هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
الصورة الرئيسية: مشروع تصوير عن الأمومة البديلة في أوكرانيا من إعداد ماريا فولكوفا.
باتريشيا سيمون، كيرالت كاستيلو، ليزا توروسيان، ماريا فولكوفا
نظام تأجير الأرحام معقّد وعابر للحدود، وله امتداد واسع في مختلف أنحاء أوروبا. يتكوّن هذا النظام من عشرات الشركات التابعة، وشركات الواجهة، والشركات الوهمية، بالإضافة إلى كيانات مسجّلة في الخارج، بعضها في ملاذات ضريبية. وتقدّر العائدات السنوية لهذه الصناعة بأكثر من 17 مليار يورو.
في المبنى رقم 51 بشارع فاسيل بارنوف في تبليسي، جورجيا، وعلى بُعد خطوات من السفارة الصينية، يُنهي موظفو "المركز الجورجي الألماني للإنجاب" (GGRC) يومهم. داخل هذه العيادة المتخصصة بتقنيات الإنجاب المساعدة، يعمي الزائر ضوء أبيض قاسٍ، ينعكس على المعاطف المخبرية البيضاء التي يرتديها أفراد الطاقم الطبي. في غرفة الانتظار، يتحدث بعض الأزواج بصوت خافت باللغة الجورجية، بينما يضعون أغطية أحذية معقّمة. يدخل الناس ويخرجون، بعضهم يحمل أوراقاً يسلّمها إلى مكتب الاستقبال. من بين هؤلاء، تظهر شابات كثيرات، بعضهنّ متبرعات بالبويضات، وأخريات أمهات بديلات محتملات، وربما فقط فضوليات يسألن عن معلومات أولية.
الجوّ ثقيل، ليس فقط بفعل نظام التدفئة في العيادة، الذي يبدو وكأنه يستبق برودة شتاء القوقاز المقبل بمحاولة دافئة لتلطيف الأجواء، بل أيضاً بسبب ثقل المكان نفسه. في قاعة الاستقبال المزدحمة، كل حركة، كل نظرة، وكل انتظار، يحمل شيئاً من التوتر المكبوت. كأن الهواء مشبّع بما لا يُقال، وما لا يمكن الإفصاح عنه بسهولة.
على بُعد 1500 كيلومتر، في مدينة خاركيف الأوكرانية، لا يبدو المشهد مختلفاً كثيراً في عيادة "فيسكوف"، وإن ازدادت تعقيداته بسبب القصف شبه اليومي وقرب العيادة من الحدود الروسية، التي لا تبعد أكثر من 40 كيلومتراً. ومع تصاعد المخاطر، وسّعت عيادة الأمومة البديلة خدماتها لتتلاءم مع واقع الحرب: يمكن للعملاء إرسال موادهم الجينية عبر البريد السريع، والتخطيط لولادة أطفالهم في اليونان أو جورجيا، بعيداً عن مناطق النزاع.
وتتيح العيادة أيضاً إمكانية اختيار جنس الجنين، ما يلبّي رغبات بعض العائلات التي تسعى لتحقيق "التوازن" بين الجنسين. في المكاتب المزيّنة بصور أطفال رضّع ببشرة بيضاء وعيون زرقاء، يتحدث الموظفون بثقة عن ازدهار العمل، مدفوعاً بارتفاع الطلب من قبل العملاء الصينيين والعرب.
غيّر الغزو الروسي ملامح سوق الأمهات البديلات في المنطقة. فبعد أن كانت الوكالات تعتمد بشكل أساسي على الأوكرانيات الفقيرات، بدأت الآن في استقطاب نساء من كازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان ودول أخرى. هذا التحوّل يظهر بوضوح أيضاً في جورجيا، حيث ارتفع الطلب على خدمات تأجير الأرحام بشكل ملحوظ منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وارتفعت معه الأسعار.
