هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
الصورة الرئيسية: صورة المفقودة رحمة زقوت – تصوير دعاء شاهين
دعاء شاهين
في خيمة صغيرة بأحد مخيمات النزوح غرب مدينة غزة، تجلس عبير، أربعينية أنهكها الانتظار، تقبض بيدها على صورة باهتة لامرأة سبعينية الملامح، دافئة النظرات، مطمئنة القسمات. إنها "رحمة زقوت"، حماة عبير، والجدة التي كانت بمثابة عماد العائلة، والتي اختفت دون أثر منذ أكثر من تسعة أشهر.
منذ السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، انقطعت أخبار الجدة رحمة، بعدما قررت النزوح من بيت لاهيا شمال غزة، تحت وابل القصف الإسرائيلي الذي أجبر آلاف العائلات على الفرار من منازلها بحثًا عن أمان لم يجدوه.
الخروج الأخير
تروي عبير زقوت: "كانت حماتي تعاني من أمراض مزمنة، لكن القصف لم يُبقِ لنا خياراً، خرجت وهي تتكئ على زوجها العجوز وابنتها ميرفت، كانت بالكاد تقوى على السير، متجهة إلى غرب مدينة غزة علّها تجد مأوى لها، لا أنسى مشهد عينيها، كانتا تدمعان، وملامح وجهها مرهقة من القلق والخوف."
تكمل حديثها: "قبل وداعها احتضنتني حماتي وودعت الأطفال، وأوصتهم: انتبهوا لأنفسكم، سأرسل لكم رسالة عندما أجد مكاناً آمناً."
لكن منذ ذلك الوقت لم تصل أي رسالة من رحمة ولم تصل بعدها أي أنباء عنها، لتترك خلفها صمتاً ثقيلاً وأسئلة بلا إجابة عن مصيرها.
تضيف عبير: "اعتقدنا بداية أن السبب هو انقطاع شبكة الاتصالات حاولنا مراراً الاتصال، ولا رد، لجأنا إلى الصليب الأحمر والدفاع المدني، لكن لا أحد يعلم شيئاً، لم يُعثر على اسمها لا في المستشفيات، ولا في قوائم الشهداء، ولا في سجلات الدفن."
ومع تكرار موجات القصف وتدمير آلاف المنازل فوق رؤوس ساكنيها والنزوح، باتت مشاهد النساء المفقودات منظرا مألوفاً يضاف لسجل المعاناة المزدوجة: مرة بسبب الحرب، ومرة أخرى بسبب غياب الرؤية الواضحة لإنقاذهن أو توثيق مصيرهن.
الوجع الأكبر، كما تصفه عبير، يتجلى في عيون أحفاد الجدة رحمة الذين ينتظرون عودتها: " يسألونني كل يوم: وين جدتي." منذ اختفاء الجدة رحمة، لا يزال ينتظر سبعون حفيداً وحفيدة من أبنائها وبناتها العشرة أن يجتمعوا معها حول أكواب الشاي، تروي لهم قصص أيام البلاد والدعوات لهم التي لا تنقطع في جوف الليل.

وفي آخر اتصال لعبير مع الدفاع المدني بغزة قبل أشهر، أخبروها بالعثور على جثث متحللة قرب منطقة النزوح، لكن غياب تقنيات فحص البصمة الوراثية حال دون التأكد من هويتها. " لا يقين، لا خبر أكيد، فقط الانتظار... ووجع الانتظار." تختتم عبير.
وبحسب بيانات وزارة الصحة في غزة والمركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسريًا، تُشكّل النساء نحو 453 حالة فقدان من أصل قرابة 4500 بلاغ موثق عن مفقودين ومفقودات، أي ما يعادل نحو 10% من إجمالي الحالات.
باتت مشاهد النساء المفقودات منظرا مألوفاً يضاف لسجل المعاناة المزدوجة: مرة بسبب الحرب، ومرة أخرى بسبب غياب الرؤية الواضحة لإنقاذهن أو توثيق مصيرهن.
