مصدر الصورة: الحركة السياسية النسوية على فيسبوك
من بيت صغير في منطقة "جرمانا" بريف دمشق، يجتمع داخله عدد من النساء والرجال والشابات والشباب أمام شاشة جهاز الكمبيوتر، ليطلّوا عبر نافذة تطبيق "زوم" الذي لا يعمل إلّا باستخدام كاسر بروكسي (vpn) وتقنيات معقدة، وسط انقطاع الكهرباء وضعف الإنترنت، بهدف مناقشة الوضع السوريّ قانونياً واقتصادياً بحذر وسريّة، إلى قاعة مفتوحة أمام عدسات كاميرات العالم بأسره، في فندق الشام وسط دمشق. الفرق بين الزمنين هو سقوط نظام احتكر الحريات، وقاد البلاد إلى الحروب والنزاعات والفقر والدمار.
في استذكار نسويات رحلن عنّا
اضطرّ/ ت أعضاء وعضوات "الحركة السياسية النسوية" سابقاً إلى التخفّي والاجتماع بصمت، ومناقشة قضايا كبيرة بصوت منخفض، خوفاً من نظام الأسد. لكن في 8 كانون الثاني/ ديسمبر الجاري، أعلنت الحركة انطلاق مؤتمرها الأول من العاصمة السورية الحرّة، لتقول للعالم أجمع: "نحن هنا".
سورياتٌ من مختلف الانتماءات الفكرية والدينية والمناطقية، جئن للمشاركة في العملية السياسية بعد عقود من الإقصاء وثلاثة عشر عاماً من الظلم والخوف تحت حكم الأسد. خلال هذه الفترة، عانت النساء من الاعتقال والتهجير والاستغلال، وواجهن الحرب على جبهتين: في النضال العام، وفي إعالة أسرهن في المخيمات وبلاد اللجوء، مخاطراتٍ بحياتهن لإنقاذ أبنائهن.
في مناسبة كبيرة كهذه، كان من الضروري استذكار عضوات الحركة الراحلات، اللواتي لم تُتح لهنَّ الفرصة ليكنّ حاضرات بيننا اليوم. استُهل المؤتمر بالوقوف دقيقة صمت إجلالاً لأرواحهن، ومن بينهن الباحثة والأكاديمية بسمة قضماني، والمناضلة فردوس البحرة، إحدى أعمدة رابطة النساء السوريات. عملت فردوس في دمشق وخارجها وظلّت متمسكة بخط النضال النسوي حتى رحيلها عن عمر تجاوز الثمانين عاماً.

أيقونات الحركة النسوية كثيرات، ومن بينهن الراحلة سحر حويجة، المحامية الصلبة بأفكارها والمحاربة التي عرفتها شخصياً. كانت امرأة لا تحيد عن الحقّ، حتى لو كان ذلك على حساب صحتها أو وضعها المادي.
اعتُقلت سحر في الثمانينيات بتهمة الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي، وعقب خروجها عاشت في غرفة متواضعة ومهترئة في حي الدويلعة بدمشق. رحلت وهي مريضة ووحيدة، بعدما أنهك الألم جسدها ولم يعد قادراً على الاحتمال.
وصولاً إلى هبة حاج عارف التي وجِدَت مقتولة في حلب العام الماضي ورجحت ناشطات نسويات أن تكون هبة اغتيلت، فبحسب مقربين* منها، تعرضت هبة في السابق لتهديدات من قبل جهات مختلفة بسبب نشاطها ودورها في دعم وتمكين حقوق المرأة.
نساء عملن متخفيات
في القاعة الواسعة، اجتمعت نساء خضن تجارب قاسية تحت نظام قمعي اعتقل وقتل وميّز بين المواطنين/ات بناءً على جنسهم/ن ودينهم/ن وعرقهم/ن. من بينهن كانت عليا نجدات، القادمة من مدينة درعا، مهد الثورة السوريّة، التي عانى سكانها تضييقاً خانقاً على مدار السنوات الماضية لمجرد انتمائهم لهذه المدينة.

