هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
تاباتا مارتين أوليا
لئن عُرفت إيطاليا، تاريخيًا بكونها مصدرا للهجرة ، فقد انقلبت الآية وتحول هذا البلد خلال العقود القليلة الماضية، الى وجهة مفضلة للمهاجرين الدوليين. فمنذ السبعينيات وحتى التسعينيات، شهدت البلاد تزايدًا في أعداد الوافدين من جميع أنحاء العالم. وأصبح الأجانب يشكلون اليوم حوالي 8.7% من سكان إيطاليا، مما يعكس مدى التغيرات التي طرأت.
عند سماع كلمة "مهاجر"، غالبًا ما تتبادر الأسباب الاقتصادية إلى الأذهان. فلطالما كانت إيطاليا وجهة مغرية للباحثين عن فرص عمل، وذلك بفضل قوانين الهجرة المتساهلة نسبيًا، وأهمية الاقتصاد غير الرسمي، والعفو المتكرر عن المهاجرين غير الشرعيين، والتراخي في تطبيق قرارات الترحيل. غير أن المهاجرين لا يأتون فقط من أجل كسب لقمة العيش، بل أن البعض يختار ايطاليا بدافع الحب أو لمزاولة التعليم أو غيرها من الفرص التي توفرها. من خلال استكشاف قصص ثلاث نساء اخترن إيطاليا موطنًا جديدًا، نكتشف التحديات والفرص التي يواجهها المهاجرون في بلد اشتهر بثراء ثقافته، ولكن أيضًا بتفشي البيروقراطية، وسوق العمل المعقد، وأسلوب حياته المتفرد.
العلاقات الشخصية

انتقلت يفغينيا، 31 عامًا، من أومسك في روسيا، إلى روما، قادمة من سانت بطرسبرغ، حيث أكملت دراستها الجامعية في تاريخ الفن ونالت درجة الماجستير. غير أنها لم تقدم إلى إيطاليا لدوافع مهنية. وهي تقول في هذا الصدد: «اخترت انذاك أن أبجّل علاقتي الشخصية على مسيرتي المهنية. فقد كان زوجي يعيش هنا في روما، وهذا هو السبب الوحيد لانتقالي اليها».
لكن بعد استقرارها في روما، أدركت يفغينيا بسرعة أن سوق العمل الإيطالي، وخصوصا في مجال الفنون، لم يكن كما توقعت. تقول يفغينيا «كنت ساذجة بعض الشيء. " ظننت أننا تخصصي في تاريخ الفن واتقاني للغتين الإنجليزية والروسية سيساعدني على الحصول على عمل في مجال المعارض الفنية". لكن السوق صعب ، وليس فقط في إيطاليا». وفي غياب فرص عمل في مجال تخصصها، جربت يفغينيا حظها في مجالات أخرى. تقول يفغينيا:«طبعت عدة نسخ من سيرتي الذاتية ووزعتها على العديد من المتاجر، غير أنني لم أتلق أي ردّ». في النهاية، عُرضتْ عليها وظيفة نادلة في مطعم، على أساس الاستفادة من مهاراتها في اللغة الروسية لجذب السياح. «كنت بحاجة للعمل، فقبلت».
وسرعان ما اكتشفت يفغينيا تحديات سوق العمل غير الرسمي في إيطاليا. «بالطبع، لم يكن لديّ عقد عمل. حيث أن لا أحد يرغب في ابرام عقد إذا كان بإمكانه تجنبه. كل المعاملات كانت تتم نقدا، وقد قبلت بذلك على أساس أن فرصة العمل كانت مؤقتة ».
وتتالت السنوات، وتنقلت خلالها يفغينيا بين عدة وظائف، من مساعدة مبيعات الى فنانة مكياج مستقلة تعمل لحساب حفلات الزفاف وجلسات التصوير، ثم كموظفة مكتبية. لكن كل وظيفة حملت معها تحدياتها. « كانت العقود سخيفة — لا تتجاوز مدتها الاسبوعين أو الثلاثة— والأجواء كانت مسمومة. كان هناك الكثير من النميمة، والتصرفات العدائية، والتسلط الإداري. وقد استمتعت بالعمل في حقل المكياج لانه كان فيب منأى عن هذه الأجواء، لكن جائحة كورونا وضعت حدا لذلك».
