فاطمة البسام
148 تعليقاً قرأتها واحداً تلو الآخر، بينما شعرت بالعجز عن الدفاع عن نفسي التي تُهان وتُنتَهك من قبل أشخاص غرباء على صفحة "فيسبوك". حدث ذلك عندما حاول أحد المواطنين منعي من التصوير دون حقّ في إحدى المناطق اللبنانية التي استهدفتها الغارات الإسرائيلية، قبل أن يبدأ بالصراخ في وجهي ويحاول الاعتداء عليّ. ثم أصدرت مؤسسة سمير قصير بياناً للتضامن معي. وفي حين كنت أعتقد أن الناس سيقفون إلى جانبي ويدعمون عملي الصحفي، كان العكس هو ما حدث، حيث تعرضت لهجوم إلكتروني بأبشع الطرق.

للحظة، شعرت أن التعرض للضرب في الشارع أثناء التغطية كان ليكون أهون من قراءة التعليقات "المؤذية" التي انهالت عليّ، محملةً بالإيحاءات والكلام الجنسي. لا أبالغ إن قلت إنني لم أفهم بعضها في البداية، إذ يصعب استيعاب كيف يمكن للبعض التصرف بهذه القسوة. لكن سؤالاً واحداً ظل يطاردني: هل كان هذا المتحرش أو المتنمر الإلكتروني ليجرؤ على قول ما كتبه لو واجهني وجهاً لوجه؟
الاتهام بالعمالة لإسرائيل
بالإضافة إلى الخسائر المادية التي تكبّدناها بسبب الحرب، اضطررنا إلى تحمل ضغوط نفسية هائلة ترافقت مع كل انفجار للذخائر والصواريخ، تاركةً في داخلنا صدماتٍ جعلتنا نقفز فزعاً عند سماع إغلاق باب بعنف. فكيف يمكن لكل هذه الأعباء مجتمعة أن تسمح لكِ باستئناف عملك، وأنتِ على خطوط النار وفي قلب الحدث؟ وإلى جانب كل ذلك، تتعرضين أيضاً للعنف الإلكتروني؟
عندما قرأتُ التعليقات الأولى التي هاجمت شكلي ولباسي _وبالمناسبة، أنا محجبة، فلا يمكن ربط ما تعرضتُ له بملابسي، التي يتخذها البعض ذريعة لتبرئة المتحرشين_ قررتُ التوقف عن عملي الميداني وحذفتُ مقال التضامن من صفحتي على "فيسبوك" كي لا أُضطر لقراءة المزيد من التعليقات. ومع ذلك، لم أستطع المقاومة، فكنتُ أتسلل إلى الصفحة الرئيسية لأتابع عدد الردود، والتفاعلات، وحتى المشاركات.
لا أعلم لماذا واصلتُ هذا الفعل الذي سبّب لي الكثير من الإحراج، لكنني لم أستطع منع نفسي من متابعة "أبرز الأخبار" التي تُكتب عني. أكثر ما استوقفني كان ادّعاء بعض الأشخاص معرفتهم بي، إذ كانوا يردّون على التعليقات نيابة عني. ببساطة، كانت حفلة من الجنون، خاصة في خضمّ الحرب.
ما يزيد تعقيد هذا الموقف هو أن بعض الادعاءات والاتهامات قد تشكل خطراً حقيقياً وتهديداً لحياة الصحفيين والصحفيات، مثل الاتهام بالعمالة لإسرائيل. تعليق "غير مسؤول" من هذا النوع قد يعرّض حياة شخص للخطر، خصوصاً في ظل غياب أي وسائل حماية أو آليات وقائية للعاملين والعاملات في هذا المجال.
يرى البعض أن العنف الإلكتروني أمر لا يستحق الكتابة عنه أو أنه مبالغ فيه. لكن هل جرّبت أن يصفعك أحدهم وأنت مكبّل اليدين؟ هذا هو بالضبط الشعور.
يرى البعض أن العنف الإلكتروني أمر لا يستحق الكتابة عنه أو أنه مبالغ فيه. لكن هل جرّبت أن يصفعك أحدهم وأنت مكبّل اليدين؟ هذا هو بالضبط الشعور.
بين التنمر والتهديد بالاغتصاب... تتنوع أشكال العنف
تقول الصحافية والباحثة في مؤسسة سمير قصير، وداد جربوع، لـ"ميدفيمنسوية": "تتعرّض الصحافيات وحتى الصحفيون للتحرّش ولحملات تحريضٍ وتهديدٍ بشكل مكثّف. كمؤسسة، نرصد على الأقل حالة تحرّش واحدة أو حالتين كلّ شهر، وتحديداً تلك التي تتعلق بالصحافيات".
وبحسب جربوع، تتنوع أشكال المضايقات الإلكترونية التي تتعرض لها الصحافيات، ومن أبرزها التهديدات المباشرة، التحرشات الجنسية، التنمر على الشكل، أو حتى التهديد بالاغتصاب، وتستذكر جربوع الدعوة للقتل التي تعرضت لها الصحافية ديما صادق على منصة "إكس" قبل سنوات، من خلال حملة إلكترونية تضمنت عشرات ومئات المنشورات التحريضية.