يقول غازي المجدلاوي، مدير المركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسراً، إن المركز انطلق في شباط/ فبراير 2025 كمحاولة أخيرة لإحياء سؤال يؤرق آلاف العائلات في غزة: "أين أبناؤنا وبناتنا؟" ويضيف أن المركز أُنشئ خصيصاً للتعامل مع حالات الفقد التي لا يزال مصيرها مجهولاً تماماً، وسط عجز الجهات الرسمية عن تقديم إجابات أو ضمانات.
الاتصال المفقود
السيدة رحمة ليست قصة معزولة، فقد أصدقاء وعائلة الصحافية العشرينية مروة مسلم التواصل معها منذ الثامن من تموز/ يوليو الجاري.
"مش لازم أنزح... مش رح أترك إخوتي لحالهم." كانت هذه آخر جملة قالتها الصحافية مروة مسلم لصديقتها فرح قبل أن ينقطع الاتصال معها حتى لحظة كتابة هذا التقرير.
الأشقاء الثلاثة، مروة، معتز، ومنتصر، كانوا داخل منزلهم في حي التفاح شرق غزة، حين سقط صاروخ على المنزل الملاصق، وبعد لحظة واحدة فقط… انقطعت الأصوات، ومنذ ذلك الوقت فقد التواصل مع مروة لا رسالة، لا مكالمة، لا أحد يتحرك.

مروة، 29 عاماً، الصحافية الطموحة، كانت تدرك أن البقاء في منزلها بغزة في ظلّ هذه الحرب قرارٌ محفوف بالمخاطر، لكنها اتخذته عن وعي، لتظل بجانب شقيقيها رغم كل شيء.
وتعيش مروة مع شقيقيها اللذين تتحمل مسؤولية الاعتناء بهما منذ سفر والديها إلى مصر لتلقي العلاج قبل الحرب الإسرائيلية على غزة. تقول صديقتها المقربة فرح المجايدة، 29 عاماً: "مروة لم تكن فقط صوتاً إعلامياً عبر ميكروفون "راديو الشباب"، بل كانت أيضاً فنانة في تصميم الأزياء، ومقاتلة من نوع آخر، تكتب الحياة من قلبها وتحمل الحرب على جسدها."
"مش لازم أنزح... مش رح أترك إخوتي لحالهم." كانت هذه آخر جملة قالتها الصحافية مروة مسلم لصديقتها فرح قبل أن ينقطع الاتصال
تكمل: "أنا ومروة كنا نتشارك القلق، الجوع، القصف. آخر مكالمة كانت قبل الاستهداف بفترة، ما زلت عاجزة عن تصديق أننا لا نعرف شيئاً عنها.
وتتابع فرح: "الاتصالات مع فرق الدفاع المدني والصليب الأحمر مستمرة ولم تنقطع منذ لحظتها لكن في كل مرة يخبرونا بأن المنطقة التي وقع فيها القصف تُعدّ منطقة شديدة الخطورة وفق تصنيف جيش الاحتلال الإسرائيلي، مما يجعل مهمة الوصول إليها مستحيلة."
ومنذ اختفاء مروة في الثامن من تموز/ يوليو الجاري ، لم يتوقف أصدقاؤها عن طرح الأسئلة حول مصيرها.

يتساءل الصحافي هاني أبو رزق، أحد أصدقائها المقرّبين: "إذا لم يكن ممكناً إنقاذ ثلاثة مدنيين محاصَرين، أحدهم صحافية معروفة، فمتى يمكن أن يتحرك العالم؟ ما هو المعيار؟ هل نحتاج إلى صور لهم تحت الركام لإثبات وجودهم؟"
ورغم الصمت التام، لا يزال هناك خيط وحيد يمنح أصدقاء مروة بصيص أمل. يقول هاني: "بعد خمسة أيام من القصف، حاولت مروة الاتصال بأحد أقاربها، لكن ضعف التغطية وانقطاع الاتصال حالا دون إتمام المكالمة." ويضيف: "هل هذا دليل على أنها لا تزال على قيد الحياة؟ ربما. لكنه الدليل الوحيد في زمن فقدت فيه الأدلة صوتها."
