الصورة الرئيسية للبنى صويلح في مطار شارل ديغول خلال إحدى رحلاتها.
لبنى صويلح
يوم مشمس في لشبونة، تتوالى أمامي على منصة "انستغرام" مشاهد عودة السوريين/ ات إلى بلادهم/ ن. تنتشر الفيديوهات على منصات التواصل الاجتماعي، تعمُّ الاحتفالات الطائرات، مضيفات الطيران السوريات سعيدات، يلوحن بعلم الثورة، فيما تصدح في الأجواء أغنية "إرفع راسك فوق انت سوري حرّ". هكذا نختبر اليوم، نحن السوريون/ ات، بعد سقوط نظام الأسد، حالة لم نعهدها من قبل، وكأنّ أجسادنا قد تقمصتها أرواح جديدة، وسعيدة، وحرّة. أخيراً هناك وطن نعود إليه.
تائهة في رحلة ترانزيت
أعود بالزمن إلى منتصف تشرين الأول/ أوكتوبر من العام الماضي، حين غادرت البيت في الشام، وجلستُ بجوار السائق متجهةً إلى مطار دمشق، في أول رحلة لي منه، بعد إلغاء رحلتي من بيروت إلى لشبونة نتيجة القصف الإسرائيلي على لبنان. أتأمل الخراب على طول الطريق المؤدي الى المطار، يبدو كلّ شيء موحشاً، حدثني السائق عن جاره الذي يأكله الندم لعودته من ألمانيا بعد ستة أشهر لم يحتمل خلالها البرد القارس والاكتئاب، يشكو لي أيضاً بحثه الدائم عن طريقة للسفر إلى أوروبا، لينقذ ابنه من الذهاب إلى الخدمة العسكرية. ربما لو جاء أحدهم من المستقبل في تلك اللحظة، وأخبرنا بما تنتظره البلاد بعد أقل من شهرين كي لا نقلق، لاعتبرناه مجنوناً.
وصلنا أخيراً إلى المطار. وفقاً لكارل يونغ، يرمز المطار في الأحلام الى فترة انتقالية، إلى تحولات وتغيرات مصيرية. أتمنى لو كان يونغ على قيد الحياة، لأسأله عن كوابيسي التي تراودني كل ليلة، وعن منامي المتكرر، حيث أركض للحاق بالرحلة قبل أن تفوتني. منذ مغادرتي لسوريا، أصبحتُ أرى أحلاماً كثيرة وغريبة، أتذكرها تماماً عندما أصحو، وأحاول تفكيك رموزها حسب تفسيرات يونغ، لكن أكثرها إزعاجاً ذلك الحلم الذي أجد نفسي فيه تائهة في رحلة ترانزيت.
أحب الجلوس في الطائرة بجوار النافذة، ولحظة الإقلاع، حين أصبح معلقة بين السماء والأرض، أنسى همومي الأرضية وأحدّق بالغيوم. تختلف المدن من نوافذ الطائرات، تمنحك انطباعاً عن البلاد، هل هي خضراء، متلألئة في الليل أم باهتة وكئيبة؟ وأنا أغادر سوريا، لا حاجة للنظر من النافذة، فالحطام الذي آلت إليه يفيض على وجهي ووجوه الركاب/ ات، نحمله معنا أينما ذهبنا.
منذ مغادرتي لسوريا، أصبحتُ أرى أحلاماً كثيرة وغريبة، أتذكرها تماماً عندما أصحو، وأحاول تفكيك رموزها حسب تفسيرات يونغ، لكن أكثرها إزعاجاً ذلك الحلم الذي أجد نفسي فيه تائهة في رحلة ترانزيت.
سيدة سوريّة وقنينة عطر
تجلس بجواري سيدة توحي للوهلة الأولى بأنها أكبر من سنها الحقيقي، تحاول وضع الحزام، أساعدها بينما تخبرني بإنها المرة الأولى التي تركب بها طائرة. تقول لي أنها من درعا في جنوب البلاد، تصمت قليلاً، تفكر ثم تتابع بغصّة، جميعنا سوريون/ ات. قبل الإقلاع، تحادث شاباً يبدو ابنها عبر مكالمة فيديو، تحدق به من خلال كاميرا الهاتف، لا تستطيع التوقف عن البكاء رغم أنها على وشك لقائه بعد ساعات، أعطيها منديلاً تقول لي: "لكل إنسان على هذه الأرض قصة حزينة يحملها بداخله، توفي زوجي وأنا حامل بها، تشير إلى ابنتها الجالسة بجوارها، كنت في الخامسة والعشرين، ربيتها مع أبنائي الثلاثة وحدي، لم أرهم منذ سبع سنوات، أشكر الله على بقائهم أحياء في هذه الحرب". قبل الهبوط تبدو مرتبكة، وسعيدة، تُخرج من حقيبتها أحمر شفاه، ومرآة، ربما لم تضع مساحيق تجميل على وجهها منذ زمن بعيد، تفتح زجاجة عطر، ترش الكثير منه على عنقها وملابسها، ترغب بمشاركتي العطر، أمدُّ لها يدي، أشعر بالسعادة وأنا أرتدي رذاذه، ذكرى من هذه المرأة.
