إنه شجار قديم، أكتب عنه بين حين وآخر. الشجارات التي لا نضع لها خاتمة، تتحوّل إلى ندبة، والندبة لا تموت.
طوال الصيف وأنا أعاند فكرة الوحدة، أحاول السير من حولها، باتجاه أي شيء، كنتُ بالفعل خائفة من مواجهة حقيقية مع الغرف الفارغة والشرفة التي لا يجلس عليها أحد، حتى أنا، بنسختي الجديدة...
كانت هوايتي الجلوس على الشرفة، هناك كنت أقشر بزور دوار الشمس وأرميها كما لو أنني أرمي خيباتي الواحدة تلو الأخرى، وأواصل توبيخ مرتكبيها وتأديب العالم. كان بزر دوار الشمس بمثابة انتقام صغير، على طريقة النساء غير الآبهات بعد الآن.
كرسي وطاولة صغيرة، خصّصتهما للشرفة ولانتقاماتي اليومية. قلتُ إن الصيف وقت ملائم لتصفية الحسابات القديمة. جهّزت الشرفة، حتى إنني نظّفت أرضيتها، حتى لا يوقفني شيء، وحتى لا أرتبك في منتصف انتقام ما، بسبب كثافة الغبار أو رمل الجدار القديم المتساقط.
لكنني أشاهد الشرفة المهجورة، وقد غدت توازيني وحدةً... أعرف أن الصيف يوشك على إنهاء الزيارة، وقد مضى زمن الانتقامات، وأخشى أن سبتمبر لن يمنحني فرصةً أخرى. إنه مثلي، لا يحب الإفراط في منح الفرص، أو هكذا يروق لي أن أراه.
طوال الصيف، استخدمتُ المنزل للنوم فقط، هربت من الوحدة، ومن الصقيع الداخلي الذي يحدثه حرّ بيروت وصيفها الطويل. شغلت نفسي بكل ما يبعدني من اللوحة التي في منتصف غرفة المعيشة، حيث حبيبان وبيت صغير شديد الدفء.
سألني أحد الجيران عن صوت الموسيقى الذي لم يعد يخرج من شقتي، قال: "ماذا عن أم كلثوم؟". قلتُ له إن قميصه يروق لي وخرجت مسرعة. لم يكن القميص جميلاً بالفعل، ولم أكن أحاول مغازلة جاري، لكن تلك الأسئلة التي تسقط فجأة، تذكّر المرء بجزء ميت من روحه، جزء لم يعد يعدّ الموسيقى شيئاً ضرورياً، لا سيما أن الأغاني تتحوّل أحياناً إلى سبب إضافيّ للألم. كأن تقول أم كلثوم "فكّروني إزاي هو أنا نسيتك؟"... أليست هذه الجملة تحريضاً صريحاً على البكاء؟
لا تبالِ(ي) لحزنك، سوف يملّ ويغادرك على الأقل ليوم واحد... هكذا أجّلت أحزاني وهكذا لم أشفَ منها
لقد اخترت هذه الوحدة منذ سنة تقريباً بعد محاولة حب فاشلة وصداقة انتهت بأسوأ ما يمكن. قلت وقتها إن العزلة أفضل ردّ على الطعنات، وطريقة ممكنة للشفاء. لا أعرف إن كنتُ شفيت بالفعل، لم أعد آبه. لكنني ما زلت متمسكة بالوحدة، بطقوسي البسيطة قبل النوم، فيديوات "تيك توك"، كأس نبيذ، تنسيق ثياب النوم (شورت أخضر، قميص أزرق...)، ثم التأكد مرّتين من أن الباب مقفل وأن مفتاح السيارة ليس ضائعاً.
تخبرني صديقتي عن قسوتي، تقول إنني لا أفهمها ولا أتوقّف عند حزنها عندما تشكوه لي. ربما بالفعل صرت قاسية. لكن ما هي القسوة؟ هو القرار الذي يتخذه الروح بعد الآلام الكبيرة، وتصبح اللامبالاة هي الطريقة الوحيدة للتعامل مع الحزن... لا تبالِ(ي) لحزنك، سوف يملّ ويغادرك على الأقل ليوم واحد... هكذا أجّلت أحزاني وهكذا لم أشفَ منها، لكنني على الأقل لم أستسلم، ولم تأكلني الكآبة، حاصرتها في زاوية في قلبي، وحين تحاول التمرّد، أغنّي. ترعبني فكرة الاستسلام للضعف.
حين تساعدني "هانا" في تنظيف الشقة، توبّخني بعينيها على الإهمال الذي أعامل به ثيابي وأغراضي، تضحك كثيراً حين تسمعني أنتقد نفسي والفوضى التي أعيش فيها. تترك كيسها بلا انتباه مفتوحاً على الكنبة، وبلا قصد أرى صورة أطفالها في الكيس، إنها تأخذهم معها حتى إلى المنازل التي تعمل فيها... لم أسألها أبداً عن ذلك، لكنني أشعر أنهم معنا في البيت وأشعر بشيء من الأمومة والدفء.
حين ننتهي، وأعرض عليها أن أوصلها في طريقي، دوماً ما تتجه إلى المقعد الخلفي، إنها معتادة على ذلك، تفهم أن تاريخ العبودية ليس مجرّد زمن مضى، وتحاول التأقلم مع الأمر، تحاول تفهّم العنصريين وتمنحهم ما يريدونه لعلهم يعتقونها. أنظر إليها فتفهم، وتجلس بقربي ممتنّةً، كأنني منحتها هدية. كل مرة أحذّرها بأن لا تعيد حركة الجلوس في الخلف لأننا صديقتان. تبتسم، أشعر بأن أطفالها أيضاً يبتسمون.
طوال الصيف لم يزرني أحد سوى "هانا" وأطفالها.




























