كرّست الدراما العربية، على مدى عقود، صورة نمطية للمرأة أعادت إنتاج سرديات المجتمع الأبوي، وحاصرت تجارب النساء ضمن قوالب اجتماعية ضيقة تمنعهن من امتلاك أصواتهن الحقيقية على الشاشة. غالباً ما تظهر الشخصيات النسائية بشكلٍ مألوف لا يثير الجدل، ويعجز عن التعبير عن تعقيدات الواقع اليومي لحياة النساء.
ورغم هيمنة هذا الخطاب، تظهر من حين إلى آخر أعمال درامية تكسر هذه الأنماط، وتعيد فتح النقاش حول تمثيل المرأة في الدراما. في موسم رمضان 2025، برز مسلسلا "إخواتي" و"لام شمسية" كنموذجين قدّما شخصيات نسائية تتجاوز التصورات الذكورية والأدوار التقليدية، وتلامس شيئاً من واقع النساء وتجاربهن المتنوعة.
"إخواتي"... نساء متمردات
يتميّز مسلسل "إخواتي" (تأليف مهاب طارق، إخراج محمد شاكر خضير) بخروجه عن السرديات النسائية النمطية، مقدّماً ثلاث شقيقات يخضن صراعاتهن وفق قناعاتهن الخاصة، لا وفق الأدوار التي يفرضها المجتمع الذكوري.
تظهر ناهد (كندة علوش) كامرأة قوية من بيئة شعبية، تعمل في صالون تجميل، تواجه انقطاع الطمث المبكر بحرقة، لكنها ترفض الاستسلام. لا ترى في العقم نهاية لأنوثتها، بل تختار التبنّي، في سردية نادرة تفتح أفقاً أرحب لفكرة الأمومة.
أحلام (روبي) أرملة شابة فقدت زوجها المدمن على الكحول في وقت مبكر. تعمل سائقة أوبر، تجوب شوارع القاهرة وتحكي حكايتها للركاب بثقة ورضى. سعيدة بنفسها وبمهنتها، "ابنة بلد" تعرف كيف تضع الحدود، ولا تسمح لأحد بتجاوزها. تجد راحتها في الجلوس ليلاً على ضفة النيل، وتستمتع بتفاصيل يومها البسيطة. لا ترى في غياب الرجل نقصاً، ولا تسعى لملء هذا الغياب. رفضت حب رجل متيم بها بكل بساطة: لأنها لا تبادله الشعور. لا رغبة لديها في الانضمام إلى منظومة مجتمع يرفض وجود امرأة مستقلة. أحلام تعيش وفق معاييرها الخاصة، لا وفق ما يُفرض عليها.
كرّست الدراما العربية، على مدى عقود، صورة نمطية للمرأة أعادت إنتاج سرديات المجتمع الأبوي، وحاصرت تجارب النساء ضمن قوالب اجتماعية ضيقة تمنعهن من امتلاك أصواتهن الحقيقية على الشاشة.
أما سهى (نيللي كريم)، فهي خياطة ذات شخصية صلبة وعصيّة على الترويض. في أحد المشاهد، تضرب متحرشاً في الشارع وتفضح آخر في مكان عملها. خلف هذه الحدة، اضطراب دفين وغضب متراكم لم يجد طريقه إلى الشفاء، يدفعها أحياناً إلى ردود فعل عنيفة. لكن تمردها ليس نتيجة اضطرابها فقط، بل نابع من كبريائها ورفضها للصمت أمام الظلم. تتأرجح سهى بين نقمتها على المجتمع ورغبتها في القبول، فتفكر بإجراء عملية تكبير للثديين، معتقدة أن ذلك سيمنحها ما لم تستطع انتزاعه بتمردها. امرأة حقيقية، بتقلباتها وتناقضاتها، مثل كثير من النساء اللواتي لم يُمنحن فرصة فهم ما يؤلمهن فعلاً.

" لام شمسية"... موضوعات محرمة
يقارب مسلسل "لام شمسية" (تأليف مريم نعوم – ورشة سرد، إخراج كريم الشناوي) موضوعات جريئة طالما اعتُبرت من التابوهات في الدراما العربية، وذلك من خلال شخصيات نسائية متمرّدة على القوالب النمطية.
نيللي (أمينة خليل) تعيش صراعاً صامتاً مع ألم لا تستطيع البوح به: التشنج المهبلي. مرض تحيط به الوصمة ويغلفه الصمت، ما يدفعها إلى معركة مزدوجة ضد الألم وضد الشعور بالذنب. بعد محاولات يائسة لفهم ما يحدث وزواج يوشك على الانهيار، تختار أخيراً أن تتصالح مع جسدها. تقرر المواجهة، لا من أجل إنقاذ العلاقة فقط، بل من أجل نفسها أولاً، بعدما أنهكها الخجل والإنكار، وسئمت الادعاء بأن كلّ شيء على ما يرام.
هبة (أسيل عمران) أنجبت طفلاً ليس بدافع الرغبة في الأمومة، بل كمحاولة لإنقاذ زواجها. لكنها لم تتمكن من القيام بهذا الدور. في حالتها، لا تعود مشاعرها المتناقضة تجاه الأمومة إلى جراح في الطفولة أو خلفيات تراجيدية معتادة، ومع ذلك لا تُقدَّم تجربتها بوصفها خللاً يجب إصلاحه أو مرحلة مؤقتة ستزول. بل تُعرض كاحتمال مشروع، يقف خارج المنظومة الثقافية التي تختزل النساء في أدوار الإنجاب والرعاية، وخارج التصنيفات الأخلاقية التي تبرّر أو تجرّم كل خروج عن السياق الاجتماعي.
أما نهال (ثراء جبيل)، فهي "المرأة الأخرى"، أو كما يُطلق عليها في المجتمعات العربية: "خطّافة الرجال"، تسمية تعكس تماماً العقلية الذكورية التي تُبرّئ الرجل من الخيانة وتحمّل المرأة وحدها عبء الإغواء. لكن نهال لا تُقدَّم في لام شمسية كملاك، ولا تُجسَّد أيضاً على الطريقة التقليدية كشيطانة. قوة العمل تكمن في أنه لا يكتفي بإدانة الخيانة، بل يُحمّل مسؤوليتها لكلا الطرفين. فنهال شخصية مكتوبة بلحم ودم: أنانية أحياناً، عاشقة أحياناً، تخطئ، تتورط، تندم، تعتذر، تحب وتحزن. ليست أداة لخدمة سردية أخلاقية تدين النساء وتعفي الرجال، بل امرأة معقّدة كغيرها، تعيش قصتها خارج الكليشيهات.
ما تفعله مسلسلات مثل "إخواتي" و"لام شمسية" هو مساءلة للسرديات التقليدية حول النساء، وسعي لتقديم نماذج جديدة لبطلات يمتلكن حق التعبير والرفض واتخاذ القرار بحرية. هذه النماذج، رغم محدوديتها في المشهد الدرامي العام، تمثّل تمرداً على عقود من التنميط والتمثيل المشوّه للمرأة، وتفتح الباب لإعادة التفكير في كيفية سرد حكايات النساء، بالاعتراف بتفرّد كل تجربة نسائية وحقها في أن تكون كما تشاء، بلا تبرير ولا خوف من الأحكام.




