بعد عدة محطات ترانزيت، وصلت إلى مطار إسطنبول، علي الانتظار لأكثر من سبع ساعات حتى موعد الطائرة التالية. أجوب المطار الكبير الذي أصنفه على الحياد، لا ذكريات سيئة ولا جيدة، ولكنه يبدو كئيباً في الليل، معظم المسافرين/ ات نيام، أحاول التغلب على النعاس. في ركن جانبي، أسمع لهجة سورية، يبقى السوريون/ ات مستيقظين/ ات غالباً، ربما بدافع الخوف الملازم لنا، أو ربما لحاجتنا الدائمة للفضفضة. أجلس بجوار سيدتين تخوضان حديثاً طويلاً، تشكو إحداهما تعاستها في الخارج، ونظرة أقربائها لها داخل سوريا، يستنكرون شكواها، ولا يتفهمون وحدتها، يقولون لها: "هناك ماء وكهرباء أليس ذلك كافياً؟"، تقاطعها صديقتها: "أتعلمين، يستحيل أن أفكر بالاستقرار في سوريا مع إبني، أنا حرة الآن، أتعرفين ما تعنيه حياتي كمطلقة مع أهلي؟".
أعرف الكثير من السوريات اللواتي يمتلكن حكايات مشابهة، منهن من اضطرت إلى تحمل الإهانات، التعنيف، أو الحياة مع رجل لا تحبه، لأن الطلاق في سوريا سيجردها من حقوقها، ويتركها منبوذة، موصومة اجتماعياً. لذا وجدن في أوروبا ملاذاً؛ قوانيناً تحميهن، ظروفاً اقتصادية أفضل، أماناً وحرية افتقدنها طويلاً.
نحن بشر أيضاً، نريد حصتنا من الحياة، حزانى/ ات ومنهكون/ ات، نعم، لكن لا تختزل حياتنا في كلمة "حرب" أو في الصور التي يرانا بها العالم في عناوين الأخبار، نريد أن نعيش، فقد أخذنا حصتنا الفائضة من الموت.
لا تُختَزل حياتنا في كلمة "حرب"
وحيث إنه علي الانتظار لساعات حتى موعد الطائرة التالية، أبحث عن مقبس لشحن هاتفي، أجد واحداً بجوار فتاة عشرينية تنتظر رحلتها إلى أيرلندا، تسألني من أي بلد أنا، أجيبها بأنني من سوريا، تقول لي الكلمة المعهودة "war". تطلب مني رؤية صور لمدينتي. أريها صوراً التقطتها في شارع الثورة وسط دمشق، المكتظ بالموظفين/ ات وطلاب/ ات الجامعات والأمهات المنهكات، كل هؤلاء الذين يستيقظون/ ن صباحاً ليواصلوا المحاولة رغم كل مآسي الأمس، أريها أيضاً فيديوهات لأصدقائي/ تي يعزفون/ ن ويغنون/ ن في حارات الشام القديمة. نحن بشر أيضاً، نريد حصتنا من الحياة، حزانى/ ات ومنهكون/ ات، نعم، لكن لا تختزل حياتنا في كلمة "حرب" أو في الصور التي يرانا بها العالم في عناوين الأخبار، نريد أن نعيش، فقد أخذنا حصتنا الفائضة من الموت.
تغيرت صورتنا في الأخبار اليوم! بعد أكثر من شهرعلى سقوط نظام الأسد، الأهم هو ما تغير فينا، هل ستختلف حكاياتنا؟ توقفت كوابيس رحلات الترانزيت التي لازمتني، لأكون أكثر دقة، توقفت الكوابيس التي أنهكتني عموماً. أفكر بسوريا الجديدة، برحلتي القادمة إليها، بالطريق الطويل الذي ما زال أمامنا، بالقيود الداخلية التي لم أستوعب بعد كيفية الحياة بدونها، بالسؤال الأهم: هل سأودع الخوف إلى الأبد؟ تنقطع سلسلة الأفكار التي تتزاحم في رأسي، وأنا أرى سيدة سبعينية تخرج من بوابة مطار دمشق برفقة ابنها، تخبر المذيع بأنها لا تصدق أنها عادت إلى سوريا أخيراً، بعد غيابها القسري لأكثر من ثلاثين عاماً، تنظر إلى السماء وتبكي فرحاً، أتأملها من خلال الشاشة وتنهمر دموعي معها.