع العنيف الذي تركه فينا، عن الظلم والحقارة اللذين ما زلنا نجني ثمارهما المسمومة كنساء ورجال في بلدي، عن دمار المجازر والمحارق، عن شعوري بالقهر والاشمئزاز كلّما أتذكّر أنّ جماجم رجال ونساء عاشوا قساوة الاستعمار موضوعة اليوم في متحف الإنسان في باريس، فرنسا.
سأواصلُ ارتداء القبّعتين: قبعة الصحافية التي تكتبُ وتنقلُ أخبار الظلم والاستبداد، وقبّعة الناشطة التي تناضل لإنهاء الاحتلال لأنّها تؤمن بأن لا حقوق فوق أرض مُستعمَرة، أرض تُنتهك فيها حقوق الإنسان وتُعذّب فيها النساء وتُقمع فيها الحريات
تقول مُخرجة فيلم "ما وراء الجبهات" الفرنسية الأصل، ألكسندرا دولس، في مقدّمة الوثائقي، إنّها كانت تعمل عام 2007 على نهاية تصوير فيلم حول التزام النساء الجزائريات في حرب التحرير (1954-1962)، وفي هذا السياق، اكتشفتُ مقالات للطبيبة النفسية الفلسطينية سماح جابر التي تتحدّث فيها عن الآثار النفسية لنظام القمع والاحتلال من أجل العمل على إنهاء احتلال العقل.
كم كلمّتني مقدّمة ألكسندرا دولس... عُدتُ وأنا أشاهد وأسمعُ ما وثّقته المخرجة الفرنسية إلى الشعور الذي انتابني وأنا أتحضّر ورفيقاتي النسويات الذهاب أوّلاً إلى مقرّ السفارة الفلسطينية في الجزائر (الثلاثاء 17 أكتوبر 2023) للتنديد بما يحصلُ في غزة، وإلى الشعور الذي انتابني عندما رخّصت السلطة خروجنا في مسيرة تضامن مع فلسطين. عدتُ أيضاً إلى الشعور الذي انتابني عندما شاهدتُ على شاشة هاتفي الذكي كيف تمّ منع مسيرة تضامنية مع فلسطين في قلب العاصمة (الجمعة 13 أكتوبر 2023). أيضاً، أعادني الفيلم إلى الوراء بحوالي 69 سنة أي عام 1954، ثمّ إلى حوالي 193 سنة أي عام 1830 عندما احتلت فرنسا الجزائر.
عادت بي كبسولة الزمن إلى نساء بلادي اللواتي اغتُصبن، وعُذّبن، سُلبت حرّيتهنّ وأُحرقن وقُتل أطفالهنّ أمامهنّ، شاهدتُ وأنا أسبح إلى الوراء نفسه في غزة وفلسطين، حيث النساء يُقتلن، ويُحرقن، ويُعذّبن ويُقتل أطفالهنّ وحتى فلذات كبدتهن في أحشائهنّ. شاهدتُ امرأة تبحث عن طماطم لدى جارتها لابنها الأبيضاني الحلو ذي الشعر الكيرلي، ابنها الذي قُتل تحت القصف، شاهدتُ طفلة صغيرة تبكي وتقول "هي أمي أعرفها من شعرها، خلّيني أشوفها"، وشاهدتُ جزائرية اسمها جميلة بوحيرد وهي تُعذّب على أيادي عشرة فرنسيين إبان حرب التحرير، شاهدتُ نساءً يُعتقلن من أجل أن يُغتصبن من طرف الفرق العسكرية الاستعمارية، كنتُ أقارنُ وأقول في نفسي أنّه لا مجال للمقارنة، فما يحدثُ بفلسطين وما يحدثُ غزة، نفسه ما حدث في الجزائر: استعمار واحتلال ظالم.
صحيح أنّ الفيلم الوثائقي انتهى، لكنّني لم أنته أنا بعدُ من السباحة إلى الوراء وعودة أدراجي إلى ماضي بلادي والتأرجح بين ما يحدثُ في فلسطين وما حدث في الجزائر. لهذا، كان تحرُّكنا كنسويات في الجزائر أمر بديهي ولا يحتاج إلى أي تفكير أو تخمين.
آن الأوان ليكون القضاء والقدر منحازَين لفلسطين
إذاً، أرى اليوم أنّ فلسطين مُستعمرة مثلما كان هو الحال بالنسبة للجزائر، ولأن الاستعمار يُخلّف فينا كلّ ما يحمله قاموس العنف والدمار من كلمات، ولأنّ النساء الفلسطينيات أكثر عرضة للعنف الجنسي والجسدي، وللتشرد، والنقص في الرعاية الصحية والإغاثة إما للإنجاب أو للإجهاض في ظروف آمنة، ولأنّ أطفالهنّ أكثر عرضة للقتل بسبب عدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، ولأنّهم أكثر تأثّراً بنقص التغذية والرعاية الصحية، سأواصلُ ارتداء القبّعتين: قبعة الصحافية التي تكتبُ وتنقلُ أخبار الظلم والاستبداد، وقبّعة الناشطة الحقوقية التي تناضل من أجل إنهاء الاحتلال لأنّها تؤمن بأن لا حقوق فوق أرض مُستعمَرة، أرض تُنتهك فيها حقوق الإنسان وتُعذّب فيها النساء وتُقمع فيها الحريات.
ولأنّ مقابل ذلك كان ولا يزال هناك صمود ومقاومة وعزم وإصرار ونضال من أجل حقوق متساوية وإيمان بالسيادة والحرية، أرى أنّ القضاء والقدر يجبُ أن يكونا مع فلسطين، مع الحرية لفلسطين، مع شعب فلسطين، مع نساء وأطفال فلسطين، مع أرض فلسطين.