صورة إيغور أوميلاييف على Unsplash
بينما يحتفي المبرمجون بعبقرية خوارزمياتهم، تنكشف القصة في جوهرها كفصل جديد من مسلسل قديم عنوانه "الإقصاء والتمييز" ضد النساء.
فإن كان أحدهم يظن أن العصر الرقمي سيجعل تحديات النساء أقل، فهو مخطئ للأسف. فما يبدو من الخارج واعداً أو يُروَّج له إعلامياً، يخفي في العمق واقعاً أكثر تعقيداً. عصر الذكاء الاصطناعي الذي يجتاح حياتنا اليوم، ويترك كثيرين في حيرة حول مستقبل وظائفهم ومهنهم، يضع أعباء إضافية على كاهل النساء. إنها معضلة جديدة تُضاف إلى سلسلة طويلة من المعضلات التي يفرضها زمن استبدال البشر بالروبوت، والعقل الإنساني بـ"تشات جي بي تي".
فلننتقل إلى صلب الموضوع. فالمعلومات التي سأعرضها هنا لم أعتمد في جمعها على الصحف والقراءات والتجربة فقط، بل وجّهت سؤالاً مباشراً إلى أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي: "ما التحديات التي تواجهها النساء في عصره؟" ولم تأتِ الإجابة إلا كما توقعت تماماً: كارثة!
خوارزميات بـ"عقلية القرن الماضي"
لنبدأ من الجذور: البيانات التاريخية. فالذكاء الاصطناعي ليس كياناً وُلد من فراغ، بل هو ثمرة تراكمات إنسانية امتدت لعقود من المعرفة والتجربة والصراع والحضارة. غير أن هذه الخوارزميات تحمل في عمقها ميراث الماضي، ذلك الماضي المثقل بتهميش النساء، وابتلاع حقوقهن، والتعامل مع قضاياهن بوصفها شأناً هامشياً لا أكثر.
وكأنها "عقدة أوديب" الرقمية (وهو تعبير استخدمه تشات جي بي تي للأمانة، وقد أضحكني وأعجبني)، فالذكاء الاصطناعي يتعلم من ماضينا. وماضينا، للأسف، يعج بالقوالب النمطية التي تضع الرجال في أدوار القيادة، والنساء في أدوار "المساعدات" و"التابعات"، إضافة إلى أدوار الرعاية التي تُعدُّ في بعض المجتمعات، كجزء "بيولوجي" من تكوين النساء، وكأنّ المرأة تولد مثلاً طبّاخة ومربية بالفطرة.
ومع هذا التاريخ الهائل من التمييز الجندري والتحيّز، لا يمكن أن ننتظر من الذكاء الاصطناعي أن يكون أكثر إنصافاً تجاه النساء.
على سبيل المثال، يقوم نظام توظيف "ذكي" بفلترة السير الذاتية للنساء تلقائياً، لأنه استمدّ معارفه من قرون من التمييز في سوق العمل. فهو ليس عنصرياً ولا ذكورياً بحدّ ذاته، بل هو انعكاس لما صنعه البشر، يحمل ذاكرتهم وتاريخهم، ذلك التاريخ الذي لم يكن يوماً منصفاً كثيراً للنساء.
وحتى في مجال الإقراض والتمويل، يمكن أن يرفض النظام مشروعاً واعداً لامرأة، لمجرد أن سجلاته مليئة بـ"لا" عند تمويل سيدات الأعمال في الماضي. إنه ليس تحيزاً، بل ببساطة إنه "منطق" البيانات!
بعض لهجات العربية في سيري كانت تاريخياً تقدم صوت امرأة فقط، لكن مع التحديثات الجديدة أضافت أحياناً خيار صوت الرجل أيضاً.
