هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
صور نواة
للسنة الخامسة على التوالي، نظّم الموقع الإلكتروني التونسي المستقل «نواة» مهرجانه من 26 إلى 28 أيلول/سبتمبر في مقره الكائن في قلب العاصمة، وهو بيتٌ تقليدي تحوّل إلى فضاء ثقافي حيّ.
على مدى ثلاثة أيام، تنقّل الجمهور الغفير، الذي بات وفيّاً لهذا الحدث الثقافي السنوي، بين فضاءاتٍ احتضنت عروضاً موسيقية، ومعرضاً تكريمياً لشهداء الصحافة الفلسطينية، إلى جانب عروض سمعية بصرية، ومشاهد مسرحية، ورقصات معاصرة. وقد شكّل المهرجان مساحةً لاكتشاف أعمالٍ فنيةٍ تستفزّ وتدهش وتثير القلق في آنٍ معاً.
تضمّن قسم «Innawation» (عروض من إنتاج نواة) في هذه الدورة أعمالاً إبداعية لثلاث فنانات: الممثلة والمنتجة وصال العبيدي، والراقصة أميمة البحري، ويافا السعيدي التي قدّمت عملاً غامراً في مجال فنون الفرجة، يجمع بين الكيمياء والفن في تجربةٍ فريدة تتجاوز المألوف.
بيان نسوي طليعي
"لعنة 1" أو "عين حوتة" هي الجزء الأوّل من ثلاثيةٍ مسرحية تتوزّع على ثلاثة فصول، وهو عملٌ أدائيّ يمزج بين البانك والروك قدّمته وصال العبيدي في اليوم الأوّل من المهرجان.
على مدى 45 دقيقة مشبعة بالطاقة والغضب، تفكّك العبيدي آليات الهيمنة الذكورية في عرضٍ صيغ بعنايةٍ من البداية إلى النهاية، ضمن رؤيةٍ إخراجيةٍ متماسكة.
يستند العمل إلى نصٍّ متعدّد الأصوات يمزج بين مقتطفاتٍ من ترجمةٍ إلى الدارجة التونسية لمؤلَّف فيرجيني ديبانت "نظرية كينغ كونغ"، وشهاداتٍ لنساءٍ تونسياتٍ تعرّضن للعنف القائم على النوع الاجتماعي، إلى جانب قصةٍ واقعيةٍ مروّعة تضيف إلى العرض عمقاً وصدىً مؤلماً.
تقول وصال العبيدي: "انبثقت فكرة العرض عندما اكتشفتُ هذا البيان النسويّ الطليعيّ "نظريّة كينغ كونغ"، الصادر عام 2006، أي قبل إحدى عشرة سنة من انطلاق حركة "أنا أيضًا" (Me Too). قراءته غيّرت حياتي ونظرتي إلى العالم. خلال فترة الحجر الصحي، قمتُ بترجمته إلى لغتي الأم، الدارجة التونسية، ثم تساءلتُ: ماذا يمكنني أن أفعل به؟".
وهكذا بدأت الفنانة بعرض مقاطع مختارة من ترجمتها أمام صديقاتها، ثم في فضاءاتٍ خاصة مفتوحةٍ للعموم مثل المطاعم والمقاهي. هناك، اكتشفت أنّ الغضب الذي تبثّه كلماتها يثير فوراً تفاعلاتٍ وجدانيةً عميقة لدى كثيرٍ من النساء في الجمهور، إذ تقدّمت بعضهنّ إليها بعد العرض ليروِينَ تجاربهنّ الشخصية.
تقول وصال: «عندما شرعتُ في جمع هذه الشهادات، خطرت لي فكرة ربطها بمقتطفاتٍ من نصّ ديبانت، فنسجتُ منها خيوط هذا العرض المسرحي».
القاعة التي احتضنت عرض «لعنة 1» في مهرجان «نواة» صغيرة الحجم، وتتسع بالكاد لـ25 شخصاً، لكنها غصّت بالجمهور مساء 26 أيلول/سبتمبر 2025.
ظهرت وصال العبيدي متشحةً بالأسود من رأسها إلى قدميها، واقفةً فوق أسطوانة سوداء تتحرك كدمية ميكانيكية، في هيئة تذكّر بحركة البانك خلال ثمانينيات القرن الماضي. وكان ذلك مرتبطاً بتجربة الشباب لدى الكاتبة فيرجيني ديبانت، التي عاشت تجربة قاسية تمثلت في تعرضها للاغتصاب وهي في السابعة عشرة، بينما كانت هي وصديقة لها تستوقفان السيارات (أوتو ستوب) للتنقل من مكان إلى آخر.
منذ الوهلة الأولى، حدّدت وصال العبيدي نبرة العرض عبر مونولوج بصيغة المتكلم، مانحةً الجمهور فرصة الانغماس مباشرةً في تجربتها الشخصية وتجربة الشخصيات التي تستحضرها على المسرح: "آنا مْرَا نحسْ روحي أقربْ "لكينغ كونغ" من "كيتْ موسْ". النساء إلّي ما ياخْذُهِمشْ، ما يْعرسوشْ بيهمْ، ما يْجيبوشْ معاهمْ الصغار. نحكي على روحي كَ مْرَا ديمة يذكروني إلّي كل حاجة فيا بالبرشةْ، ياسرْ نِشري الشّبوكْ، ياسرْ مجوْدرةْ، ياسرْ سمينةْ، ياسرْ مستهوشةْ، حرشةْ ، مِسترجلة، ديمة ، هكا." [1]

كلمات فجّة وقاسية، تنهل من لغة الشارع الجريئة، كأنها قنبلة لغوية تنفجر في وجه المتفرّج.
