ريهان تقف أمام خيمتها، خلف منسوجاتها التي تصنعها بيديها – سوشال ميديا
داخل أحد مخيمات النزوح في منطقة مواصي خانيونس جنوب غزة، تمرّ ريح الخريف على وجوه الخيام كما تمرّ الذكريات على قلوب ساكنيها. تجلس النازحة ريهان شراب، 31 عامًا، أمام خيوط من الصوف الملوّن تتناثر حولها كأسرار صغيرة تهمس بالحياة وسط الدمار. تمسك بإبرة وخيط لتنسج سترة لطفل لم يولد بعد، أو قبّعة تدفئ رأس طفل آخر في المخيم. كل غرزة تحمل جزءًا من روحها، وكل خيط يشدّها إلى الحياة من جديد، في محاولة للتخلّص من شهور العزلة التي عاشتها وحدها خلال عامي الحرب.
وبجوارها يجلس طفلاها ركان، 11 عامًا، وريتــال التي تصغره بعامين، يراقبان أمّهما بشغفٍ صامت. لم يدركا بعد أن تلك الخيوط الملوّنة ليست مجرّد صوف، بل الجسر الرفيع الذي تعبره والدتهما نحو التعافي من الصدمات التي عايشتها خلال الحرب، ومحاولة بطيئة لترميم ما تبقّى من صحتها النفسية.
"العلاج النفسي في غزة بحاجة إلى علاج"
تقول ريهان: "حتى لو انتهت الحرب على غزة، فإن الصدمات النفسية التي عشناها خلال هذين العامين ـ نحن النساء وأطفالناـ كفيلة بأن تتركنا في دوّامة من الكوابيس والعزلة الطويلة. ما زلنا نعيش مأساة الحرب بكل تفاصيلها: نزوحٌ مستمر، وضيقٌ في المعيشة، وارتفاعٌ في أسعار الطعام، وأعباءٌ منزلية لا تنتهي… حتى وإن كانت داخل خيمة."
تتابع ريهان حديثها: "ما زلتُ أسمع أصوات القصف والقذائف كلما وضعت رأسي على الوسادة. طفلاي يرفضان النوم بعيدًا عني، ينكمشان بجانبي كأنّ غولًا يترصّد خطفهما. يرفضان الخروج بمفردهما أو اللعب كما يفعل الأطفال عادة. ركان، ابني الأكبر، تنتابه أحيانًا نوبات صراخ وبكاء بلا سبب واضح، وعندما يسمع صوتًا مرتفعًا يرتجف وكأن قصفًا جديدًا وقع. لا يزال يعيش صدمة تلك الليلة… ليلة نزوحنا تحت نيران القذائف من منزلنا."
طفلاي يرفضان النوم بعيدًا عني، ينكمشان بجانبي كأنّ غولًا يترصّد خطفهما
تتذكّر ريهان اللحظة التي دوّى فيها الانفجار في منزل شقيقتها، كيف هرعت إلى المكان تصرخ بأسمائهم/ن، وكيف أخرجوا شقيقتها وأطفالها من تحت الركام، بينما بقي زوج شقيقتها هناك… صامتًا إلى الأبد.
فقدت ريهان ثمانين فردًا من عائلتها، ولا تزال تعيش آثار الفقد، لكنها تحاول أن تقوى على وجعها. تشارك أحيانًا في جلسات الدعم والتفريغ النفسي المخصّصة للنساء في المخيمات، والتي تنظّمها مبادرات شبابية، لكنها تقول: "حتى العلاج النفسي في غزة بحاجة إلى علاج… الجميع منهار في هذه المدينة، والتعافي ليس أمرًا سهلًا".
بدأت ريهان تعتمد على وسائل ذاتية كنوع من العلاج النفسي؛ شيئًا فشيئًا صارت تجد في الصنارة ملاذًا، فكلّ غرزة تنسجها تحمل جزءًا من نجاتها، من قوتها، ومن شغفها بالحياة رغم الرماد. تحوّلت خيمتها الصغيرة إلى ورشة تضجّ برائحة الصوف الممزوجة برائحة الأمل. تأتيها النساء، يجلسن حولها، يتبادلن الهموم والقصص، ويتحدثن عن مأساة صحتهن النفسية التي باتت تُثقل حتى أنشطتهن اليومية وتنعكس على صحتهن الجسدية.
