هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
تعيش مارتا لوسينو مورينو في تونس منذ خمس سنوات. أعدّت، من بين أشياء أخرى كثيرة، دراسة نوعية واستكشافية لصالح مكتب صندوق الأمم المتحدة للسكان في تونس حول العنف المُمارس على النساء والفتيات المهاجرات في تونس. قابلت "ميدفيمينسوية" الباحثة الإسبانية، وهذا ما جاء في لقائنا معها.
ما الذي دفعكِ لأن تهتمي في أعمالك البحثية في تونس بمسألة أنواع العنف التي تخضع لها المهاجرات من جنوب الصحراء؟
لمّا وصلتُ إلى تونس، ما كانت لدي في البداية روابط كثيرة مع النساء المهاجرات. لكن شيئاً فشيئاً، ومع اندماجي في المجتمع هنا، لاحظتُ أن في بيوت بعض صديقاتي وأصدقائي أشخاصاً من جنوب الصحراء يساعدونهم/ن في إنجاز الأعباء المنزلية. إلى ذلك، هناك ما يقرّبني من أهل جنوب الصحراء لأن زوجي السابق يعود بأصوله إلى جنوب الصحراء، وابني نصفه جنوب صحراوي. بسبب ذلك كوّنتُ حولي مجموعةً صغيرة تتألف من نساء يمارسن هذه الوظائف، وأيضاً من طلاب وطالبات يخضعون لممارسات عنصرية. كلما كنت أتناقش معهم/ن، كلما كنت أكتشف المشكلات الفظيعة التي يعانون منها بسبب وضعهم كمهاجرين/ات وأجانب من لون أسود. لم يكن هذا الموضوع على الدوام راهناً، وأول محاولة لاستكشافه أكثر عام 2019 لم تصل إلى ما كانت ترمي إليه.
أنتِ بنفسك امرأة مهاجرة مقيمة في تونس، ألم يشكل لك ذلك سبباً إضافياً للاهتمام بهذا الموضوع؟
في الواقع، إن كوني مهاجرة قادمة من الغرب جعلني أحصل على عدد من الامتيازات مقارنة مع المهاجرات الخاضعات لممارسات عنصرية. مع ذلك، فإنني أنا نفسي عانيت من أشكال تمييز عدة عندما عشت لعدة سنوات في أوروبا الشمالية وعملت هناك كنادلة لكي أستطيع أن أموّل دراستي. فتعرضت مثلاً في بلجيكا إلى أفعال عنصرية موجهة ضد الأشخاص الذين لا يتقنون بشكل جيد لغة البلاد. وانخرطت في تلك الفترة في جمعيات كانت تناضل من أجل حقوق الأشخاص المهاجرين ومساعدتهم على الاستقرار في البلاد التي استقبلتهم. عندما وصلتُ إلى تونس، بدأتُ أتعرّض لانتهاكات ولأعمال عنف في الشارع. هناك جزء من السكان الذكور من أصحاب الأدمغة المحشية بصور جامدة مسبقة يعتقدون أن أي امرأة بيضاء آتية من أوروبا يمكن أن تكون ضحية جنسية سهلة، وفي الوقت نفسه، يمكن خداعها وتطبيق أساليب الاحتيال عليها. مع ذلك، عندما تكون لديكِ سيارة وترتادين أماكن غالية، فإن الوضع مختلف تماماً عن الأوضاع التي ستقاسيها نساء جنوب الصحراء اللواتي يتنقلن في الأمكنة العامة على أقدامهنّ، أو يستخدمن وسائل النقل العامة حيث يتعرّضنَ، وبشكل متزايد، للإهانات، بالإضافة إلى نعتهنّ بكلمة "الزنجيات". خلال السنتين الأوليَين من حياتي في تونس، عشتُ في وضعية المهاجرة غير الشرعية بما أنني لم أكن أمتلك بطاقة إقامة ولا أستطيع الحصول عليها لأن من قام باستخدامي هي جامعة بلجيكية قدّمت لي المنحة، وليس لها أي فروع في تونس. لكن، وعلى العكس من المهاجرات من جنوب الصحراء، كانت لدي الوسائل التي تسمح لي أن أترك الأرض التونسية مرة كل ثلاثة أشهر، أو، إن لم يتحقق ذلك، أن أدفع غرامات تجاوزي لفترة الإقامة.