ومع ذلك، لا يحصر العرض الرجال في خانة الخصم فحسب، بل يذكّر أيضاً بأنهم ضحايا قوالب جندرية جاهزة: "هناك رجال يكرهون العنف، يبكون، خجولون، هشّون، حسّاسون، يحبّون تنظيف البيت ورعاية الأطفال".
بهذا المزج بين الغضب الشاعري والمساءلة الاجتماعية، تصوغ وصال العبيدي بياناً مسرحياً يضع الإصبع على جراح العلاقات الجندرية في تونس وخارجها.
«هذا ليس نصّي»
تُعنون وصال العبيدي الفصل الأوّل بعبارة «هذا ليس نصّي»، غير أنها تفصح منذ اللحظة الافتتاحية للعرض عن شهادتها الشخصية بكل جرأة: "أنا أيضاً أُهنتُ، ضُربتُ، وكُسرت ذراعي في سياق علاقة عاطفية متوترة".
تتقاطع التجربة الذاتية للفنانة التونسية مع مسار الكاتبة الفرنسية، لتؤكّد أن موضوع العنف المسلّط على النساء جرحٌ كونيّ يوحّد النساء في كل مكان.
في خلفية العرض، تُعرض على الشاشة صورة فيديو لبركة سباحة موحشة، في ما يشبه استعارة بصرية عن الجهد المضني الذي تبذله النساء هنا وهناك للحفاظ على مكاسب قد تبتلعها المياه وتتلاشى في أية لحظة. وها هنّ يجدّفن بعناد ضدّ التيار.
"الاغتصاب هو الحرب الأهلية"
في الفصل الثاني من "لعنة 1"، والمعنون "هذه المرأة المليئة بالرذائل لا تُغتَصَب"، يطفو موضوع الاغتصاب بكل قسوته.
تقول ديبانت، وتعيد وصال العبيدي ترديد كلماتها على الركح:
"الاغتصاب هو بمثابة الحرب الأهلية، وهو التنظيم السياسي الذي يُعلن فيه جنسٌ للآخر: "لي الحقّ المطلق عليك، وأرغمك على الشعور بالدونية والذنب والانحطاط"".
في هذا الفصل، تتقاسم وصال العبيدي مع الجمهور الشهادات التي جمعتها من عدد من النساء إثر قراءاتها العلنية. فقد أدلت بعض النساء بشهادات حول عمليات اغتصاب تعرّضن لها من أزواجهن مراراً وتكراراً، وقصص عن سفاح القربى، وحالات هيمنة وعنف في الشارع وأماكن العمل. هنا، يصبح الحميمي شأناً عاماً، والسياسي متجذراً في تفاصيل الحياة اليومية.
توضح العبيدي: "لست مؤهلة لتقديم المشورة لهؤلاء النسوة، ما أقدّمه لهن هو إنصات متعاطف وصادق. دوري الحقيقي أن أوثّق هذه القصص، فالتيار الفني الذي أنتمي إليه هو المسرح الوثائقي، وهو فنّ يلتصق بالواقع".
"أنوي استكشاف نصوصٍ نسوية أخرى"
في الفصل الثالث والأخير، الحامل عنوان "عودة أوديب"، تسرد وصال العبيدي واقعة دامية سمعت بها عبر موجات الإذاعة التونسية: رجل يطبق بجسده على زوجته، يشل حركتها، وينهال عليها ضرباً على رأسها، ثم يقتلع عينيها بشوكة طعام.
خلفها، تمتلئ الشاشة بعشرات العيون، ويتحوّل تكرار الحكاية بلا انقطاع إلى طقس تذكاري يرسّخها في الذاكرة الجماعية. الرسالة واضحة وجلية: "لا مجال بعد اليوم للتقليل من شأن جرائم قتل النساء أو التستّر على المآسي التي تُرتكب خلف جدران البيوت".
وحين يسود الصمت في ختام العرض، ينهض الجمهور مصفّقاً بحرارة. في الصفوف الأولى، تمسك بعض النساء بمناديل ورقية، بأنوف مختنقة وعيون مغرورقة بالدموع. المشاعر الجيّاشة عمّت القاعة، وكان الانفعال ملموسًا لدى الجميع، نساءً ورجالًا على السواء.
بدأت وصال العبيدي بالفعل العمل على تتمة المشروع؛ فـ "لعنة 2" و"لعنة 3" ستتبعان النهج ذاته من حيث الشكل والمضمون، وتتناولان المسألة النسوية داخل مجتمع أبوي يُكرّس صورة مثالية زائفة للأنوثة.
وتختم وصال العبيدي بابتسامة قائلة: "سأواصل الغوص في كتابات نسوية أخرى، بنفس الجرأة والحدّة التي تميّز كتاب نظريّة كينغ كونغ".




