الخادمة "سيري" و"ديب فيك" للابتزاز
بينما يواجه الرجال خطر الأتمتة في وظائفهم، تواجه النساء خطراً مزدوجاً. فالذكاء الاصطناعي لا يكتفي بتهديد وظائفهن في قطاعات مثل خدمة العملاء والسكرتارية، بل يرسّخ صورة المرأة ككائن "خدمي" في العالم الافتراضي أيضاً. هل لاحظت مثلاً أن معظم المساعدات الصوتية، مثل سيري وأليكسا، تأتي افتراضياً بصوت نسائي، وتُبرمج لتقديم الخدمة بطريقة ودودة، وتنفيذ الأوامر دون نقاش. هذا التصميم ليس مجرد صدفة، بل يعكس صورة تقليدية للمرأة كخادمة صوتية، مطيعة ومرحّبة، وهو نمط متوقع في كثير من المجتمعات التي لا تمنح النساء استقلالية كاملة. بالطبع، يمكن للمستخدم تغيير الصوت إلى صوت رجل في معظم اللغات واللهجات، لكن الافتراضي غالباً يرسخ هذه الصورة الذهنية، ويعيد إنتاج التحيزات الاجتماعية في الفضاء الرقمي.
مثلاً، بعض لهجات العربية في سيري كانت تاريخياً تقدم صوت امرأة فقط، لكن مع التحديثات الجديدة أضافت أحياناً خيار صوت الرجل أيضاً.
إذاً، لم يكتفِ الذكاء الاصطناعي بشكله الحالي من إخراج المرأة من سوق العمل التقليدي، بل أعاد تعليبها في صورة رقمية تليق بالقرن الحادي والعشرين: "جنية" رقمية تجيب على أسئلتك، لكنها لا تملك رأياً، ودائماً ما تعتذر وتعاملك بلطف، حتى حين تبدو فظاً.
والمأساة لا تتوقف هنا. فقد أصبح الذكاء الاصطناعي أداة جديدة للابتزاز والتحرش عبر الفضاء الرقمي. فـتقنية التزييف العميق (Deepfakes) تحوّلت إلى كابوس حقيقي، إذ يمكن استخدامها لإنشاء محتوى إباحي مزيف وواقعي بشكل مخيف، يستهدف النساء على نحو خاص، ويُوظَف للتهديد أو التشهير. وكأن معركة المرأة في العالم الحقيقي لم تكن كافية، لتنتقل اليوم إلى فضاء السايبر، حيث لا يوجد "زر" للحذف النهائي.
بينما يرى البعض أن الأتمتة ستُريحنا من الأعمال الروتينية، فإنها تلوح في الأفق كتهديد مباشر للعديد من الوظائف التي تهيمن عليها النساء. أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على القيام بمهام خدمة العملاء، والسكرتارية، والمهن الإدارية بسرعة فائقة، مما يهدد بتشريد أعداد هائلة من النساء، اللواتي يجاهدن أصلاً للحصول على عمل منصف ومرتّب لا يتم تحديده بحسب الجنس.
ولم يكتفِ الذكاء الاصطناعي بذلك، بل اخترع طريقة جديدة "ذكية" لمعاقبة النساء في سوق العمل. فأنظمة التوظيف الآلية، التي تُقيِّم السير الذاتية، قد تنظر إلى أي فجوة زمنية في مسيرة المرأة المهنية (مثل إجازة الأمومة) على أنها "نقطة ضعف" أو تقصير، ما يقلل من فرصتها في الحصول على الوظيفة أو الترقية.
الذكاء الاصطناعي ليس شريراً بذاته. الشر يكمن في عقليتنا التي تصنعه. أما الحل فهو في إعادة التوازن إلى المعادلة: لا يمكننا أن نتوقع من أنظمة تُصمم من منظور أحادي أن تكون عادلة.
من هنا، يكمن أملنا الوحيد ربما في زيادة مشاركة النساء في صناعة هذا العالم الجديد القائم على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وهذه المشاركة يجب أن تمتد من فرق التصميم إلى مجالس الإدارة، لتصبح الأصوات النسوية مسموعة، وتُمنع إعادة إنتاج التهميش والعنف الاقتصادي والمادي في عصر جديد يُفترض أن يكون متقدماً وعادلاً.




























