في زاوية خيمة مهترئة، يجلس محمد نوفل، أبٌ ثلاثيني، يحتضن طفلته الرضيعة التي لا يتجاوز عمرها الشهرين، اسمها حكمة، وُلدت بتاريخ 19 آب/ أغسطس 2025 لتحمل في وجهها آثار الحرب كلها، فيما تحاول الأم ترديد تهويدةٍ تحمل مزيجًا من الحنان والخوف والدهشة.
قال محمد بصوتٍ متهدّج: "كنا نعيش حياةً بسيطة رغم النزوح. كانت طفلتاي، رهف البالغة ستّ سنوات وماريا ذات الثلاث أعوام، تنتظران قدوم شقيقتهما بفارغ الصبر لتلعب معها".
ولدت بملاح الحرب
كانت زوجته حاملاً في بدايات تشرين الأول/أكتوبر 2024، بينما ملأت الغارات السماء وخلعت البيوت من جذورها. تنقلت الأسرة بين الشمال والجنوب، تتنفس الدخان والبارود كجزء من روتين يومي لا مهرب منه.
يروي محمد: "طوال شهور الحمل التسعة، كانت زوجتي تستنشق سموم الصواريخ والدخان الناتج عن حرق النفايات والبلاستيك لإنتاج الوقود البديل. وكانت نقاط التكرير قريبة جدًا من مكان نزوحنا ".
لم تتوقف والدة حكمة طوال شهور حملها عن متابعة الفحوصات الطبية عند طبيب خاص، رغم انعدام الخيارات وانهيار العيادات المتخصصة داخل مخيمات النزوح. كانت تقطع المسافات الطويلة سيرًا أو على متن سيارات مكتظة، لتسمع في كل مرة نفس العبارة: "صحة الجنين جيدة وطبيعية ".
كان الطبيب يمزح معها أحيانًا، قائلًا إن أنف الجنين قد يبدو طويلًا كما يظهر في صورة الألترا ساوند بالأبيض والأسود، إذ لا توجد أجهزة دقيقة تُظهر تفاصيل الجنين بوضوح، بعد أن دمر القصف الإسرائيلي معظم المراكز الطبية المتخصصة بالحمل والولادة في غزة.
ومنذ بدء الحرب التي شنتها إسرائيل في أكتوبر2023 على قطاع غزة قُتل 67194 شخصاً وأصيب 169890 آخرون. طيلة فترة الحرب، كانت الأم تعيش على وجبات قليلة تفتقر إلى الخضروات والفيتامينات، وسط مجاعة امتدت لأشهر. وعندما حان موعد الولادة، أنجبت طفلتها في مجمع الصحابة الطبي ولادةً طبيعية.
ولادة تحت الصدمة
لم يُحضِر الأطباء الطفلة إلى صدر والدتها كما جرت العادة، بل نقلوها فورًا إلى الحضانة. وبعد ساعات طويلة من الانتظار والقلق، استدعوا الأب قائِلِين: "الحالة معقدة ونادرة".
يصف محمد المشهد قائلاً: "عندما رأيتها للمرة الأولى… لم أصدق. كانت تعاني من تشوه كامل في الوجه. سألنا الطبيب إن كانت قد تعرضت لغازات أو مواد سامة أثناء الحمل، وعندها فقط أدركنا أن حكمة وُلدت من رحمٍ تسمّم بآثار صواريخ الاحتلال الإسرائيلي ".
تؤكد التقارير الطبية الصادرة عن وزارة الصحة في غزة أن حكمة تعاني من خلل في الفك السفلي، وسقف الحلق، والأنف، والعينين، وهي تشوهات نادرة يُرجح أنها ناجمة عن التعرض المستمر للغازات السامة ومخلفات القصف أثناء الحمل. كما أن مستشفيات القطاع لا تملك الإمكانات اللازمة لعلاج حالتها.
يواصل الأب حديثه: "نعيش مع حكمة في خيمة لا تقي حرّ الشمس ولا برد الليل، في ظروف سيئة جدًا. استيقظت أمها ذات ليلة لتجد النمل يمشي على وجهها. نحاول حمايتها قدر المستطاع. من المفترض أن تتم رعايتها في الحضانة، لكن الحرب دمرت حتى حضانات الأطفال، لذا نضطر لرعايتها في الخيمة. تتغذى الرضيعة عبر أنبوب يصل إلى معدتها، وأمها تضخ لها الحليب بيديها كل يوم".
تحمل الأسرة تحويلة طبية معتمدة من وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية، لكن السفر ما زال معلقًا بانتظار فتح المعبر. كل يوم يمر يهدد حياة الطفلة أكثر...
تزايد صادم في تشوهات الأجنة
شهد قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة ولادة عدة أجنة مصابين بتشوهات خلقية، كان أبرزها حالة الطفلة ملاك أحمد القانوع، التي وُلدت في مستشفى العودة الأهلي بشمال غزة في بداية أيار/مايو الماضي دون دماغ، في مشهد صادم وغير مسبوق.
