الصورة الرئيسية: من حفل إطلاق ألبوم بنت المصاروة – وسائل التواصل
من مِنا لم يسمع "هشرب حشيش"؟ الأغنية التي كتبتها وغنتها لوكا سلام ضمن الفيلم القصير "الخيط والحيط" (2015)، تحولت إلى نشيد تمرد لدى جيل واسع من الفتيات. بروح ساخرة ونقد لاذع، واجهت الأغنية القهر الاجتماعي والديني، وكسرت سلسلة الأوامر المفروضة منذ الطفولة: "البنات بيلبسوا فساتين، ما يلعبوش في الطين".
لكن الأغنية النسوية في مصر لم تبدأ هنا. قبل أكثر من قرن، كتب سيد درويش بنت اليوم (1923)، داعياً النساء إلى المطالبة بحقوقهن السياسية: "قومي اصحي من النوم وطالبي بحقوقك". ثمَّ عاد ليرصد التمرد نفسه في "حرّج عليّا بابا ماروحش السينما"، عن فتاة تحاول مراسلة شاب سراً.
في الثمانينيات، غنّت سعاد حسني البنات البنات بأسلوب مرح ونسوي خفيف، من كلمات صلاح جاهين، لتقول ببساطة إن الفتيات يصلحن لقيادة الاقتصاد والبلاد.
أما في 2013، فأعادت دينا الوديدي روح التمرد الجارح مع الخرافة، عن جسد المرأة كعورة وعن الخوف كأداة قمع، لتغني:
"ركب المرأة عورة
ضحكة المرأة عورة
صوتها من خلف ثقب الباب عورة"
ثم جاء ألبوم بنت المصاروة خطوة جديدة، تنقل الأغنية النسوية من التعبير الفردي إلى مشروع جماعي، حين أطلقته مغنية الراب ميام محمود في آب/ أغسطس 2014 كحصيلة ورشة نظمتها مؤسسة "نظرة" تحت عنوان "عروستي"، ونظرة للدراسات النسوية هي مجموعة تهدف إلى العمل على استمرارية وتطور الحركة النسوية المصرية والإقليمية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
شاركت في الألبوم ثماني فتيات تتراوح أعمارهن بين 16 و32 عامًا، وقررن إعادة كتابة الأغاني التراثية ذات الحس الذكوري من موقع نسوي، حيث غنين:
"قولوا لأبوها ضحكوا عليك ضحكوا
لا شرفها بين رجليها"
من سيد درويش إلى لوكا سلام، ومن سعاد حسني إلى فتيات "بنت المصاروة"، تتغير الألحان والوجوه، لكن الرسالة تبقى: الصوت النسوي لا يُطفأ.
الأغنية النسوية مساحة فنية آمنة
في هذا السياق تقول الناقدة ماجدة خير الله في حديثها إلى "ميدفيمنسوية": "بوسع الأغنية النسوية أن تُحدث فرقاً في واقع النساء بمصر، إذا عبّرت عن قضاياهن بصوت واضح، يتصدى للقيود الاجتماعية المغلوطة، ويفتح الباب أمام أسئلة جوهرية حول العدالة والحرية، بعيداً عن الفهم المشوّه للنسوية بوصفها عداءً للرجل."
أما الدكتورة مروة عبد المنعم، مؤسسة فرقة "الحرملك"، فترى أن الأغنية النسوية لا تُختزل في الكلمات الجريئة، بل تتعداها إلى خلق مساحات فنية آمنة تعزز حضور النساء في المشهد الموسيقي.
وتقول مروة إن "الحرملك" شكّلت خطوة مهمة في هذا الاتجاه، إذ تضمّ الفرقة طاقماً نسائياً بالكامل، من العازفات إلى القائدة، وهو ما يمثل انتصاراً لحضور النساء في مساحة لطالما طغى عليها الحضور الذكوري.
وتضيف: "نعمل على تقديم مقاربات موسيقية جديدة لأغانٍ قديمة بروح معاصرة، ونُقدّم عروضاً حية أحياناً دون غناء، كجزء من بناء هوية نسوية خاصة ضمن المشهد الموسيقي."