وفي هذا البلد القوقازي الذي لا يتجاوز عدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة، بات من الصعب العثور على شابات جورجيات يرغبن في العمل كأمهات بديلات، ما دفع العيادات إلى توسيع نطاق بحثها خارج الحدود، سعياً وراء أجساد بديلة في أماكن أخرى.
تجارة في توسّع دائم
يُعدّ تأجير الأرحام تجارةً عالمية آخذة في التوسّع، والجميع يسعى للحصول على حصته منها. ووفقاً لمجلة ذي إيكونوميست، ارتفعت إيرادات هذه الصناعة من نحو 13.3 مليار يورو في عام 2022 إلى 17 مليار يورو في عام 2023، وسط توقّعات بأن تتجاوز 132.7 مليار يورو بحلول عام 2032.
في 23 نيسان/ أبريل 2024، صوّت البرلمان الأوروبي على مراجعة توجيه الاتحاد الأوروبي العام لمكافحة الاتجار بالبشر، بما في ذلك إجبار النساء على تأجير أرحامهن وفقاً لتعريف الاتجار بالبشر. وقد أُقرّ الاقتراح بأغلبية 563 صوتاً مؤيداً، مقابل سبعة أصوات معارضة، وامتناع 17 عن التصويت.
ومع ذلك، لا يزال الأزواج الأوروبيون يسافرون إلى دول مثل أوكرانيا وجورجيا لإنجاب أطفال عبر تأجير الأرحام، مستفيدين من ثغرات قانونية تتيح لهم، عند العودة إلى بلدانهم، تسجيل هؤلاء الأطفال دون عوائق تُذكر.
ويحذّر المدافعون عن حقوق الإنسان من استمرار هذا النمط من الاستغلال، إذ تقول ماريا دميترييفا، مديرة مركز تنمية الديمقراطية: "إذا قام الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء بمنع مواطنيهم من اللجوء إلى ممارسة تأجير الأرحام في الخارج، فإننا بذلك نضع حداً لاستغلال النساء، خاصة القاصرات".
وتُظهر الأرقام حجم هذه الظاهرة العابرة للحدود: في أوكرانيا، لا تتجاوز نسبة الأزواج المحليين الذين يلجأون لتأجير الأرحام 5%، بينما تعود الغالبية العظمى من الحالات إلى أزواج أجانب. أما في جورجيا، فـ 90% من العملاء هم من خارج البلاد.
تأجير الأرحام بات تجارةً عالمية متسارعة النمو، وكل طرف يسعى إلى اقتطاع نصيبه من هذا السوق المزدهر.
سلاسل عابرة للحدود
تظل الولايات المتحدة الوجهة المفضّلة لمن يملكون موارد مالية أكبر، إذ كانت أول دولة تُشرّع تأجير الأرحام، وأكثرها ترويجاً له في وسائل الإعلام السمعية والبصرية. وإلى جانب البنية القانونية والتنظيمية المتطورة، تتميّز بعض الولايات الأمريكية بآلية تُسهّل على الأزواج الحصول على حقوق الوالدية: فبدلاً من الاضطرار إلى إجراءات التبني أو التسجيل القنصلي كما هو الحال في دول أخرى، يُصدر القاضي حكماً يحدّد نسب الطفل وقرابته بالوالدين مباشرة. هذه الميزة القانونية تجعل من الولايات المتحدة خياراً جذاباً، وإن كان مرتفع التكلفة، للراغبين في اللجوء إلى تأجير الأرحام.
ومع ذلك، يتجه المزيد من الأزواج حالياً إلى اليونان وأوكرانيا وجورجيا للحصول على أطفال عبر تأجير الأرحام. في أوروبا، تستند تجارة تأجير الأرحام إلى شبكة عابرة للحدود تضم جهات فاعلة مترابطة ومنسقة، تشمل شركات المحاماة، الوسطاء، والعيادات المتخصصة.
بعد أشهر من التحقيقات في إسبانيا واليونان وأوكرانيا وجورجيا، تبيّن وجود أنماط مشتركة تتمثل في هياكل مؤسسية معقدة، وشركات مسجلة بأسماء وهمية، وروابط مع مجموعات خارجية في دول متعددة، إضافة إلى شركات مسجّلة في بلدان غير بلد التأسيس، بما في ذلك ملاذات ضريبية.
