هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
يقال إنّه في بينتيداتيو، عندما يهب الهواء بشدة لدرجة يفتح معها نوافذ البيوت، تُصدر الغرف الفارغة أصواتاً تشبه تهليلات قديمة لينام الأطفال. بعض الناس يعتقدون أن أصوات الصفير هذه هي أصوات أشباح عائلة ألبيرتي، وهم النبلاء الذين قام بقتلهم شاب طلب يد ابنتهم، وكان من عائلة أبينافولي المنافسة، وذلك بعد أن أصيب بفورة غضب شديد لأن الابنة خطبت شخصاً آخر. الأصابع الخمسة لجبل كالفير الذي يطل على القرية تذكّر حين يضيئها الفجر باليد المدمّاة للقاتل المتوحش، أي "يد الشيطان".
بعد أن كان خلال قرون مسرحاً لصراعات عنيفة إقطاعية ولزلالزل مدمرة، تم في سنوات السبعينيات إعلان هذا المكان الصغير الواقع في مقاطعة ريجيو كالابريا موقعاً غير صالح للسكن. انتقل سكانه إلى البيوت الجديدة التي تم بناؤها بعد ذلك بقليل. من وقتها، صار المكان "قرية شبحية" يمكن الوصول إليها مشياً على الأقدام عبر طريق ضيق من الحجر يتلوى مثل ثعبان على طول القمة الصخرية بين ألواح شجر الصبار وأجمات نباتات المناطق الوعرة. صارت بيوتها السكنية كلها تقريباً مهجورة، تساقطت سقوفها، واقتلعت الأنواء عوارض النوافذ والأبواب فيها. لكن في ضياء الغروب الباهر، عندما تشتعل أولى الالتماعات، تبدو القرية بكل بهائها. هناك اليوم شخصان فقط يعيشان فيها: روسيللا وهي فلاحة وراعية أصلها من فيتيربه انسحرت بهذا المكان الوعر والمنعزل، وماكا، الشاب القادم من مالي والذي كان يساعدها في الحقول وبرعي الماعز.
"لقد وصلت بالصدفة إلى هنا في عام 1983"، تتذكر روسيللا التي كان عمرها في تلك الفترة ث23 سنة، وكانت استقالت لتوّها من عملها الدائم كساعية بريد في الأوساط الزراعية، في مقاطعة فيتيربه حيث ولدتُ وترعرعت. "كنت أريد أن أكتشف العالم، وقد رحلتُ مع مجموعة أصدقاء. عندما وصلت إلى هذه القرية المهجورة، رحت أسيرة سحرها. كانت رائعة". وتضيف: "ما كانت القرية قد وقعت فريسة الحرائق بعد، وكانت البيوت ما تزال سالمة كلها. سحرتني التفاصيل الصغيرة لهذه العمارة الفلاحية البسيطة والتي ضاعت للأسف خلال التجديد الذي تم مؤخراً؛ كما سحرتني هذه الصخرة الهائلة بما فيها من طاقة غير معقولة. كان ذلك سحر خالص".
في البداية استأجرت روسيللا بيتاً صغيراً بما يعادل ١٠ يورو بالشهر تقريباً. ما كان في البيت لا مراحيض ولا مياه جارية، ولم يكن هناك حتى قفل للباب الذي كانت تغلقه في الليل بشريط من القماش. تقول روسيللا وهي تضحك، "أنا فلاحة، وأحب الاشياء القديمة. كلما كانت قليلة الراحة وصعبة، كلما أعجبتني! أحب العزلة والهواء والصمت وأن أمشي ببطء في الريف مغمورة بضجيج وعطور الطبيعة. لو أن هذا المكان كان مأهولاً، لا أعرف إن كنت سأقرّر البقاء فيه".
في البداية كانوا ثلاثة في القرية، هي ونحات نمساوي شاب مع صديقته. تروي لنا ذكرياتها: "كانت الحقول المجاورة مخضرّة وبكْر لم يمش فيها أحد. شيء ما يجعلك تشعر كأنك وسط جنة أرضية. كل صباح، كنت أمشي على طول الفيوماريه، أي أخاديد السيول(1) بحثاً عن الأعشاب الطبية. أخدود سانت ايليا الذي يجري تحت القرية تماماً مليء بالزعتر والقيصوم والخبازى والشمار البري. أبعد بقليل كانت هناك مساحات ممتدة من البابونج ومن نبات ذهب الشمس الخالدة. وفي كل مكان كنت قادرة على أن أملأ سلتي من نبات البكورية". كانت الأمطار الغزيرة الشتائية والربيعية تسمح بريّ الحقول وبسقاية الحيوانات بما في ذلك في فترة الصيف. "كنت أنام وابتسامتي على شفتي بعد أن يهدهدني صوت السيل في حين كانت المياه تتدفق دون أن تتوقف. من حوالي أقل من سنتين، ما عدت أسمع ماء السيل، لقد بدأت المنطقة تتصحّر".