تلاحظين في الدارسة النوعية التي أعددتها لصالح صندوق الأمم المتحدة للسكان حول "أنواع العنف التي تهاجر مع النساء"، أن أنواع العنف تتواجد على طول مسار هجرة النساء من جنوب الصحراء، بدءاً من مشروعهنّ الأول بترك بلادهنّ وصولاً إلى استقرارهنّ في تونس أو مرورهنّ بها؛ وأكثر من ذلك، عندما يقرّرن اجتياز البحر من أجل الوصول إلى إيطاليا. هل هذا هو قدر جميع اللواتي يهاجرن بشكل سري؟
المسارات التي تعيشها هؤلاء النساء المهاجرات تتشابه في نهاية الأمر سواء أكنّ طالبات أو جئن "بعقد ثانوي" يقبض فيه صاحب المكتب رواتبهنّ لعدة شهور في البداية، وهو وضع يمكن أن نعتبره شكلاً من أشكال الاتجار بالبشر. بالنسبة إلى الحالة الثانية، بعد أن تسدّ المهاجرات "ديونهنّ" للمكتب، تصبح إقامتهن في البلاد أكثر مرونة أثناء متابعة العمل نفسه، وهو تحديداً العمل في مجال تنظيف البيوت. كثيرات منهن جئن يحدوهنّ الأمل بالذهاب إلى أوروبا بعد فترة إقامة موقتة في تونس. هناك أخريات حاولنَ سابقاً العبور سرّاً نحو إيطاليا وما عادت لديهنّ الرغبة بالمغامرة بحياتهنّ من جديد، لا بل أنهنّ يخضعن لضرورة عدم ترك تونس من أجل التمكّن من رؤية أطفالهن الذين يريْنهم منذ عشر سنوات بسبب وضعهنّ غير النظامي. الفئة الثانية من النساء المهاجرات أتين للدراسة. لكن بعد أن تصبح الشهادة في جيوبهن، يدخلن خانة العاملات غير الشرعيات بنظر القانون التونسي الخاص بعمل الأجنبيات، والذي يعطي الأفضلية في التشغيل للتونسيين والتونسيات. عندما اندلعت أعمال العنف في تونس ضد المهاجرين/ات (في شباط/فبراير الماضي إثر الخطاب العنصري لقيس سعيد)، دفع الوضع العدواني الذي تولّد تجاه كثر إلى أن يحاولوا اجتياز البحر، ذلك أن العودة لبلادهم ليست أبداً سهلة، وبعضهم/ن كان هرب من العنف ومن الحرب. وهناك آخرون هربوا من سياقات أخرى مثل الفقر وسوء المعاملة القصوى.