تُعد فرقة "الحرملك" أول فرقة نسائية تتقن عزف الطبلة الصعيدي، تلك الآلة التقليدية التي طالما ارتبطت بالفرق الرجالية واحتُكرت لسنوات داخل هذا الإطار. تقول عبد المنعم: "كنت أفتقد وجود نموذج نسائي في هذا المجال رغم أن الموهبة موجودة. من هنا جاءت فكرة تأسيس الحرملك، كمساحة فنية حقيقية تفسح المجال أمام النساء الموهوبات للظهور والتألق."

الأغنية النسوية تستفيد من التراث
لجأت مبادرة "ذات للتنمية المستدامة" إلى توظيف الآلات الشعبية لتعزيز حضور النساء وقضاياهن من خلال الأغنية النسوية، معتمدة على آلة السمسمية، وهي آلة وترية تراثية ترتبط بمدن القناة في مصر، وتُعرف لدى قطاع واسع من المصريين كمرافقة لأغاني المقاومة الشعبية ضد الاحتلال.
وقدّمت المؤسسة أغنية بحلم يا بحر كثمرة لجلسات حكي تفاعلية جمعت نساءً وفتيات تحدّثن خلالها عن أحلامهن في كسر حلقات العنف والتمييز، ضمن حملة "كسر الداير" التي أُقيمت خلال فعاليات الـ 16 يوماً لمناهضة العنف ضد النساء عام 2024.
تقول نيفين عبد العزيز، ميسّرة برامج العلاج بالفنّ في المؤسسة، إن الأغنية دمجت عبارات خرجت بعفوية من المشارِكات أثناء جلسات الحكي، وتمت معالجتها وتحويلها إلى جمل غنائية تُغنّى بشكل مباشر، بحيث تشعر النساء بأن الأغنية تعبّر فعلاً عن أصواتهن وتجاربهن.
وتتابع نيفين: "كان لاختيار السمسمية بعد رمزي، فقد أرادت المؤسسة تحويلها من أداة مقاومة للاستعمار إلى أداة لمقاومة العنف المجتمعي، لتصبح الموسيقى وسيلة تعبّر بها النساء عن أحلامهن في الأمان والحرية. فالأغنية النسوية قادرة على كسر الصمت المُحيط بقضايا النساء، من خلال لغة فنية وشعبية قريبة من الوجدان الجماعي."
راب نسائي في مواجهة العنف الزوجي
قدمت مؤخراً مطربة الراب النسوية ليلى فضة أغنية تارات كأغنية نسوية مقاومة، حيث تتناول كلماتها بحساسية وغضب مكبوت الأطر الاجتماعية السامة التي تُفرض على النساء في علاقاتهن، سواء في الحبّ أو الزواج أو المجتمع عامةً.
يكشف كل مقطع عن شكل من أشكال العنف الرمزي أو النفسي أو الجسدي الذي تواجهه النساء، ويتم تمريره تحت مسميات مثل "المحبة"، "الست لازم"، "المجتمع يقول".
تدعو الأغنية بشكل غير مباشر إلى تفكيك الصورة النمطية للمرأة "المطيعة" ومساءلة الأدوار التقليدية داخل العلاقة، وتمكين النساء من الرفض والتفكير المستقل. يقول أحد مقاطع الأغنية:
"ما ينفعش أكون قاعدة براحتي
لو ضربني فعشان مصلحتي
لو ضربني ما هو عادي، ما هو صاحبي
لو ضربني عشان تارات تارات تات"
يكشف هذا المقطع واحدة من أكثر المقولات التي تُستخدم لتبرير العنف ضد الزوجة. وكانت ليلى فضة قد أدت أغنيتها بلا موسيقى، لكن قوة الأداء الصوتي والإيقاع الداخلي للكلمات يعوضان هذا الغياب التام. ينبع من الإلقاء إحساس حقيقي وانفعال مدروس، تصحبه نبرة رفض لا لبس فيها، تجعل المستمع يشعر أن الكلام يُقال له شخصياً.
بين الفنّ والتراث، وبين الغضب والبوح، تواصل الأغنية النسوية في مصر كسر الصمت وإعادة رسم ملامح الصوت النسائي في الفضاء العام. هي ليست فقط تعبيراً عن الألم أو الرفض، بل مساحة حرة تتيح للنساء أن يحلمن، يعترضن، ويبدعن... بصوتهن، وبشروطهن.




