شهد قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة ولادة عدة أجنة مصابين بتشوهات خلقية، كان أبرزها حالة الطفلة ملاك أحمد القانوع، التي وُلدت في مستشفى العودة الأهلي بشمال غزة في بداية أيار/مايو الماضي دون دماغ، في مشهد صادم وغير مسبوق.
أكد منير البرش، المدير العام لوزارة الصحة في غزة، في تغريدة على منصة "أكس"، أن الطفلة تمثل إحدى "الحالات الصادمة لتشوه الأجنة"، مرجحًا أن يكون السبب تعرض الأم لإشعاعات ناتجة عن القصف الإسرائيلي. ونشر البرش مقطع فيديو يوثق الحالة المأساوية للطفلة، حيث ظهر رأسها غير مكتمل.
وأضاف البرش أن هذه الولادة تأتي ضمن تزايد مقلق لحالات التشوهات الخلقية، نتيجة استخدام إسرائيل أسلحة تجريبية ذات تأثير إشعاعي وكيميائي مدمر، تستهدف المدنيين، بمن فيهم النساء الحوامل والأجنة، في خرق صارخ للقوانين الإنسانية.
في السياق ذاته، نشرت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة تقريرًا عبر موقع Safa News في حزيران/يونيو 2025، أشار إلى تسجيل 67 حالة ولادة بتشوّهات خلقية بين نحو 17000 ولادة خلال ستة أشهر فقط، ما يعادل 0.4% من إجمالي المواليد — وهي نسبة تفوق المعدلات الطبيعية بأكثر من أربعة أضعاف.
وربطت الوزارة هذا الارتفاع بتعرض النساء الحوامل لمواد سامة ناجمة عن القصف، مثل الفوسفور الأبيض والمعادن الثقيلة، إضافةً إلى سوء التغذية والانهيار الكامل في خدمات الرعاية الصحية، ما يجعل هذه الأرقام مؤشرًا خطيرًا على مستقبل الصحة الإنجابية في غزة.
آدم… قلب مثقوب من الفوسفور
في صباحٍ بارد من شتاء غزة المثقل بالدخان والركام، وُلد الطفل "آدم" بعد تسعة أشهر من القصف المستمر والخوف والنزوح.
لم تكن ولادته كغيرها؛ فقد خرج إلى الحياة بجسدٍ صغير متعب، يحمل آثار حرب لم يعرفها.
والدته، سمر بركات، 26 عامًا، من حي الرمال، أمضت حملها تستنشق الغبار والغازات السامة، خصوصًا مخلفات الفوسفور الأبيض. تقول سمر: "كنت أنتظر ولادة طفلي الأول آدم بصحة جيدة، أجهز غرفته الصغيرة وقطع الملابس الملونة، أحلم أن يعيش طفولته بسلام… كل قطعة كانت تحمل أمنية بسيطة: أن يكون لدي طفل يضحك ويكبر بين يدي، لا طفل يقاتل من أجل كل نفسٍ يتنفسه."
لكن حين وُلد، اكتشف الأطباء أن قلبه مثقوب — تشوّه خلقي قلبي ناتج عن استنشاق مخلفات الفوسفور الأبيض.
في حضانة مستشفى الشفاء، ظل آدم شهرًا كاملًا يصارع الموت، قبل أن يودع الحياة بعد 33 يومًا من ولادته. دفنته والدته بين ركام بيتهم القديم، ووضعت فوق قبره قطعة قماش صغيرة كُتب عليها: "هنا يرقد الطفل آدم… لم يرَ السلام."
ظاهرة تتسع... وأجيال في خطر
بحسب مدير الإغاثة الطبية في غزة، محمد أبو عفش، في حديثه مع "ميدفيمنسوية" فإن نسبة الولادات المبكرة قبل الحرب لم تتجاوز 2%، لكنها ارتفعت إلى 20% خلال الحرب، نتيجة الخوف والاضطرابات النفسية وسوء التغذية وانقطاع الفيتامينات الضرورية لنمو الأجنة.
نسبة الولادات المبكرة قبل الحرب لم تتجاوز 2%، لكنها ارتفعت إلى 20% خلال الحرب.
كما سجلت مؤشرات مقلقة لارتفاع معدلات الإجهاض والتشوّهات، نتيجة استنشاق السموم الكيميائية مثل الفوسفور الأبيض والأسلحة المحرمة دوليًا. وأشار أبو عفش إلى أن أكثر من 55 ألف امرأة حامل لا يحصلن على رعاية طبية متكاملة، ما يزيد من خطر الولادات المشوّهة.
وطالب بتدخل دولي عاجل لإجراء بحوث وفحوصات شاملة، لتوثيق هذه الحالات والحد من تفشي الظاهرة المقلقة التي تهدد مستقبل أجيال غزة.
سكتت الصواريخ في غزة، وانطفأ لهيب الانفجارات، لكنّ الهدوء الذي أعقب الحرب لم يحمل سلامًا حقيقيًا، فالهـواء ما زال مشبّعًا برائحة البارود، والتربة ما زالت تختزن سموم الدخان والرماد، وما خلّفته الحرب لم يتوقف عند الركام، بل تسرّب أثرها في الأجساد وأرحام النساء لتولد معارك أخرى.




