وجدت في مهنة الحياكة، وفي مخالطتها لنساء المخيم، علاجًا لجراحها النفسية، ونافذةً صغيرة للأمل وسط الركام؛ بابًا يعيد إليها شيئًا من توازنها وصحتها النفسية بين الأنقاض.
بدأت ريهان تعتمد على وسائل ذاتية كنوع من العلاج النفسي؛ شيئًا فشيئًا صارت تجد في الصنارة ملاذًا، فكلّ غرزة تنسجها تحمل جزءًا من نجاتها
"أنتِ أجمل فتاة"
على الجانب الآخر من مخيمات النزوح جنوب غزة، كانت مي الشريف، أمٌّ في الثلاثينيات، تحاول مواساة طفلتها الصغيرة لانا ذات العشر سنوات. تهمس لها: "أنتِ أجمل فتاة"، محاولةً إخفاء قلقها بابتسامة مطمئنة، فيما آثار الصدمة ترتسم على جسد طفلتها كمرض جلدي تمدّد على بشرتها، وغزا الشيب خصلات شعرها الصغيرة.
تقول مي عن حياة ابنتها قبل الحرب والصدمة: "كانت لانا مليئة بالحياة… طفلة مرحة، تحب الرسم واللعب، وبشرتها كانت صافية وناعمة. لكن بعد الليالي الطويلة من القصف، وبعد أن كنا نركض من بيت إلى آخر، ومن مدرسة إلى مأوى، بدأت ألاحظ بقعًا بيضاء تظهر على وجهها ويديها."
أخبر أطباء الإغاثة الطبية في غزة الأسرة أن ما تعانيه لانا هو بُهاق جلدي ناتج عن صدمة نفسية شديدة. لم تُصب بشظايا، لكن الحرب تركت جرحًا عميقًا في جسدها الصغير.
تقول الأم: "لا تزال لانا ترتجف من أي صوت… حتى المفرقعات في الشارع تُبكيها. لم تعد تنام، ولا تتحدث كثيرًا، ثم بدأت البقع تكبر أمام عينيّ". وتتابع بصوت مرتعش: "لانا لا تعرف كيف تعبّر، لكنها تسألني كل يوم: ليش شكلي صار هيك يا ماما؟… ولا أجد جوابًا يخفف عنها".
وتختم الأم بمرارة: "الحرب لم تأخذ بيتنا فقط… بل سرقت طفولتها وتركت وجعًا على وجهها لا يُمحى."
"لانا لا تعرف كيف تعبّر، لكنها تسألني كل يوم: (ليش شكلي صار هيك يا ماما؟)… ولا أجد جوابًا يخفف عنها"
وحذّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من أن نحو 1.1 مليون طفل وطفلة في غزة يواجهون أزمة حادة في الصحة النفسية ويحتاجون دعمًا نفسيًا واجتماعيًا عاجلًا.
كما أشار تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في غزة (أوتشا) إلى أن 80% من النازحين/ات، ومعظمهم من النساء والأطفال، يعانون اضطرابات في الصحة النفسية، وقد ارتفعت هذه الاضطرابات بشكل حاد خلال العامين الماضيين. وبيّن التقرير ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق وأعراض الصدمة، في ظل مخاطر نفسية متزايدة ناتجة عن فقدان الدعم الاجتماعي وغياب الرعاية النفسية المتخصصة.
غزة في "صدمة جماعية مزمنة"
تقول الأخصائية النفسية في مركز غزة للصحة النفسية، بشرى أبو ليلى، 50 عامًا: "بعد عامين من الحرب يمكننا القول إن غزة تعيش حالة صدمة جماعية مزمنة أكثر من كونها مرحلة تعافٍ نفسي. فالمجتمع بأكمله _من الأطفال إلى النساء_ أصبح يعيش في دائرة مستمرة من الخوف والفقد وعدم اليقين، وسط بيئة محطّمة ماديًا ونفسيًا على حدّ سواء."