حين كنتِ تعدّين الدراسة، أنجزتِ تحقيقاً جمعتِ فيه شهادات من نساء جنوب الصحراء كنّ مررن بما نسميه bunker، أو الأقبية المخصّصة للمرشحين والمرشحات لاجتياز البحر من أجل الوصول إلى الشواطئ الإيطالية، حيث يتم تكديسهم/نّ لعدة أيام في منطقة صفاقس في الجنوب الشرقي للبلاد بانتظار إشارة الرحيل التي يطلقها المهربون. أصحيح أن ذاك هو المكان الذي تتعرّض فيه النساء لأسوأ أنواع العنف؟
في الحقيقة ثمة مراحل عدّة تسبق السفر عبر البحر الأبيض المتوسط. فعندما تقرر المهاجرة اجتياز البحر، أول من يتصل بها هو مهرّب تونسي أو من جنوب الصحراء يقوم بإعطائها الأمر بأن تأتي إلى صفاقس. عندها، تجد نفسها معزولة في بيت أو في شقة يتكدس فيها الرجال والنساء بأعداد كبيرة تصل في معظم الأحيان إلى عشرات في مكان صغير جداً. يمكن في هذه المساحة أن يُشهد على حالات عنف تنجم عن التقارب الشديد بين الأشخاص فيها، أو من ضرورة ألا يتم فتح النوافذ ولا أن تصدر عنهم/نّ أي ضجة لئلا يتم اكتشاف أمرهم/نّ، مع كل ما يمكن أن ينجم عن ذلك من توترات. هذا الانتظار يمكن أن يتراوح بين عدة ساعات وعدة أيام، وهو الزمن الضروري من أجل تأمين السفر من قبو الملجأ إلى السواحل، مع ضرورة تلافي أماكن تواجد الحرس الوطني، والتأكد من وضع البحر المستقر. يُكدَّس ما يمكن أن يصل عدده إلى أربعين مهاجراً/ة وسط ظروف من القذارة ومن دون إمكانية الحصول على غذاء أو حتى على ماء صالح للشرب في بعض الأحيان. ويدوم ذلك لأيام طويلة، وفي بعض الأحيان أسابيع. قبل انطلاق الرحلة، يتم اصطحاب بعض المهاجرين/ات إلى حقول الزيتون المعزولة حيث ينتظرون إشارة الانطلاق نحو المركب. أحداث العنف الجنسي قد تقع في تلك الفترة، أي عندما يكتشف التونسيون/ات تلك المخابئ، فيسرقون أغراض الضحايا الشخصية، ويعنّفون النساء جسدياً وجنسياً، واثقين من أنهم لن يتعرّضوا للعقاب كون أوضاع الأفراد أمامهم غير شرعية من الناحية القانوني.
جمعتُ عدة شهادات من المهاجرات اللواتي خضعن لحالات اغتصاب جماعي أمام الرجال من أبناء جنسيتهنّ. استمعتُ لثلاث حالات مختلفة روت لي العذاب نفسه. كانت النساء مختبئات وراء شجرات الزيتون بالقرب من البحر. وفي كل مرة كان يمر فيها شخص تونسي، كان يطلب منهنّ نقوداً فيقدّمن له النقود تجنّباً لأن يقوم بالوشاية بهنّ. في المساء، يعود هؤلاء مع آخرين وجميعهم مسلّحون بالسكاكين، فيقدمون على اغتصاب جميع النساء. منعت المهاجرات "إخوتهن" من أن يتقاتلوا مع المعتدين لأن المعركة خاسرة مسبقاً، بل وكنّ يتوسّلن إليهم ويقلن لهم: "اتركوهم يفعلوا ما يريدون". نساء أخريات روينَ لي قصةً أخرى تجمّد الدم في العروق: كان المهاجرون/ات في جزيرة قرقنه في منطقة معزولة عن العالم. استغل المهربون ظروف الانتظار في مكان لا يمكن فيه شراء الطعام، فضاعفوا، عشر مرات، سعر علبة السردين أو زجاجة الماء. وكانوا يطلبون من النساء أن يدفعن ثمن الطعام والماء بخدمات جنسية. تبيّن لنا إذاً هذه الشهادات إلى أي حد تكون فترة الترانزيت بمثابة "اللا مكان للنساء"، حيث يقعنَ ضحايا لجميع أولئك الذين يعرفون أو يكتشفون أوضاعهن الهشة.