بعد تنقلها بين وظائف مختلفة، وجدت يفغينيا أخيرًا بعض الاستقرار كمديرة خزانة أزياء في شركة فندي. «لم تكن الوظيفة المثالية التي حلمت بها، غير أني أمضيت عقدا ونجحت في تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، والعيش في بيئة إيجابية. بالإضافة إلى أن الراتب كان جيدا».
وتختتم يفغينيا الحديث عن تجربتها قائلة: «الإيطاليون عمومًا منغلقون، خاصة تجاه الأجانب. للحصول على وظيفة، عليك أن تعرف الأشخاص المناسبين؛ التوظيف يعتمد على العلاقات. سوق العمل صعب، والرواتب منخفضة، وتكلفة المعيشة في ارتفاع متزايد».
فرص التعليم
لا يواجه جميع الأفراد الذين ينتقلون إلى إيطاليا نفس التحديات. وعلى الرغم من أن الطلاب الدوليين يمثلون نسبة صغيرة من العدد الإجمالي للطلاب في التعليم العالي في البلاد، إلا أن هناك بعض البرامج الحكومية لتيسير تنقل الطلاب عبر الحدود وبعض المنح الدراسية التي يمكن للطلاب الأجانب الاستفادة منها.
هذا هو حال زهرة [تم تغيير الاسم حفاظًا على الخصوصية]، وهي طالبة في الهندسة المعمارية، تبلغ من العمر 34 عامًا من مدينة أراك، بإيران، جاءت إلى إيطاليا بحثًا عن فرص تعليمية لم تتوفر لها في بلدها الأم. وُلدت زهرة في عائلة بهائية. وهي تقول موضحة: «باعتباري بهائية في بلد دينه الرسمي الإسلام ، فإن عائلتي - وأنا شخصيا – تواجه الكثير من المتاعب. من ذلك أنه لا يُسمح للبهائيين بالالتحاق بالجامعات الرسمية في إيران، لذلك التحقت بمعهد بهائي للتعليم العالي ينشط في الخفاء، حيث تحصلت على درجة البكالوريوس في الهندسة المعمارية ».
وكان أمل زهرة متابعة دراستها في الخارج لنيل شهادة الماجستير ، لكن عدم اعتراف الجامعات بالشهادة التي حصلت عليها من المعهد البهائي شكّل عقبة في طريقها. تقول زهرة: «قّدمتُ طلبات إلى العديد من الجامعات، لكنني قوبلت بالرفض. وبلغني من خلال إحدى صديقاتي، أن إيطاليا تقبل الشهادات الصادرة عن المعهد البهائي. ولحسن الحظ، اكتشفت أن جامعتين في إيطاليا— وهما جامعة بيزا وجامعة سابيانزا بروما — تقبلان هذه الشهادات، فقدّمتُ طلبًا للالتحاق بجامعة سابيانزا لمتابعة دراستي بهدف نيل شهادة الماجستير في الترميم».
وقد واجهت زهرة، حتى بعد وصولها إلى روما، تحديات بيروقراطية. وهي تقول في هذا الصدد: «أرادت الجامعة إلغاء طلبي لأن السفارة الإيطالية في إيران رفضت تمكيني من وثيقة 'اعلان القيمة' التي تزكي شهادتي، كما تفعل مع الطلبة الاخرين. غير أن الجالية البهائية في روما تدخلت وتم في النهاية قبولي في الجامعة». ورغم هذه العقبات الأولية، سارت الأمور على ما يرام. وتضيف زهرة قائلة: «حصلت على منحة دراسية إقليمية، وهي منحة 'لاتسيو ديسكو'. وقد سمعت عنها لأول مرة في إيران عن طريق العديد من مجموعات المهاجرين، خاصة الطلاب الإيرانيين الذين يدرسون في إيطاليا أو يعتزمون القدوم إليها. و لئن حصلت على دعم مالي من عائلتي على مدار السنوات الثلاث الماضية ، فان هذه المنحة كانت مفيدة للغاية».
وتشمل خطط زهرة المستقبلية متابعة دراستها لنيل درجة الدكتوراه، لكنها تبقى حذرة بشأن سوق العمل الإيطالي. تقول في هذا الصدد: «كنت أرغب في العمل، لكن الرواتب منخفضة، والعديد من المكاتب تقبل فقط المتقدمين الذين يجيدون اللغة الإيطالية. لقد تم قبولي في برنامج الدكتوراه في جامعة سابيانزا، لذلك قررت مواصلة الدراسة بدلاً من العمل».
