هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: English (الإنجليزية)
تبعد غزة من بيتي آلاف الكيلومترات وتبعد قرى الجنوب اللبناني الحدودية نحو مئتي كيلومتر من مكان عملي. لدي ما يكفي من القهوة وما يكفي من الملح والخبز والورق من أجل الكتابة، إذا استطعت إليها سبيلاً. أملك أشياء كثيرة لحياة يسيرة، ولا أعاني من أزمة وقود أو غذاء، كما أن مولدة الحي الكهربائية تغطي ساعات انقطاع كهرباء الدولة، لذلك تستطيع ثلاجتي الحفاظ على جودة الطعام، وأستطيع استخدام مجفف الشعر بعد الاستحمام، حتى لا يلفحني برد نوفمبر الخفيف.
لم تصل الحرب إلى الحي الذي أسكن فيه، وعلى الأرجح لن تفعل. لم يقطع أحد الإنترنت عني وهاتفي يعمل بشكل جيد وأستطيع ساعة أشاء الاتصال بأمي وبحبيبي وبأصدقائي، أستطيع حتى تضييع ساعة من الوقت في الألعاب الإلكترونية. لا مشكلة أبداً ويبدو كل شيء على ما يرام.
ماذا أفعل بهذا الحزن كله؟ ومن أين يتولّد هذا الحنق كل مساء؟ وكيف أمارس الحياة فيما يموت الناس في مدينة أخرى؟
كل يوم أعيد طمأنة نفسي بلا جدوى، وأحاول ترتيب أولوياتي كما كانت قبل أن تبدأ الحرب وقبل أول صاروخ... ينتهي الأمر عند أسئلة استدراكية لا نهاية لها، ولكن ماذا أفعل بهذا الحزن كله؟ ومن أين يتولّد هذا الحنق كل مساء؟ وكيف أمارس الحياة فيما يموت الناس في مدينة أخرى؟ ومَن يلتقط قلبي حين يسقط وهو يشاهد أطفالاً يبحثون عن أهاليهم في الأزقة؟ وكيف أجري مقابلة صحافية عادية مع امرأة تركت بيتها في جنوب لبنان وذهبت لتختبئ في شماله حتى لا يموت أطفالها في قذيفة أو قصف فوسفوري؟
نحن سكان المدن الهادئة نسبياً، البعيدة من قواعد الاشتباك وساحات المعركة، هل نبقى حقاً على قيد الحياة وهل ننجو بالفعل؟ وهل هذا هو ما يسمّى أماناً؟ حين تصل أعداد القتلى والضحايا والمشردين إلى هذا الخط الأحمر من فقدان الإنسانية والصوت والعجز الإقليمي والدولي والشخصي، يصبح المتفرجون محكومين بالموت اليومي، ويصبحون أيضاً مُستَهدفين. عليهم أن يموتوا يومياً وبصمت من هول الصور واشتداد المعركة والخوف من توسّعها في أي لحظة، فيما يحاولون في الوقت نفسه الصمود والعيش بين أخبار الدمار والمناطق التي تكاد تتبخر من على سطح العالم، بسبب القصف والقسوة وجنون الحرب.
"يمكنهم هزيمتنا إذا نجحوا باختراق معنوياتنا"، لا أريد تصديق ذلك يا عمر المختار، أريد اعتبار هذا الحزن مجرد نزوة عابرة، تأتي بعدها معركة يربح فيها محبو الحياة رافضو الحروب، وينتهي العراك... مرة واحدة وإلى الأبد.