لم يعد الوشم (التاتو) مجرّد "زينة" أو موضة "مستوردة"، بل أصبح لدى كثير من النساء العربيات شكلاً من أشكال التمرّد الشخصي، ولغة بصرية تنطق بالرفض، والنجاة، والحياة. إنه فن محفور على الجلد، لكنه في جوهره صرخة حرية، ووسيلة لمصالحة الجسد مع الندوب، الذاكرة، والهوية.
لا تتوفر دراسات رسمية أو إحصائيات محددة حول نسبة الأشخاص الذين يضعون الوشم في لبنان. لكن تشير تقارير عالمية إلى أن شعبية الوشم في تزايد مستمر عبر مختلف الفئات السكانية، والنساء أكثر احتمالًا من الرجال للحصول على وشم، إذ أن 36% من النساء مقابل 27% من الرجال لديهن وشم واحد على الأقل كما أن 72% من الأشخاص لديهم وشوم في مناطق يسهل إخفاؤها بالملابس.
استعادة الجسد بالوشم
نانسي قمح، فنانة التاتو اللبنانية، اختارت هذا المجال بعد أن كانت تدير صالون تجميل نسائي. ومع مرور الوقت، بدأت الزبونات يسألنها عن خدمات الوشم أو البيرسينغ. لم تكن متمكنة في البداية، تعلمت بنفسها بدافع الفضول وحب التعلّم. تقول نانسي: "شعرت بانجذابي الكبير لهذا العالم، وبدأت أتعمق فيه أكثر فأكثر."
طبيعة عمل نانسي تجعلها تواجه يوميًا قصص نسائية مؤثرة، فالكثير من النساء يأتين إليها يحملن أوجاعًا نفسية أو تجارب صعبة، أو ببساطة بحاجة للتعبير عن أنفسهن. تقول نانسي: "بالنسبة لبعض النساء، يحمل الوشم بعدًا نفسيًا عميقًا: قد يكون اسم طفل، جملة تعبّر عن القوة، وسيلة لتغطية أثر عملية أو ندبة بعد الحمل، أو حتى آثار مرض مثل السرطان". وتوضح نانسي: "بعض النساء تبكي بعد الانتهاء من الجلسة، ليس بسبب الألم، بل لأنهن يشعرن أنهن استعدن جزءًا من ثقتهن بأنفسهن، ومن حبهن لأجسادهن."
"بالنسبة لبعض النساء، يحمل الوشم بعدًا نفسيًا عميقًا: قد يكون اسم طفل، جملة تعبّر عن القوة، وسيلة لتغطية أثر عملية أو ندبة بعد الحمل، أو حتى آثار مرض مثل السرطان"
غالبية الزبونات، وخاصة المحجبات، يسألن بدايةً عن خصوصية المكان: "هل الغرفة مغلقة؟ هل هناك أحد يدخل أثناء الجلسة؟" تحرص نانسي على تأمين مكان آمن ومريح، كما تشرح لزبوناتها عن أدوات التعقيم وتضمن النظافة والاحترافية في عملها.
بعض النساء يخترن أماكن مخفية للوشم خوفًا من ردود فعل الأهل أو المجتمع، حتى لو كنّ متزوجات وأزواجهن متفهمون، ما يبيّن استمرار تأثير الرقابة الاجتماعية على قرارات النساء، حتى داخل أجسادهن.
شكل من أشكال الحرية والجمال
نانسي ترى أن التاتو ليس مجرد فنّ أو مهنة، بل شكل من أشكال الحرية والجمال، وتشعر بأنها مميزة بوجوده، حتى لو لم يتقبله المجتمع تمامًا. تقول: "كثيرون/ات يسألونني عن رسوماتي ويبدون/ن إعجابهم/ن بها. أشعر أنني أكثر جمالًا في كل مكان يحمل وشمًا على جسدي."
هي لا تمارس الوشم كمهنة فقط، بل تعيشه كجزء من كيانها. منذ طفولتها أحبّت نانسي الرسم وكل ما له علاقة بالفنّ والألوان والتفاصيل الدقيقة، وعندما اكتشفت عالم الوشم، وجدت فيه امتدادًا لشغفها الفنّي، يجمع بين الفن اليدوي وعملها في التجميل. بعد فترة، تزوجت من فنان وشم، مما شجعها على الاستمرار أكثر، خاصة أنهما يعملان في نفس المكان ويتشاركان الشغف نفسه.
الوشم فعل مقاومة
الوشم يتحول عند كثير من النساء إلى قوة شخصية واستعادة للحق في الجسد. تقول ر.م.، شابة في أوائل العشرينات، إنها قامت بأول وشم لها سرًا، من دون علم أهلها: "كنت حاسّة إني عم أرتكب جريمة… بس وقت شفت النتيجة… حسّيت بقوة غريبة، حسّيت إنّي أخيرًا عملت شي إلي، من دون موافقة حدا. من يومها، بطّلت أخاف من جسمي، ولا من الناس. وهلق عم خطّط لوشوم تانية، بس هالمرة… من دون خوف."
في مجتمعات تُراقب النساء حتى على مستوى الجلد، يصبح الوشم فعل مقاومة
في مجتمعات تُراقب النساء حتى على مستوى الجلد، يصبح الوشم فعل مقاومة. أما س.ك، امرأة في بداية الثلاثينات وناجية من تجربة صحية قاسية: "بعد ما خلصت من العلاج الكيماوي، ضلّ أثر الندبة على بطني يذكّرني بالوجع. ما كنت أقدر أطّلع عحالي بالمراية من دون ما أتذكر كل شي. قررت أعمل تاتو، وردة صغيرة، تغطي الندبة. هلأ بس شوفها، بحس بقوة، بحس إنّي غلبت، وإن هالجسد تعرّض للوجع بس ما انكسر. صار الوشم علامة حياة مش علامة ألم."
هـ.ن، فتاة محجّبة من خلفية دينية محافظة، ترى في التاتو مساحة للحرية الذاتية: "كل حياتي كنت أعمل كل شي ‘متل ما لازم’… لابسة متل ما بدن، بحكي متل ما بدن، حتى شكلي كان متل ما بدن. بس جوّاتي كنت عم إختنق. عملت تاتو صغير بكعب إجرّي، آية معيّنة بتعنيلي أنا، مش مفروضة عليي. ما حدا بيعرف فيها، بس أنا بعرف… وهيدا كفّى. هيدا التاتو صار سرّي، صرت حس حالي موجودة، إلي صوت، إلي حق، حتى لو على مساحة قد كعب إجر."
في عالم لا تزال فيه أجساد النساء ساحة نزاع اجتماعي وأخلاقي، يظهر الوشم كفعل نسوي بامتياز، صامت لكنه مفهوم. هو مساحة خاصة تستعيد فيها المرأة حقها في جسدها، في التعبير، في الشفاء، وفي أن تكون كما تريد، لا كما يُراد لها أن تكون.




























