لا تقتصر السيطرة على شعورِ النساء لأغراضٍ سياسية على دولة إيران. فقد توغّلت تلك السيطرة في التاريخ الحديث والقديم وفي مجتمعات وبلدان عدّة، على الرغم من أن لا طبيعة جنسية أو تناسلية أصلاً لشعر المرأة. غير أن هذه الحقيقة لم تثنِ مَن يُسمّوا "رجال الدين" ورجال السلطة عن إضفاء هذا الطابع على الشعر الأنثوي، ومعه الطابع الديني واللاهوتي وما يرافق ذلك من تسييس لشكل الشعر ودرجة ظهوره على مدى قرون.
كتبتوا وفسّروا على هواهم، مستخلصين من نصوصٍ دينية وقانونية مبرّراتٍ للحجاب احتلّت جوهرَها فكرةُ الخطيئة ووجوبُ عفّة النساء وحمايتهن من شهوات الرجال.
في كتاب "المرأة في إيران منذ نشأة الإسلام وحتى عام 1800"، مجموعة من المقالات التي تقدّم فحصاً شاملاً لدور المرأة داخل المجتمع والثقافة الإيرانيّين من عصور ما قبل الإسلام حتى عام 1800، تساعدنا في تكوين فهمٍ أوسع لأثر التغيرات السياسية في حياة المرأة الإيرانية.
بحسب ما ورد في الكتاب، يُعْتَقد أن الحجاب بدأ في إيران مع الفتح الإسلامي عام 637 (ميلادي). في ذلك الوقت، كان الحجاب الإسلامي مفهوماً جديداً في إيران على الصعيد الديني والاجتماعي، واستغرق وقتاً طويلاً قبل أن ينال طابعاً سياسياً ومؤسّساتياً مثل الذي نراه اليوم.
مع الدولة الصفوية (1501 – 1736)، اكتسبت السلطات الدينية قوةً كبيرة فدعت إلى حجاب المرأة بشكلٍ تدريجي. ومع ذلك، لم ينتشر الحجاب في صفوف الريفيات والمنتميات إلى قبائل، إذ كنّ يمتلكن مهاماً أساسية في دورة الإنتاج الاقتصادي وكان الحجاب يحدّ من حركتهن. ينطبق هذا الأمر على إيران اليوم، حيث ترتدي معظم الريفيات الحجاب فقط عندما يسافرن إلى المدن.
وفق الكتاب نفسه، كان لأوروبا أثر واضح في مسألة ارتداء الحجاب. فمع بداية القرن التاسع عشر وتطوراته الاجتماعية والاقتصادية ونتيجة انفتاح النخبة الإيرانية على المجتمع الأوروبي وزمن الحداثة، اتّجه كثر نحو البحث عن إصلاحاتٍ داخل المجتمع الإيراني، ذلك أن النساء الأوروبيات غير المحجبات أثرن إعجاب بعض الإصلاحيين من الرجال والنساء الذين سعوا إلى إحداث تغييرات مشابهة في مجتمعهم، لكن هذا الوضع لم يرُق للمحافظين والمتديّنين. ولتجاوز هذه المعارضة، توجّه الإصلاحيون/ات آنذاك إلى الملك رضا شاه بهلوي، الذي دعمهم في وجه مناوئيهم.
الخلع الإجباري
بحسب كتاب "المرأة والثورة في إيران" للإيرانية غيتي نشأت، أسّس رضا شاه عام 1935 "إي بانوفان"، منظمة إيرانية لحقوق المرأة أدّت دوراً مهماً في الإصلاحات ضد الحجاب الإجباري، حيث عملت على حملات لإعداد الرأي العام لصالح إزاحة الحجاب، لكن في الوقت نفسه، بقيت معارضة المحافظين لهذه الحملات قوية جداً.
