الصورة الرئيسية: فيروز في عزاء ابنها – مصدر الصورة: وسائل التواصل
حين وصلت الأيقونة الموسيقية اللبنانية فيروز إلى باحة الكنيسة في بلدة بكفيا، يوم أمس 28 تموز/ يوليو، حيث أُقيمت مراسم عزاء ابنها الموسيقي والفنان زياد الرحباني، الذي توفي في مستشفى الخوري في بيروت، توقّف الزمن لحظة. تهافتت العيون والكاميرات والأضواء نحو وجه واحد: فيروز، التي أطلت على الجمهور في ظهور علني نادر.
زياد الرحباني ابن فيروز والموسيقي الشهير عاصي الرحباني، كان موسيقياً وكاتباً ومسرحياً، وترك أثراً كبيراً في الموسيقا اللبنانية والعربية.
فيروز الهالة والسيدة العظيمة اختارت صومعتها منذ سنوات. حاولت أن تخفض الضوء، أن تختلي بنفسها، بعائلتها وذكرياتها، أن تعيش ربما حياة عادية وبسيطة لبضع سنوات. إلا أن الضوء كان يلاحقها حتى يوم وداع ابنها، بدا وكأن الناس ينسون موتاهم بأسرع ما يمكن بحثاً عن قصة جديدة. نسوا زياد قليلاً وانكبوا على فيروز الفنانة، فيما كانت فيروز الأم في أقسى لحظات حياتها، تتلقى العزاء بابنها، وهو أصعب ما قد تمرّ به الأمومة.
عن حقّ فيروز في الحزن
لكن النجومية تعني أن يصبح الحزن ملكية عامّة، وأن تجبر الأيقونة على ابتلاع قلبها ومقاربة القهر بوجه بلا ملامح، لأن للملامح ثمناً، تحسب الابتسامة بشكل الوجه وتقاس درجة الحزن بلون البشرة. يتحوّل الحداد إلى مسرحية يحق للجميع مشاهدتها، وإن كان الجميع حزيناً أو شاعراً بأن الفنان الراحل شكّل جزءاً من ذاكرته وثقافته، لكنّ الالتفاف حول حزن فيروز وشكله كانا سبباً إضافياً دفعا الحشود إلى بلدة المحيدثة اللبنانية، حيث دُفن زياد.
كأي أمّ ربما كانت تتمنى فيروز أن تستطيع الصراخ، أن تمسك جثمان ابنها وتبكي لساعات وأن تنثر ورودها وصلواتها كما تشاء فوق وجهه النائم إلى الأبد، دون أن تقاطعها كاميرا أو صورة خاطفة
حين غادرت فيروز الكنيسة متوجهة إلى القاعة المجاورة حيث تتلقى العائلة العزاء، علماً أن المسافة بين المبنيين أقل من 50 متراً، تحرّكت عدسات المصوّرين لتلاحق فيروز مجدداً. تخيّلوا أن امرأةً لا تستطيع أن تمشي 50 متراً على راحتها يوم دفن ابنها!
حاولنا دخول القاعة، لكنّ تدافع المصوّرين والناس لم يكن يتوقف، الجميع يريد التقاط اللحظة الفيروزية النادرة. وإن كنتُ أتفهم الدافع الصحافي للإصرار على لحظة كهذه، إلا أن الدافع الإنساني يستوقفني، فبعض الحزن يستحق.
لا أعلم إن كان هذا الحب الجماهيري الذي يطوّق فيروز كأيدٍ أبديّة تظلّلها، يساعدها أو يخفف عنها، أو أن الشهرة تتحول في تلك اللحظات الشخصية المقدّسة إلى عبء وحاجز بين المرء وقلبه. سيّدة كفيروز يموت الناس من أجل رؤية وجهها، تعجز عن تحصيل حق بسيط بعدم انتهاك لحظة خاصّة بينها وبين ابنها وشريك نجاحاتها.

فيروز... كأيّ أمّ
كان زياد، ابن فيروز وعاصي، هو من شكّل بأسلوبه المختلف صورة فيروز الأيقونة، فيروز "كيفك إنت" (كتابة وألحان زياد الرحباني) و"زعلي طوّل أنا وياك" (كتبها الشاعر جوزيف حرب ولحّنها زياد الرحباني).
كأي أمّ ربما كانت تتمنى فيروز أن تستطيع الصراخ، أن تمسك جثمان ابنها وتبكي لساعات وأن تنثر ورودها وصلواتها كما تشاء فوق وجهه النائم إلى الأبد، دون أن تقاطعها كاميرا أو صورة خاطفة، ودون أن يكون عليها أن تلتزم بقواعد معينة وأن يُطلب من حزنها أن يضع نفسه في علبة ويتصرّف بجبروت... أي ظلم هو أن يطلب من أم ألا تبكي وتصرخ فوق قبر حبيبها المولود من قلبها.
"عسى أن يعزّي حبنا لفيروز قلبها الجريح حين تنفطئ عدسات الكاميرات وينتقل مصطادو اللحظات إلى قصة أخرى"
لقد رأيتُ فيروز لأوّل مرة في حياتي، تسللت بين الزحام، سرقت نظرة واحدة واستطعت أن أراها، وهي لحظة أحتفظ بها في قلبي إلى الأبد. ربما في تلك اللحظة أدركت أن فيروز حقيقية وأنها تشبه أمّي حين تفقدنا، فتحاول أن تتماسك بدل أن تنهار.
رأيتُ فيروز وتعاطفت معها، لأنّ أحداً لم يمنحها حقها في الصراخ في لحظة الوداع القاسية تلك.
هذا اليوم، لم يكن جرحاً جديداً يُفتح في قلب فيروز الأم وحسب، بل كان إذكاءً لجراحٍ سابقة لم تُشفَ بعد. فقبل سنوات، اختطف الموت ابنتها ليال. تلك الفاجعة الشخصية، التي احتفظت بها فيروز الأم في محراب صمتها، بعيداً عن أعين الجمهور ومطاردة الأضواء، تُعمّق اليوم من قسوة المشهد. فبينما كان زياد يمثل امتداداً لروحها الفنية والتمردية، كان وداعه العلني بمثابة انتهاكٍ مضاعف، ليس لخصوصيتها وحسب، بل لقدسية ألمها الأمومي المزدوج.
لقد رنّمت فيروز "أنا الأم الحزينة" وسمعناها بصوتها آلاف المرات، كانت يومها تروي حزن مريم العذراء يوم صلبوا ابنها يسوع. اليوم حين وصلت فيروز إلى عزاء زياد، سمعت سيّدات، يرددن كلمات الترنيمة لها، لم تسمعهنّ ربما، لكنني فعلت، قلت في قلبي: "عسى أن يعزّي حبنا لفيروز قلبها الجريح حين تنفطئ عدسات الكاميرات وينتقل مصطادو اللحظات إلى قصة أخرى".




























