يومَ أدركتُ أنّني عاجزة عن النوم بسبب الصحون المتّسخة في المطبخ، فهمت أنّ هوس النظافة الذي يصيب كثيرات من النساء المتزوجات قد وصل إليّ أخيراً.
لساعةٍ كاملةٍ ظللت أتقلّب في الفراش، أهرب من الصحون لكنها تصرّ أن تلاحقني، حتى أرغمت نفسي على الاستسلام للراحة، قائلةً لرأسي المرهق: "لن تهرب الصحون".
لكنني ما إن استيقظت صباحاً، حتى وجدت يديَّ تتجه تلقائياً نحو المجلى. لا أذكر إن كنت قد سمحت لنفسي بفنجان قهوة قبل أن أبدأ في معركة الجلي.
لم أسمح لهوس النظافة بأن يفتك بي
حين بدأت أتأخر عن العمل بسبب الفوضى التي تنتظر من يرتّبها في غرفة النوم، وحين صار الذنب يطوّقني لأنني لم أُنهِ مسح الغبار، وبدأت أرتعب من فكرة أن يزورني أحدٌ من دون موعد و"يفضحني" باكتشافه أنني لستُ سيدة منزل مثالية، أنسى أحياناً باب الثلاجة مفتوحاً، أكره نشر الغسيل، أؤجل ترتيب الخزائن... عندها فقط انتبهت أن معاركنا، نحن النساء، تبدأ من تلك التفاصيل الصغيرة التي لا يراها أحد، التفاصيل التي تبدو تافهة من بعيد، لكنها في الحقيقة تتحوّل إلى حرب يومية.
أدركت أن الضغط الاجتماعي لا يكتفي بملاحقتنا في العمل أو في الشارع، بل يتسلل إلى المطبخ، وإلى غرف النوم والصالون، وحتى إلى تلك اللحظة الهشة حين نخرج إلى الشرفة لنشعل سيجارة... فإذا بالزجاج المبلل بالمطر يفسد علينا نشوتنا، ونشعر بالغيظ لأن لمعانه لم يعد كما كان.
ربما نفكّر بقتال المطر، فهو أيضاً يحاصرنا ويركل جهودنا بدمعتين. "المطر رجل أيضاً"، ذات مرة قلت لنفسي من باب الفكاهة، قبل أن أقفز من مكاني متوجّهةً إلى الواجهة الزجاجية، لتنظيفها... لكنّ المطر كان ماكراً بما يكفي ليعود في اليوم التالي ويفسد كلّ شيء من جديد.
أؤكد أنني لم أسمح حتى الآن لهوس النظافة والترتيب بأن يفتك بي تماماً، ما زلت أقاوم ببسالة، وأحاول التخفيف عن نفسي، وأسامحها على التقصير أو التعب، وأتساهل مع أيام الكسل التي يطالبني خلالها جسدي بالاسترخاء أمام أي شاشة... "نتفلكس"، "شاهد"، "سبيس تون".
لكن الأمر ليس بهذه السهولة، إنه هوسٌ في النهاية، نُحقن به منذ اليوم الأوّل، وسرعان ما يتحوّل الصحن المتّسخ إلى إهانة لكرامتنا كنساء، وتتحوّل الغرفة الفوضوية إلى اتهام لا لبس فيه بأننا غير مثاليات وأننا ناقصات وغير مستحقّات.
تستحضر رؤوسنا بسرعة البرق تعابير مثل "العيب" و"العار"، بسبب ثيابٍ كدّسناها فوق السرير فيما كنا نبحث عن فستان يليق بالمناسبة، ينجّينا من التعليقات الجارحة ويجعلنا مميّزات ومندمجات ومقبولات. فستان على الموضة من جهة، ويساير تقاليد المجتمع والعيب وما يجب وما لا يجب، من جهة أخرى، وأن يكون جميلاً ويناسب "ستايلنا".
معاركنا، نحن النساء، تبدأ من تلك التفاصيل الصغيرة التي لا يراها أحد، التفاصيل التي تبدو تافهة من بعيد، لكنها في الحقيقة تتحوّل إلى حرب يومية.
وفي تلك اللحظة المكثفة من البحث، نقع في مستنقع آخر وهو الثياب التي تتكدّس فوق السرير كجبل عظيم من الهمّ والجراح. وقبل أن يؤنبنا أحدٌ، نحن من يتولّى الأمر، نقتل أنفسنا لترتيب الفوضى بأسرع وقت ممكن، كي لا نتأخر عن موعد العمل، أو عن العشاء العائلي المرتقب. نلهث خلف التفاصيل، نكدّس التعب في أجسادنا، ثم يُقرع الجرس، فنركض إلى حيث ينبغي أن نكون، متعبات، نعم، لكن جميلات!
معركة خاسرة أمام "ماء التبييض"
ثم، في لحظةٍ ما، وجدتُ نفسي أستسلم لـ"ماء الجافيل"، أو ما يُعرف بـ"ماء التبييض". لقد انتصر عليّ الجافيل. لم أعد أعبأ كثيراً بأظافري، إذ أعلم مسبقاً أن الجافيل سيفتك بها عاجلاً أم آجلاً.
اقتنعت، في نهاية المطاف، أن نصيبي من الأظافر المرتّبة والطلاء السليم لا يتجاوز 48 ساعة، وهي المدة التي تصمد فيها أظافري، وفق تجربتي الخاصة، قبل أن تخضع وتتهشّم تحت سطوة الجافيل.
لم أعتقد في حياتي أنني سأقع في الفخ، وأن ما أصاب كثيرات سوف يصيبني، ظننت لسنوات أن بوسعي مواصلة جنوني وتجاهل الأعمال المنزلية قدر ما أشاء، لكن يبدو أن المهمة ليست سهلة.
لا، ليس سهلاً أن تنامي والمواعين متّسخة، أو أن تستقبلي أصدقاءك قبل أن تكنسي الأرضية وتلمّعي زجاج غرفة النوم التي لا علاقة لها بالزيارة بأي شكل. لا، ليست بسيطة هذه المعارك، كأن تتقبّلي عجزك عن تحضير عشاء لذيذ، وأن تكتفي بساندويشات الجبنة والخيار، من دون أن تشعري بأنك امرأة أقلّ مما يُفترض.
أعيش مع شريك غير متطلّب ومتعاون إلى حدّ كبير، وربما هذا ما يخفّف عني شيئاً من وطأة تأنيب الضمير الاجتماعي الذي يلاحقني طوال الوقت. لكنّ الأمر لا يتعلّق بالشريك وحده... إنّه أعمق من ذلك، كأنّه مزروع في مكانٍ ما داخلنا، أشبه ما يكون بـ"جينات"!




