تضيف وداد جربوع: "ارتفعت نسبة هذا النوع من التحرش والمضايقات الإلكترونية بشكل لافت خلال الحرب الأخيرة على لبنان، والسبب في ذلك هو أن عدداً كبيراً من الصحافيات عبّرن عن آرائهن السياسية التي تتعارض مع مواقف جزء كبير من الجمهور. فعبّر هذا الجمهور عن اعتراضه على هذه الآراء من خلال التحريض، والاتهام بالعمالة، وصولاً إلى التهديد بالقتل والاغتصاب".
كيف نحمي الصحفيات؟
وحول حماية الصحفيين/ات من العنف الإلكتروني، تقول وداد: "لا شكَّ أن هناك طرقاً قانونية يستطيع الصحافي/ة عبرها تقديم شكوى بتهمة التحريض أو القذف والقدح والتشهير. لكن للأسف، بينما تتحرك الأجهزة القضائية والأمنية بشكل سريع عندما تكون الشكوى مقدمة ضد الصحافة، لا يحدث الأمر ذاته في الاتجاه المعاكس. فعندما نتابع حملات تحريض وتهديد ضد إحدى الصحافيات على موقع التواصل الاجتماعي، وتكون هذه الحملات قادمة من حسابات حقيقية تعود لأشخاص معروفين في المجتمع، يكون التعاطي الأمني معها بطيئاً جداً مقارنةً بالشكوى المقدمة ضد الصحافيين والصحافيات."
تُعدّ المضايقات والانتهاكات، بما في ذلك التحرش عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من أبرز الوسائل المستخدمة لترهيب الصحفيين والصحفيات، ولا سيما النساء، اللواتي يتعرضن لهذه الاعتداءات بشكل أكبر ويتأثرن بها بصورة أعمق.
تضيف جربوع: "في مؤسسة سمير قصير، نقوم شهرياً باختيار حالة من الحالات التي تُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً تلك التي تتعلق بالصحافيات اللاتي يتعرضن لأي نوع من الانتهاك. نقوم بمراقبة كيفية تفاعل الناس مع هذه المنشورات التي، للأسف، تحمل هجوماً مضاعفاً يفوق ما تعرضت له الصحافية خلال عملها الإعلامي."
بعد ذلك، يجري وفق جربوع، عرض النتائج لفهم سبب تعاطي الجمهور بشكل مختلف مع قضايا الصحافيات مقارنة بتلك الخاصة بالصحفيين، وبعد ذلك يجرون تقييماً لمقاربة الناس لقضايا الانتهاكات التي يتعرض لها الصحافيون الرجال والصحافيات النساء.
تُعدّ المضايقات والانتهاكات، بما في ذلك التحرش عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من أبرز الوسائل المستخدمة لترهيب الصحفيين والصحفيات، ولا سيما النساء، اللواتي يتعرضن لهذه الاعتداءات بشكل أكبر ويتأثرن بها بصورة أعمق.
البعد النفسي للعنف الإلكتروني
وقال الطبيب النفسي فضل شحيمي لـ"ميدفيمنسوية": "أصبح التحرش الإلكتروني بمثابة ظاهرة ترافقت مع التطوّر التكنولوجي، الذي أتاح للمتحرشين ممارسة أفعالهم افتراضياً، وهم يشعرون بالأمان والراحة."
يتابع شحيمي: "أول شعور تشعر به الضحية هو العجز، وعدم القدرة على المواجهة، ببساطة، لأننا في معظم الأوقات لا نعلم من هم هؤلاء الأشخاص، وهذا ما يزيد من تعقيد الحالة النفسية لدى "الناجية/ي"، التي تتجسد في حالة اكتئابية تختلف حدتها بحسب تأثيرها على الأشخاص، خصوصاً أولئك الذين لم يتحدثوا/ن عن تجربتهم/ن. فتتحول بعض الأعراض النفسية إلى أعراض جسدية، مثل آلام في الجسم، وضيق في التنفس، وخفقان في القلب وغيرها."
ويضيف الطبيب: "ننصح الأفراد بتوخي الحذر، واتخاذ التدابير اللازمة لحماية أنفسهم من التعرض لهذه الصدمات، خاصة في عالم افتراضي مفتوح يتيح التواصل بين الجميع. فقد يلجأ البعض إلى هذا النوع من الأذى عبر ملاحقة أشخاص محددين بهدف استهدافهم إلكترونياً، وهي طريقة أسهل بالنسبة للمعتدي لأنها لا تتطلب وجوداً جسدياً".
أمّا عن الشخص المتحرّش أو المبتز، يشير شحيمي إلى أنه يعاني من اضطرابات نفسية، مثل حب الإنتقام، إنخفاض في "الأنا" المعنوية لديه، فيحاول تعويض نقصه بهذه الطريقة، ومن خلال الإساءة إلى الآخرين.
ويختم شحيمي، "يجب أن تعلم الناجيات/ون، أن لديهن/هم حقوق، وكلّ ما كانت المواجهة أسرع كان وقعها النفسي أخفّ".




