وتسلط تجربة زهرة الضوء على تعقيدات سوق العمل في إيطاليا، وخصوصا بالنسبة للأجانب. وهو سوق يقوم على التمييز، حيث هناك طلب قوي على العمالة ذات المهارات المنخفضة وشبه الماهرة، مما يحصر المهاجرين الوافدين من الدول غير الغربية في وظائف متدنية المستوى. ويعني هذا أنهم يلقوْن بمرور الوقت صعوبات في تحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي ، حتى وإن كانوا يتمتعون بمؤهلات جيدة.
وهناك عامل مهم آخر، يتمثل في حاجز اللغة الذي أشارت إليه زهرة. فبالنظر لتاريخها الاستعماري القصير والهجرة المحدودة من مستعمراتها السابقة، يواجه المهاجرون في إيطاليا حواجز لغوية أكثر، مقارنةً بالمهاجرين في البلدان الأوروبية الأخرى.
الهجرة بدافع الحب

ومع ذلك، يجد بعض الوافدين الجدد أن إتقانهم لعدة لغات يمثل ميزة كبير تساعدهم في مسيرتهم المهنية، مما يتيح لهم التنقل بسهولة أكبر في سوق العمل. وذلك هو حال كارينا، وهي شابة في السادس والعشرين من العمر، من ريف ترانسيلفانيا في رومانيا.
بفضل حرية التنقل داخل الاتحاد الأوروبي، لم يكن انتقال كارينا إلى إيطاليا صعبا وتمثلت الاشكالية التي واجهتها في الفرص المتاحة. بعد إكمال دراستها في المسرح بلندن، قضت صيفًا في تدريس اللغة الإنجليزية والتمثيل المسرحي في شمال إيطاليا، مما أثار رغبتها في العيش هناك. تقول: «لطالما أحببت جمال إيطاليا. بعد زيارة فيرونا، قررت الاستقرار هنا».و لم تجد كارينا صعوبة كبيرة في العثور على وظيفة أولا كمدرّسة لغة إنجليزية، ثم لاحقًا في مجالات السياحة والتسويق في روما. و تضيف كارينا قائلة: «في كلا المجالين، يجب أن يكون مستوى طالب الشغل في اللغة الإنجليزية ممتازا. لذلك، لم أشعر أبدًا أن عدم إتقاني للغة الإيطالية كان عائقًا. عموما، لا أعتقد أن العثور على وظيفة هنا أمر صعب. قد يكون العثور على وظيفة جيدة صعب المنال بالفعل، لكن العثور على وظيفة ذات أجر مجز ليس بالأمر المعقد».
وعلى الرغم من أن كارينا لم تواجه عوائق لغوية كبيرة، إلا أنها تقرّ بالصعوبات التي قد يواجهها الأجانب، وهي تتفق مع رأي يفغينيا حول أهمية بناء شبكة علاقات. وتقول كارينا في هذا الصدد: « الولوج الى سوق العمل هنا يعتمد على المعارف. والسيرة الذاتية وحدها ليست كافية؛ حيث أنك تحتاج إلى شبكة علاقات».
كما تنتقد كارينا البيروقراطية التي اشتهرت بها إيطاليا. وتقول في هذا الصدد: « إن إنجاز أي معاملة ادارية هنا يشكل كابوسا حقيقيا، وذلك حتى بالنسبة الى شخص لا يحتاج إلى تأشيرة،مثلما ما هو شأني، لكنني لا أتخيل الصعوبات التي يمر به الوافدون من خارج الاتحاد الأوروبي». وتشير كارينا أيضًا إلى أوجه القصور في قطاع النقل العام وسوق الاسكان. وتضيف قائلة : «معظم المالكين يتهربون من دفع الضرائب المحلية، لذا فإن الحصول على عقد إيجار يمثل تحديا حقيقيا. هدفي التالي هو شراء شقة في روما، لكنني أعلم أن الأمر لن يكون سهلاً».
ورغم هذه العقبات، تظل كارينا متفائلة، حيث تقول: «من مميزات روما أن الأشياء تحدث فيها بشكل طبيعي وببطء، وفقًا لإيقاعها الخاص. وهذا درس من بين الدروس التي تعلمتها ».
تم إجراء هذا التحقيق بدعم من AGEE - التحالف من أجل المساواة بين الجنسين في أوروبا.





