في العقود الأخيرة، صار الجفاف مشكلة كبيرة في هذه المنطقة من جنوب ايطاليا، وصار يبدو أن الأمور لن تعود إلى سابق عهدها. خلال الفصل الجاف، كان بستان روسيللا الصغير يسمح لها بأن تعيش، لكنه يجد صعوبة كبيرة في أن يستمر في العطاء. منذ أربع سنوات، بدأت تظهر حركة فندقية إلى جانب الإنتاج الزراعي والرعوي، وكانت تضم مشروع الطعام الاجتماعيsocial eating المسمى "مطبخ فلاحي". في أمسيات الصيف المنعشة، يلتقي الضيوف حول الشرفة الكبيرة المحمية لكي يذوقوا الجبن الرائع المصنوع في البيت، وجبنة الريكوتا الطيبة المحفوظة في سلال القش المضفورة التقليدية، مع خبز ساخن خرج لتوه من الفرن وخضار طازجة ونبيذ محلي ممتاز. الريف المحيط ينحدر بنعومة نحو البحر تاركاً أمام النظر
"أحلم بنموذج بديل عن هذا المجتمع الذي يقف على حافة هاوية ويستمر بالاستهلاك بشكل مجنون وأعمى"
مشهداً رائعاً، وعندما تهب ريح الترامونتان يمكن من بعيد رؤية بركان اتنا الفاتن يرتسم ظله بعد مضيق ميسينا.
لمساعدة روسيللا في أعمال الحقول، ومن أجل الاهتمام بعنزاتها العشرين، هناك ماكا، وهو شاب من مالي وصل إلى سواحل كالابريا عندما كان ما يزال طفلاً. "كنت أبحث عن شخص يساعدني، وقرّرت أن أتوجه لمركز ايكسودوس Exodus لحماية ودمج طالبي اللجوء. في البداية كان هناك باكستاني نحيل جداً وطويل جداً شعره أسود طويل ناعم كالحرير وعينان بنيتان مليئتان بالنعومة. بعده، كان هناك نيجيري شديد الجموح كان أشبه بعارض أزياء وليس براعي مواشي. كان يسير ممسكاً عصا طويلة من الخشب وقطعة اسطوانية من القش ليحمي نفسه من الشمس. "كان الأمر مضحكاً جداً -تقول روسيللا وهي تضحك-. من سنتين أتى ماكا ليعيش معي. إنه يعرف أن يصنع كل شيء، وله جسد رشيق وقوي، كما أنه قادر على التأقلم مع جميع الظروف، بما في ذلك الظروف المناخية شديدة الصعوبة. إنني أتقاسم معه هذه المغامرة الزراعية الرعوية، ونحن سعيدان هنا. لقد تولد إنسجام جميل ما بيننا، وأن أعتبر نفسي محظوظة لأني التقيته".
(2)في كل صيف يُقام مهرجان متنقل للموسيقى والتقاليد الشعبية في منطقة كالابرا الإغريقية Paleariza وواحدة من محطاته هي بينتيداتيو. كما أن القرية تستقبل ما بين شهر آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر مهرجاناً دولياً للأفلام القصيرة. لكن الحدثين قد توقفا الآن بسبب الكوفيد. منذ عدة سنوات، قام حرفيون/ات بافتتاح مشاغل صغيرة في طرقات القرية التي صارت إحدى المحطات لكثير من الرحلات الجبلية. "في بعض الأحيان أشعر أني هنا من أجل سبب خاص، كما لو أنه كانت لي مهمة يجب أن أتمّمها". وتتابع روسيللا قائلة: "إنني أستقبل أشخاصاً يأتون من جميع أنحاء العالم، ولدي شعور بأنني مجرد فلاحة بسيطة عليها أن تقدم لهم الحرارة والبساطة وتجعلهم يشعرون بأنهم في بيوتهم. التقيتُ بمئات المسافرين ومتطوعي الزراعة العضوية وأشخاص وصلوا إلى هنا بمحض الصدفة. إنني أسميهم كلهم أبناء بينتيداتيو لأن هذا المكان هو مكان لا يمكن نسيانه. كثيرون منهم عادوا، وبعضهم يستمرون في الكتابة لي بعد مرور عدة سنوات".
وراء الجرف قامت روسيللا حديثاً مع زوج من الأصدقاء الألمان بشراء بيت تريد أن تحقق فيه مشروع استضافة منتشرة وتبادل معارف حول الحياة الريفية وحول التنمية المستدامة. "إنني أحلم بنموذج بديل عن هذا المجتمع الذي يقف على حافة هاوية ويستمر بالاستهلاك بشكل مجنون وأعمى". تشرح لنا روسيللا ذلك وهي تتنهد في حين يلتمع في عينيها بريق أمل.
بعد ذلك تنهي كلامها قائلة: "أتمنى أن يبدأ الشباب من منطقة كالابريا بالإعجاب بأرضهم الرائعة. إنني أدعوهم لأن يجدوا جذورهم، وأن يبثوا الحياة في هذه القرى الصغيرة المهجورة من أجل حماية هذا الإرث الذي لا يقدر بثمن