نحن لا نطلب المستحيل
يشرح غازي المجدلاوي، مدير المركز الفلسطيني للمفقودين/ ات والمخفيين/ ات قسراً، أن المهام التي يتولاها المركز تشمل التوثيق، والمتابعة، والمحاسبة، مضيفاً: "نحن لا نرصد فقط من فُقد، بل نطارد الأدلة، ونسعى لتثبيت الحقوق، هذا جهد حقوقي وإنساني قبل أن يكون تقنياً أو إدارياً."
وبسبب تعذّر العمل الميداني نتيجة العمليات العسكرية، أطلق المركز منصة إلكترونية تتيح للعائلات تسجيل بلاغات الفقد، حيث تُستقبل الطلبات يومياً وتُراجع بدقة بعد التواصل المباشر مع الأسر.
ويُشير المجدلاوي إلى أن أبرز أسباب اختفاء المفقودين والمفقودات تعود إلى التوغلات العسكرية داخل الأحياء السكنية، أو خلال محاولات النزوح والعودة لجلب الاحتياجات الأساسية. كما وثّق المركز حالات اختفاء قرب مراكز توزيع المساعدات التابعة لمؤسسة "غزة الإنسانية"، التي تديرها جهات أمريكية وإسرائيلية في منطقتي رفح ونتساريم، ما يُبرز خطورة التنقل حتى لأبسط الضرورات.
وعن التحديات: "نعمل تحت ضغط مستمر، ونواجه عراقيل حقيقية أبرزها أوامر الإخلاء القسري التي طالت مقرنا، والانقطاع التام في شبكات الاتصال، ورفض الاحتلال التعاون مع أي جهة حقوقية، ما يجعل التنسيق شبه مستحيل."
حالة "اللا يقين"، أي عدم معرفة ما إذا كانت المرأة حية أو شهيدة أو مفقودة، تؤدي إلى ما يُعرف بـ"الحزن المعلّق"، وهو نوع من الحزن الذي لا يكتمل، ولا يُسمح فيه للعائلة بتوديع فقيدتها أو تقبّل الفقد.
ويختم المجدلاوي بتأكيد مطلب بسيط لكنه جوهري: "نحن لا نطلب المستحيل، فقط نريد للعائلات أن تعرف مصير أحبّائها، هل ما زالوا ومازلن على قيد الحياة أم لا؟ هذا هو الحد الأدنى من العدالة."
كيف يؤثر فقدان النساء؟
تقول الأخصائية المجتمعية ريما كراجه، التي تعمل مع مؤسسة دعم نفسي محلية في غزة، إن غياب النساء المفقودات لا يُعدّ مجرد صدمة فردية، بل يُحدث خللاً عميقاً في بنية الأسرة والمجتمع. وتوضح: "المرأة في غزة ليست فقط زوجة أو أم، بل هي غالباً العمود الفقري للأسرة: تدير شؤون المنزل، ترعى الأطفال، وتضبط إيقاع الحياة اليومية حتى في أحلك الظروف. وعندما تختفي فجأة دون أثر، يدخل المحيط العائلي في حالة من الانهيار النفسي والاجتماعي".
وتُشير كراجه إلى أن العديد من الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم أو جداتهم دون معرفة مصيرهن، يُعانون من اضطرابات في النوم، وقلق دائم، ونوبات بكاء، بل وحتى تراجع دراسي واضح.
أما نفسياً، فإن حالة "اللا يقين"، أي عدم معرفة ما إذا كانت المرأة حية أو شهيدة أو مفقودة، تؤدي إلى ما يُعرف بـ"الحزن المعلّق"، وهو نوع من الحزن الذي لا يكتمل، ولا يُسمح فيه للعائلة بتوديع فقيدتها أو تقبّل الفقد. هذه جراح لا تُشفى بسهولة، حتى بعد انتهاء الحرب.




























