رولا أبو هاشم
الحادي والعشرون من آذار/مارس
وأخيراً، وصلني الإنترنت بعد انقطاع دام يومين بسبب الأحوال الجوية الماطرة في غزة. خلال تلك الفترة، شعرت وكأنني في عزلة تامة عن أجندة العالم الخارجي ومناسباته الإنسانية. هنا، يقطع صفو هدوئنا صوت طائرات الاستطلاع التي تحلق على ارتفاع منخفض لدرجة أننا نشعر وكأنها ستسقط فوق رؤوسنا. هنا، يتوقف تركيزنا مع كلّ انفجار يهزُّ الأرض من حولنا، ويتكرر كلّ ساعة.
وحين حظيت بأن أحمل هاتفي المحمول في آخر النهار الرمضاني المزدحم بالمهام اليومية الشاقة، تفاجأت برسالة من صديقتي عبر "الواتس أب" تطلب مني أن أتحدث عن يوم الأم في غزة! أصابتني الصدمة للوهلة الأولى! هل وصلنا فعلاً إلى الحادي والعشرين من آذار/ مارس؟! اليوم الذي يُفترض أن يكون مليئاً بالفرح والتجهيزات البسيطة، والهدايا التي تحمل حباً وامتناناً للأمهات.
أمهات لا أبناء/بنات لهن
كان من المفترض أن يكون نهاراً دافئاً حافلاً بالتحضيرات والمفاجآت والهدايا، ومفعماً بالحبّ والأحضان والدعوات الصادقة! لكن في غزة، حيث يعاني الناس من الحروب والدمار المستمر، تسلل هذا اليوم بهدوء وسط معاناة يومية، حاملاً معه طابعاً آخر من الحزن والتذكير بالخسارات التي لا تنتهي. تحول عيد الأمّ هنا من يوم للحبّ إلى يوم مثقل بالألم والفقد والوحدة.
بعدما أصبحتُ أماً منذ ثمانية أعوام، اعتدت أن يكون عيد الأم يوماً مميزاً، لطالما حرص زوجي وأطفالي أن يجعلوا هذا التاريخ مختلفاً، مليئاً بالمفاجآت والهدايا البسيطة التي تعكس حبهم. كما حرصتُ على زيارة أمي في بيت أهلي في هذا اليوم، حيث نحتفل سوياً وتغمرنا مشاعر الدفء والألفة. لكن هذا العام، كما في العام الماضي، يأتي يوم عيد الأمّ بشكل مختلف، يزورنا بارداً وثقيلاً، تبلله دموع الأمهات الفاقدات والمفجوعات، اللواتي تضجُّ أفئدتهن بالحسرة والعجز والقهر الكبير!
لقد حولت حرب الإبادة الجماعية الأمهات في غزة إلى ثكالى بالجملة! لم تفقد الأمهات هنا طفلاً أو اثنين مثلاً بل امتدت رقعة الفقد لتشمل الأبناء جميعاً لمئات الأمهات!
لقد أفرغت صواريخ الاحتلال أفئدة أمهات غزة من فلذات أكبادهن دون مراعاة لسنوات الانتظار الطويلة التي عاشتها عشرات الأمهات قبل أن يُرزقن بمواليدهن، ولا حتى للطريقة التي حاربت بها النساء كي يصبحن أمهات!
على مدار سنوات من الصراع، بذلت أمهات غزة جهوداً مضنية في تربية أطفالهن ورعايتهم، لكن تلك اللحظات الجميلة من الحياة تحولت إلى فاجعة في لحظات الحرب.
عجز الأمهات
يومياً نستمع لشهادات من أمهات حرمهن الاحتلال من سماع كلمة (ماما) بعد أن قتل أطفالهن الرضع، فمنهن من فقدت طفلها/ تها في لحظاته/ ا الأولى، ومنهن من ودعته/ ا بعد أيامٍ قليلة من ولادته/ ا وأخرياتٌ خسرن أجنتهن داخل بطونهن. تلك الأمهات لا يعانين فقط من فقدان الأبناء/ ات، بل من حرمانهن من أن يسمعن ضحكتهم/ ن، أو يشعرن بحاجتهم/ ن إليهن أو أن يشمنَّ رائحتهم/ ن.
لقد حولت حرب الإبادة الجماعية الأمهات في غزة إلى ثكالى بالجملة! لم تفقد الأمهات هنا طفلاً أو اثنين مثلاً بل امتدت رقعة الفقد لتشمل الأبناء جميعاً لمئات الأمهات!
في آخر إحصائية صدرت في غزة قبل استئناف الحرب أكد المكتب الإعلامي الحكومي أن 17 ألف أم ثكلت بفقدان أبنائها.
وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، ارتفع عدد الأطفال الذين قتلوا خلال حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل إلى 15613 طفلاً وطفلة، ما يشكل 31% من إجمالي قتلى القطاع. هذه الأرقام تمثل أكثر من 631 لحظة فقدان عاشتها أمهات غزة، وأكثر من 631 صرخة ألمٍ هزت قلوبهن.
تخيل كيف أمست الحياة في عيون أم فقدت فجأة أبنائها، وانقلب اسمها من "أم العيال" إلى "أم الشهداء"! ما الذي يمكن أن تختبره هذه الأمُّ في ظل هذا الواقع المرير؟!
عاشت أمهات غزة، خلال شهور العدوان، أسوأ اللحظات، حيث سيطر عليهن شعور العجز عن تلبية رغبات أطفالهن. تلك الرغبات التي كانت في الماضي أموراً بديهية، مثل قطعة حلوى أو فرحة صغيرة مع كلّ وجبة، أصبحت اليوم أحلاماً بعيدة المنال.
إذ كيف تصبح (فرشوحة الشاورما) -على سبيل المثال- الآن أمنية يغمض الطفل/ ة الصغير عيونه/ ا كي يتذكر/ ت مذاقها دون أن يراها/ ت أو يلمسها/ ت، بعد أن اعتاد/ت تناولها كلما اشتهتها نفسه/ ا قبل الإبادة؟!
وكيف تتعمد الأمهات طيَّ المسافات لتحتضن جميع أطفالها كلّ ليلة في مربع واحد كي يحظوا جميعاً بذات المصير إذا ما باغتهم صاروخ إسرائيلي؟!
هنا، أصبحت دعوة الأمهات: "يا رب إذا كتبت لنا الشهادة، فاكتبها لي مع أطفالي، كي لا يتجرع أحدنا حسرة الفقد على الآخر!"
في غزة مرَّ يوم الأم حزيناً لأمهات بلا أبناء، ولأبناءٍ بلا أمهات.