انضمّت عليا إلى الحركة منذ سنوات، وسعت من موقعها لإثبات دور المرأة السياسي. من خلال مبادرة "بدنا نعمرها"، تمكنت من إحداث فارق ملموس في مجتمعها في مدينة درعا، ما جعلها نموذجاً يُحتذى به في العمل النسويّ والسياسيّ.
اضطرّت النساء في سوريا إلى التخفي وابتكار أسماء مستعارة لحماية أنفسهن من ملاحقة النظام وأجهزته الأمنية. من بينهن كانت سلمى الصيّاد، التي اعتدنا الاجتماع في منزلها تحت اسمها الوهمي "سلمى هنيدي.
ناضلت سلمى إلى جانب أهالي جرمانا، حيث فهمت معاناتهم/ن عن قرب، وكانت حلقة الوصل بينهم/ ن وبين الحركة النسوية، التي ساهمت في دعم تعليم الأطفال/ الطفلات المتسربين/ ات من المدارس. واليوم، تستعيد سلمى حريتها وتُعلن عن اسمها الحقيقي، لتواصل عملها ونضالها دون خوف.
رغم الخطر والملاحقات الأمنية، استمرت المحامية حنان زهر الدين في ممارسة عملها داخل دمشق بشجاعة وإصرار. لم يقتصر دورها على تقديم الاستشارات القانونية، بل تجاوز ذلك إلى إجراء أبحاث متعمقة حول القوانين المتعلقة بحقوق المرأة، كما عملت بشكل مباشر مع النساء، مُرافعة عن قضاياهن في المحاكم ومقدمة الدعم القانوني والاجتماعي اللازم، لتساعدهن في استرداد حقوقهن أو انتزاعها من نظام اجتماعي وقانوني يحدُّ من حرياتهن. إصرارها على الاستمرار في هذا العمل رغم الظروف الصعبة جعل منها نموذجاً للالتزام بحقوق الإنسان والمرأة.

نساء عملن من المنافي وبلاد اللجوء
من جهة أخرى، حرَمَ نظام الأسد النساء المعارضات له من دخول البلاد واعتقل من تجرأن على العودة ونكّل بهنَّ.

على منصة المؤتمر الأول لـ "الحركة السياسية النسوية" وقفت وجدان ناصيف، الكاتبة والناشطة السياسية والمعتقلة السابقة التي حُرمت من العودة إلى سوريا طوال سنوات الثورة. كانت وجدان تصل إلى حدود سوريا ثم تعود، مدركةً أن اسمها مدرج على لوائح الأمن بسبب رفع صوتها ومعارضتها لظلم النظام.
واليوم، من قلب دمشق وبصوت قوي، تقول وجدان: "لقد عدنا، ورحل من منعنا من العودة إلى بلدنا. سنبقى لنقدم كلّ ما تحتاجه بلادنا رغم الألم."
أما رولا الركبي، وهي عضوة مؤسسة في شبكة المرأة السورية واللوبي النسوي السوري والحركة السياسية النسوية السورية، فعادت إلى مدينتها بعد غياب طويل. واصلت نضالها من بيروت، حيث عملت مع النساء في المخيمات. وكانت من مؤسسات "الحركة السياسية النسوية" بعد أن شعرت بالحاجة إلى الاعتراف بوجود نساء سياسيات قادرات على القيادة وإحداث تغيير حقيقي.
إذن، وبعد سنوات من الخوف والاختباء، بدأت النساء يجدن مساحة للتعبير عن أنفسهن. وسط هذا التحول، برزت الكاتبة الكردية شمس عنتر، مرتديةً الزيّ التقليدي الكردي الزاهي، لتكون ممثلةً لمدينتها القامشلي في المؤتمر الأول لـ "الحركة السياسية النسوية". انضمت شمس إلى الحركة في عام 2019، حاملةً طموحاً لإيصال صوت النساء الكرديات إلى العالم، ومطالبة بوقف النزيف المستمر في شمال شرق سوريا.
للنسويات السوريات تاريخ قديم مع السياسة
السياسة ليست مجالاً جديداً على السوريات، إذ استشهدت الحركة بجدتهن نازك العابد (1887-1959)، الرائدة التي قادت الحركة النسائية وطالبت بمنح المرأة السورية حقوقها السياسية. لعبت نازك دوراً ريادياً في تأسيس عدد من المطبوعات والجمعيات النسائية، وبرزت في معركة ميسلون ضد الاحتلال الفرنسي بصفتها رئيسة جمعية النجمة الحمراء. كما أسست قبل ذلك جمعية نور الفيحاء، وحصلت على لقب فخري في الجيش السوري من الأمير فيصل، تقديراً لدورها الوطني البارز.
بعد نازك العابد، تابعت كثيرات من السوريات المسيرة والنضال النسوي والسياسي، وما نراه اليوم ليس وليد اللحظة إنما جزء من تاريخ السوريات العريق والغني.