وتضيف: "تحمل النساء العبء النفسي الأكبر، فقدنَ أحبة، وتحمّلن مسؤوليات أسرية مضاعفة، وأحيانًا أدوارًا جديدة لم تكن مألوفة قبل الحرب". وتوضح أن الضغوط التي تواجهها النساء_من رعاية الأطفال في ظل الخطر إلى فقدان المسكن والخصوصية_ "تولّد اضطرابات نفسية خطيرة ناتجة عن الاحتراق النفسي، والقلق، والاكتئاب، والعزلة"، مؤكدة أن "معظم النساء لا يجدن مساحة آمنة للتعبير عن أنفسهن أو تفريغ هذا العبء المتراكم".
وتبيّن أبو ليلى أن كثيرًا من النساء: "يخشين طلب المساعدة النفسية خوفًا من الوصمة، أو لأن الأولوية تبقى للبقاء المادي".
أما الأطفال، فتقول: "جيلٌ كامل ينشأ اليوم في قلب الصدمة". وتوضح ظهور أنماط متكررة من اضطرابات النوم، والتبول اللاإرادي، والانفعال الزائد أو الانسحاب، وأن كثيرًا منهم/ن "يفقدون/ن الشعور بالأمان حتى داخل المخيمات". وتضيف: "طفل غزة لم يعد يعرف معنى المستقبل، هو فقط يتعلّم كيف ينجو في الحاضر."
وتشير إلى أن: "الحرب تسللت إلى خيال الأطفال، فألعابهم اليوم تتمحور حول الطيران والقصف والإنقاذ"، بينما "لم تعد المدرسة مكانًا للتعلم، بل لتذكّر الفقد، فالكراسي الفارغة تهمس بأسماء أطفال وطفلات قُتلوا".
وتحذر أبو ليلى من أن مؤسسات العلاج النفسي نفسها تعاني من الصدمة، إذ "يعيش المعالجون الظروف ذاتها"، ما يحدّ من قدرتها، لكنها تؤكد: "نحاول توفير مساحات آمنة للحديث أو التفريغ… من خلال اللعب، والرياضة، والرسم، والدبكة، وتشجيع النساء على ممارسة هواياتهن."
وتختتم: "نحاول أن نغيّر الفكرة السائدة بأن العلاج النفسي ترف… فهو علاج حقيقي. ومعركة غزة مع التعافي النفسي طويلة جدًا وتحتاج إلى إمكانات كبيرة وإعادة إعمار مراكز العلاج والسماح بدخول فرق متخصصة."

جيلٌ مثقلٌ بصدمات يصعب احتواؤها
"ما نعيشه منذ عامين في غزة تجاوز كل ما اختبرناه سابقًا"، هكذا يختصر محمد أبو عفش مدير الإغاثة الطبية الواقع النفسي في غزة.
ويصف أبو عفش الوضع قائلًا: "النساء في غزة يعشن اليوم حالة ضغط نفسي مزمن، ليس فقط بسبب القصف والدمار، بل بسبب فقدان الشعور بالأمان وانهيار منظومة الحياة. هذا الواقع يضعهن في حالة نفسية قاسية تنعكس مباشرة على صحتهن الإنجابية، فكثير من النساء الحوامل يعانين من ارتفاع الضغط وسكري الحمل الناتج عن التوتر المستمر."
ويشير أبو عفش إلى ازدياد حالات الإجهاض التلقائي بسبب الخوف والضغط الشديد، وإلى اضطرابات واسعة في الدورة الشهرية بين الفتيات، وصولًا إلى انقطاع الطمث في أعمار مبكرة بين 26 و30 عامًا نتيجة القلق المستمر وسوء التغذية والمجاعة.




























