هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية)
لا أذكر تماماً متى تحرّرت من الكعب العالي الذي كان رفيقي يومياً، لكنني أجزم أنه كان يوماً مجيداً، يوم النجاة من فكرة أنني أبدو أقلّ أنوثة أو تتراجع هيبتي إذا فضّلت الأحذية المريحة. حتى إنني حين كنتُ مراسلة لإحدى القنوات دار جدال بيني وبين أحد الزملاء، وقد دافعت بشراسة عن مبدأ الكعب العالي كمكمّل ضروري لعدّة المراسلة الناجحة. وأنهيت الحديث بجملة: "أنا هيك برتاح!".
تأخّر وعيي النسوي وتأخّر معه وعيي لحقيقة ما يريحني وأن لا شيء يستحق كل ذلك العناء وأن بإمكاني تبسيط حياتي كامرأة من دون أن أقلّ شأناً أو أنقص. ربما لا ترتبط مسألة الكعب العالي بالوعي النسوي لدى نساء كثيرات، لكنها كذلك بالنسبة إليّ، لأنّني حين صافحت فكرة الحرية، صافحت معها فكرتي عن نفسي، عن شكلي، عن صوتي العالي الذي ورثته من أبي، وبياض البشرة الناصع الذي لم أرثه عن أمي. لأن المرأة الشقراء كانت دوماً المنافس الصعب لأي امرأة سمراء. وهي مسألة بغاية السذاجة، أن نعتقد أن هناك منافساً غربياً دائماً، لا نملك إلى هزيمته سبيلاً. لكنّ السذاجة وتصديق ما نُلَقّن به، مسألة تحتاج إلى تكسير يومي ومصارحة مع الذات والعالم.
حين أجريت حواراً حقيقياً مع نفسي أدركت أنني مفعمة بالمفاهيم الخاطئة والمرهقة على كاهلنا نحن النساء. وقد هالني بالفعل أن الرجال هم أول من انتعل الكعب العالي في قارّتي أفريقيا وآسيا، قبل أن ينتقل هذا النوع من الأحذية إلى الدول الأوروبية، ثم إلى النساء كمحاولة للمساواة بين الجنسين، إضافة إلى غرض تطويل القامة للقصيرات.
هالتني فكرة أخرى، أن للأحذية أبعاداً طبقية، وأنها كانت تشير في دول أوروبية إلى النفوذ الذي يتمتع به الشخص. وتقول بعض الأبحاث أن أفريقيا القديمة، التي عرفت الكعب العالي نحو عام 3500 قبل الميلاد، كان فقراؤها يمشون حفاة، بينما الأغنياء ينتعلون أحذية بنعال مسطحة، فيما ارتبطت الكعوب العالية ببعض المراسم الدينية المهمة. فيما كان الجزّارون في مصر القديمة مثلاً يفضّلون الكعوب العالية تفادياً لتعرّض أقدامهم لدماء الأضاحي.
أصبح الكعب العالي خياراً يخضع لمزاجي،
المهم حقاً أنه لم يعد مصيراً يتحكّم بي...
وفق مراجع أخرى، ظهر الكعب العالي في القرن التاسع الميلادي في بلاد فارس، إذ كان المحاربون الذين يمتطون الخيول ينتعلون أحذية ذات كعب عالٍ؛ من أجل الحفاظ على ثبات أقدامهم في مكانها في سرج الأحصنة. ويمكن إيجاد ذلك في متحف «باتا» للأحذية في مدينة تورونتو الكندية حيث يعض من أحذية ركوب الخيل، ذات الكعب العالي الخاصة بالفرسان الفارسيين آنذاك.
قرأتُ الكثير عن الكعب العالي وإيجابياته ومساوئه، وقد نصحني طبيبي ذات مرة باختيار الكعوب المتوسطة حفاظاً على استقامتي ومن أجل أن يهدأ الألم الذي في قدميّ. أتذكّر شكله وهو يرسم لي على ورقة شكل الحذاء الذي يناسبني والكعب الذي عليّ اختياره. يومها شعرت بأنه يسلبني جزءاً من أنوثتي، يطلب مني أن أتخلّى عن الكعوب الرائعة والمفعمة بالرقة والجمال. لكنني الآن أشعر بأن صوته يرافقني في كل مرة أنزل فيها إلى السوق لشراء حذاء، "لازم جسمك يكون مرتاح". إنها جملة بغاية البساطة يرددها أي طبيب لمرضاه حتى يبسّط لهم مخاطر الديسك وآلام الظهر والقدمين، لكنها جملة جوهرية، أن نختار الراحة.
هل اختارت النساء الكعب العالي من أجل شيء من النفوذ المسلوب؟ هل لأجل ذلك كنت أنهك نفسي بهذا العذاب اليومي؟ لا أملك إجابة حاسمة. لكن بما أننا نتحدّث هنا بصراحة، لم أحقد على الكعوب العالية، ولم أنتقم منها بالأحذية الرياضية، لكنني منحت نفسي حرية اختيار ما أشاؤه في كل يوم، والذهاب نحو الحذاء الذي يريحني فعلاً ويناسب مزاجي ورغبتي في الحياة، في هذا اليوم تحديداً... وأصبح الكعب العالي خياراً يخضع لمزاجي، المهم حقاً أنه لم يعد مصيراً يتحكّم بي.




