عام 1936، ألغى الشاه الحجاب ولاقى قراره ترحيباً من الطبقات العليا والمتوسطة، وساهم في ظهور الإيرانيات في ملابس غربية الطابع ومكشوفة. ارتدين القبّعات الأوروبية أحياناً كبديلٍ لغطاء الرأس، وأحياناً أخرى تماشياً مع الموضة. ومن المفارقات المثيرة أن إيران كانت أول دولة إسلامية تفرض الزيّ الغربي على النساء.
آنذاك، أمر الشاه الجنودَ بخلع حجاب النساء بالقوة في الأماكن العامة، وهذا الأمر كان مهيناً للغاية للنساء اللواتي آمنَّ بوجوب ارتداء الحجاب، بخاصة النساء المتقدمات في السنّ. ولذلك، رفضت الكثيرات مغادرة منازلهن وتجنّبن الأماكن العامة، كما أن الكشف عن الشعر كان يشكّل عبئاً مالياً للعائلات المحدودة الدخل، إذ كان الالتزام بالحجاب يساعدهن في إخفاء ملابسهن القديمة، تحت الشادور مثلاً.
تخبر الكاتبة غيتي نشأت كيف أثار الخلع الإجباري غضب رجال الدين والمحافظين العلمانيين الذين دعمهم أيضاً تجار الأقمشة الذين منيوا بخسارات كبيرة في مبيعات الشادور الأسود. حتى أنه سُجّل وقوع مواجهات عنيفة بين دعاة الحجاب وجيش الشاه الذي كان يقمع كل مواجهة.
أما بالنسبة إلى الشاه والإيرانيين/ات المعاصرين، فكانت صورة المرأة المحجبة مرادفة للتخلف، ما أدّى إلى تهميش مَن أردن ارتداء الحجاب، فيما ظهرت صورةُ المرأة غير المحجبة كالمرأة العصرية المتعلمة والرمز الجديد المبتغى للبلاد. وبفعل هذا التصوّر، لم تتمكن النساء المحجبات، حتى لو كُنَّ متعلمات، من العمل، ما اضطر الكثيرات إلى ترك أعمالهن. وبالمثل، منع المحافظون مِمًن دعموا تعليم الفتيات سابقاً بناتهنّ من الالتحاق بالمدارس، الأمر الذي ساعد في أن يكون رفع النقاب طريقاً للمرأة لاختيار هويتها والوصول إلى التعليم والعمل، وفي الوقت نفسه حرم المحجّبات من الفرص نفسها.
أصبح ارتداء الحجاب يطارد الكثيرات إذ تحوّل إلى اتهام لهن لدعمهن سطوة رجال الدين بعد الثورة، ما أدّى إلى تكريس أسْلَمَتها...
ظهور نصف الحجاب
تقول غيتي نشأت في كتابها إن فترة الكشف القسري استمرت من أربع إلى خمس سنوات فقط. ففي عام 1941، أطاحت قوات الحلفاء برضا شاه من السلطة، فخلفه ابنه الصغير محمد رضا بهلوي الذي استمر في فرض خلع الحجاب، ولكن بطريقة أكثر مرونة، فيما ظلّ يسعى بعض الزعماء الدينيين إلى إعادة فرضه. آنذاك، لم يكن هناك حملات تخاطب النساء وحقهن في الاختيار أو حملات تناقش الحجاب وخلفياته، ما دفع ببعض مَن جرّبن الحياة بدون حجاب لكنهن لم يكنّ يرغبن في الظهور بشعرٍ مكشوف بالكامل، إلى ارتداء غطاء الرأس غير الكامل الذي كان يُظهر جزءاً من الشعر ويغطّي ما تبقى منه. فتشكّل بذلك رمزٌ جديد للهوية الثقافية سمح لمختلف شرائح النساء الإيرانيات بالتمتع بحرية اختيار الملابس العامة والتعبير عن أنفسهن، إلى حدّ ما.