في نهاية هذه الرحلة نحو الأمومة والأبوة، التي يخوضها غالباً أزواج من دول تحظر تأجير الأرحام، يأتي دور النساء اللواتي يحملن الأطفال مقابل المال، غالباً هرباً من ظروف اقتصادية صعبة أو لتخفيف أعبائها على أنفسهن وعائلاتهن.
تروي فيكتوريا، التي تقيم في حي فقير بضواحي كييف: "كان لديّ طفلة تبلغ من العمر عاماً واحداً، ولم أكن قادرة على دفع إيجار الغرفة التي نسكنها. لذلك قررت أن أكون أماً بديلة لأتمكن من شراء منزل لي ولطفلتي". تحتضن ابنتها الصغيرة وتضيف: "لم يكن لي أي رأي في القرارات، كانوا [الأطباء في العيادة] يتخذون كل شيء. كنت أسمعهم يتحدثون عنا كما لو كنا مجرد حاضنات، أو بمعنى آخر (فقاسات). لكن الأطباء والممرضات كانوا مهذبين ولطيفين. كان عليّ الخضوع لفحوصات شهرية، وكانت التدخين والكحول ممنوعين. إذا التزمت بالقواعد، كانوا يمنحونني مبلغاً إضافياً".
وكالة وساطة للأمومة البديلة في مالقة، إسبانيا. باتريثيا سيمون.في اليونان، يُسمح بتأجير الأرحام منذ عام 2002 للأزواج اليونانيين، وتمّ توسيع ذلك ليشمل الأزواج الأجانب منذ عام 2014. ويوجد قانون ينظم هذه العملية بوضوح، حيث يشترط الحصول على موافقة قضائية تثبت عدم قدرة الزوجة على الحمل، كما يحدد القانون تعويض الأمهات البديلات بمبلغ لا يتجاوز 20 ألف يورو.
ورغم أن تأجير الأرحام يُفترض أن يكون مبنياً على إيثار الآخر ومساعدته، تكشف الإحصاءات أن 35% فقط من الأمهات البديلات في اليونان هن من اليونان نفسها، بينما تأتي النسبة الأكبر من بولندا وبلغاريا وجورجيا وألبانيا ورومانيا. ومن بين النساء الأجنبيات اللاتي يؤجرن أرحامهن، تشكل نساء أوروبا الشرقية نسبة 81.7%.
وعلى الرغم من وجود إطار قانوني واضح، تكشف الفضائح العديدة التي شهدتها البلاد في الآونة الأخيرة كيف يستغل بعض أصحاب هذه التجارة الثغرات القانونية لتحقيق مكاسب غير مشروعة، مما يسلط الضوء على هشاشة الرقابة والتنظيم في هذا المجال.
في البلدان التي لا تزال تجارة تأجير الأرحام فيها ممنوعة، يسعى العاملون في هذا المجال غالباً إلى تقنينها تحت شعار "الإيثار". يوضح ميغيل غونزاليس إريكسن، محامٍ ومؤسس الوكالة الإسبانية Universal Surrogacy، أن الموضوع لا يزال محل جدل كبير، إذ "بمجرد ذكر المال، يتراجع الناس". لكنه يضيف أن قبول فكرة تأجير الأرحام بدافع الإيثار، الذي هو في الواقع مأجور، يسهّل في النهاية قوننة النموذج التجاري لهذه الممارسة. ويؤكد إريكسن بقوله: "عاجلًا أم آجلًا، سيحدث ذلك".
انقر هنا لقراءة التحقيق التالي حول اليونان ومشاكل تأجير الأرحام
هذا التقرير جزء من التحقيق في صناعة تأجير الأرحام، والذي تم تطويره بتمويل من Journalismfund Europe ونُشر باللغة الإسبانية على موقع lamarea.com.





