في فرنسا غالباً ما تكون المربيات في المنازل من المغربيات. في اسبانيا تكون المسؤولات عن الأطفال في معظم الحالات نساء من أمريكا اللاتينية، وفي تونس، يتزايد استخدام نساء جنوب الصحراء في مجال تنظيف البيوت. أن تكون النساء في خدمة نساء أخريات يقطفن ثمار عملهن أو وظيفتهن المُنتِجة، أهذا هو الثمن الذي يجب أن يُدفع من أجل أن تتحقق الاستقلالية لجزء من النساء؟
يحصل ذلك لأنّ ما كان يجب أن يحصل هو تقاسم المهام التي تعتبر "نسائية" بين النساء وبين الرجال بشكل عادل. النساء من جنوب الصحراء واللواتي العاملات في المنازل يُتحن طبعاً للنساء الأخريات بأن يعملن بشكل منتج، لكنهنّ يُتحنَ للرجال بشكل خاص ألا يتورّطوا في العمل المُكرّر غير المنتج. وهكذا، يستمر الرجال في عدم فعل أي شيء في بيوتهم، في حين تقوم زوجاتهم العاملات بمهمة مزدوجة: عملهنّ خارج بيوتهنّ، والعمل المنزلي. النقطة الثانية تتلخص في إضفاء الطابع العنصري على أعمال الرعاية. نلاحظ أنه في معظم المجتمعات، يعيش الأشخاص من أصول أجنبية الذين لا يتحدثون اللغة المحلية بطلاقة في وضع هشّ جداً. إنه عمل ترفض اليد العاملة في البلد القيام به لأن أجره منخفض ويُنظر إليه باستعلاء وهو مُحتقر اجتماعياً في حين يمكن ويجب اعتباره مثل أي نوع آخر من العمل، والتعامل معه على أنه عمل أساسي بالنسبة للمجتمع كما أثبتته لنا تجربة كورونا.
ما الذي برأيك سيمكّن النساء اللواتي يعشنَ على هامش المجتمع من الخلاص من وضعهنّ هذا؟
كل امرأة لها ظروف الاستضعاف الخاصة بها. فإن تحدّثنا عن النساء المهاجرات في تونس، أرى أن تسوية أوضاعهنّ إدارياً يمكن أن تخرجهنّ من وضع الهامشية ويؤمّن لهنّ حياة كريمة، وكذلك تطبيق القانون ضد أنواع التمييز العنصري الذي صدر عام 2018 في تونس ولم يطبّق منه أي شيء على أرض الواقع. بحسب معرفتي، لم يصدر أي حكم يجرّم الأعمال العنصرية حتى اليوم. من جانب آخر، فإن إبراز قيمة العمل الذي تقوم به النساء اللواتي يعشن ظروف القهر والاستضعاف يمكن أن يساعدهنّ في تحسين أوضاعهنّ الاقتصادية والتطوّر نحو حياة رغيدة وصورة أفضل عن الذات. نرى أيضاً نساءً يعملن كبائعات متجولات أو كبائعات ألبسة مُستعملة في أكشاك صغيرة أو كجامِعات لزجاجات البلاستيك. جميع هؤلاء النساء يزدَدْن فقراً يوماً بعد يوم. والواقع أن الهشاشة الاقتصادية مرتبطة بالمنظومة الاقتصادية التي نعيش فيها. فالرأسمالية تلفظ الفقراء وتخفي وجود جميع فئات الأشخاص الذي يعيشون في الفاقة ولا تُقدّم لهم على الإطلاق أي إمكانية لتغيير أفق حياتهم.
لاحظنا في فترة كوفيد، أنه، وعلى الرغم من الحجر الصحي، ازداد الأغنياء غنى، في حين رأى الفقراء مواردهم تتقلّص. يدخل في عين الاعتبار هنا أيضاً التقاطع والتشابه بين أنواع التمييز. ففي الواقع ما يُضاف إلى ظرف النساء العاملات في القطاع غير الرسمي هو الصعوبات المتأتية من لون بشرتهنّ. بالنسبة إلى التونسيات، تؤدّي أصولهنّ الاجتماعية والمناطق التي أتين منها دوراً في تحديد كيفية التعامل معهن، كما تدخل في عين الاعتبار الفروق على مستوى الجنس والجنسانية والحياة في المناطق الشعبية والمهمشة والإعاقة وتؤثّر في درجات العنف الذي يتعرّضن له. الاختلاف مكروه، ومنبوذ، والحل يكمن في العمل على تغيير التصوّرات لدى الناس، على العقليات. إنه عمل طويل الأمد.