بين عامَي 1941 و1978، كانت النساء المحجبات وغير المحجبات حاضرات في الأماكن العامة، لكن الصورة والمعنى الاجتماعيَّين اللذين طرحتهما كل مجموعة كانا مختلفين بشكل كامل. على الرغم من ظهور النساء المحجبات في الأماكن العامة، إلا أن النساء غير المحجبات كُنَّ هنّ الحاضرات اجتماعياً وسياسياً. فللأسف، لم تكن القضية تتعلق بالحجاب وحده، إذ كان المؤشر المادي للحداثة هو الشعر "المكشوف"، وظلّ يُنظر إلى النساء المحجّبات على أنهنّ تقليديات.
على الضفة الأخرى، استمر المحافظون، بقيادة المفكّر الإيراني شيعي مشهور الذي يُعد من ملهمي الثورة الإسلامية، بشحن متّبعيه. استمرّت النساء في محيطه بارتداء الشادور واستخدم البعض السبحة للإشارة إلى الهوية الإسلامية الأصيلة. لم يكن للزي معنًى ديني فحسب، بل كان له معنى سياسي. في منتصف السبعينيات، كان لهؤلاء النساء حضور نشط في الجامعات والمجتمع ككل، وكنّ واثقات من أنفسهن، مشحونات بإيديولوجية الأصالة الدينية.
أدّت عقود من السخط على الشاه وحكمه الديكتاتوري إلى قيام الثورة الإيرانية عام 1979 التي شاركت خلالها أعداد كبيرة من الإيرانيات المحجبات، الأمر الذي أثار انتباه العالم وفضوله، وأضفى معنى سياسياً جديداً على الحجاب خلّصه من ارتباطه بالتخلّف أو القهر، فبات بالأحرى يدل على القوة والمقاومة.
من المعروف أن النساء الإيرانيات، المحجبات وغير المحجبات، أدّين أدواراً مهمةً في الثورة وانتصارها. كنّ يأملن طبعاً في الاستفادة من خلال دعمها لجهة تدعيم حقوقهن قانونياً واجتماعياً، لكن اعتماد الحجاب أصبح يطارد الكثيرات بوصفه اتهاماً على دعمهن سطوة رجال الدين بعد الثورة، ما أدّى إلى تكريس أسْلَمَتها.
مرّةً أخرى... المرأة محور تركيز السلطة
بعد فترة وجيزة من الثورة، أصبحت المرأة هي الهدف الأول للنظام الجديد. فكان أن فرض رجال الدين على النساء ارتداء الحجاب، وأيّدهم في ذلك تجار الأقمشة الإيرانيون الذين تمكّنوا من استعادة سيطرتهم الضخمة على السوق.
مع استعادة المحافظين المتشددين للسلطة السياسية عام 2005 ورئاسة محمود أحمدي نجاد، اشتدّ الضغط على النساء مرّة أخرى. فبدأت الحكومة حملة ضد ما أطلقت عليه توصيف الفساد الاجتماعي داخل جمهورية إيران الإسلامية، وأيضاً هنا، كانت المرأة محور تركيز الحكاّم، ووُصفت بأنها بدون حجابها تمثّل براعم الفساد العام والنفوذ الغربي ولا تشكّل الرمز المنشود لقيم الجمهورية، فعُزّزت ممارسات تغريم كل مَن كنّ يكشفن عن شعورهن ومعاقبتهن.
لا يجب أن ننسى أيضاً أن للنظام مصلحة راسخة في فرض الحجاب الأسود، ذلك أنه يُغني التجار المحافظين. وفي هذا الإطار، أفاد عضو مجلس إدارة الرابطة الإيرانية لخبراء المنسوجات أن إيران تستورد من 100 إلى 120 مليون دولار من الشادور الأسود كل عام، وتأتي معظم الواردات من تايلاند والصين وفيتنام وإندونيسيا. من هنا، يجدر التذكير دوماً بمختلف أبعاد الحجاب والشادور ومعانيهما المتشابكة التي تشتمل على السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في آن... فيُرمى ثقل كل تلك الأقمشة، كما بات واضحاً، على كاهل المرأة وحدها.