هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
"إلى سما" (أي إلى صغيرتي سما) هو "رحلة حميمية وملحمية داخل التجربة النسوية في الحرب"، يروي الأشهر الأولى المأسوية من حصار حلب حيث كانت وعد الخطيب، الطالبة الشابة في كلية الاقتصاد تركض هنا وهناك لتصوّر الاحتجاجات الجامعية الأولى والمظاهرات السلمية في الشوارع وفي الساحات وكذلك الاعتصامات الحاشدة أمام الجامعات.
تدور وقائع الفيلم في شهر آذار/مارس حين بدأت ريح الانتفاضة التي كانت مرّت بتونس ومصر تعصف داخل مدينة حلب. كان أمل السكان أن يغيروا بلاد خنقتها عقود من الديكتاتورية من خلال المطالبة بالحقوق والحرية بعد طول انتظار. لكن سرعان ما تم وأد الحركة بوحشية إذ تساقطت جثث أول القتلى وتزايدت حدة الهجمات ضد المدنيين/ات غير المسلحين يوماً بعد يوم.

قامت جماعة من المناضلين الشباب بتركيب مستشفى مدني داخل بناء مهجور في شرق حلب. وكان المنسّق لتلك الجماعة الصديق المقرّب لوعد واسمه حمزة الخطيب، وهو طبيب شاب طلب الزواج منها تحت القنابل، وصار بعدها والد ابنتهما سما.
الفيلم عبارة عن رسالة مصوّرة طويلة موجهة إلى هذه الطفلة التي تحاول الأم الشابة أن تشرح لها لماذا قررت أن تقاوم وأن توثّق إلى جانب زوجها قصص آلاف الضحايا الذين سقطوا جراء القصف. تستخدم المواطنة الصحافية لغاتٍ فنية مختلفة كما تناوب ما بين الريبورتاج الصحافي الحربي الذي يدين عنف السلطة السورية والجيش الروسي الحليف، وبين مونولوغات أكثر حميمية عن الآلام والمخاوف التي تسكنها.
تتساءل وعد على سبيل المثال إن كان من العدل إنجاب ابنتها في هذا الجحيم وتعريضها لخطر الموت تحت الأنقاض بدلاً من أن تعهد بها إلى جدّيها اللذين هربا من الحرب إلى تركيا. "عندما بدأتُ العمل مع ادوارد واتس، ما كنت أريد أن أمارس رقابة أو أن أحذف أي شيء من الرعب الذي كنت شاهدة عليه. لكنني سرعان ما اكتشفت أنني كنت بعيدة جداَ في أعماق الظلمة".
بالتالي، وكما تشرح المخرجة، "جعلنا القسوة تتجاور مع الحياة ومع الحنان بالقرب من سما. كل الأمهات اللواتي عشن في مناطق الحرب عشن صراعاً كبيراً بين ما يردن فعله وما عليهنّ فعله. في بعض الأحيان كنت مدفوعة بإيماني بالثورة السورية، وفي أحيان أخرى كانت هذه الثورة تعذبني".
لكن سما لا تبدو مرتعبة بشكل خاص، وسرعان ما تصبح رمزاً للحياة والأمل بنظر العاملين/ات داخل المستشفى الذي ظل يعمل رغم الغارات الجوية المستمرة على الجزء الذي سيطر عليها الثوار في مدينة حلب.

أثناء عرض الفيلم في كاتان، تحدثت عفراء هاشم في بث مباشر من تركيا وهي معلمة وناشطة تتقاسم بطولة الفيلم مع وعد. تقول عفراء: "أجبرت في عام2013 على ترك حلب مع زوجي وأولادي الثلاثة، لكنني ما أزلت أقاتل من أجل حقوق أرضي". كانت في حلب تدير خمس مدارس تقدم المأوى والدعم والتعليم إلى ما يقرب الثلاث مئة طفل. "أرادت وعد أن تحقق ريبورتاجاً حول عملي كامرأة ومناضلة، فبدأت بتصوير دروسي والوجبات التي كنا نوزعها في الصف واللحظات الحميمية في البيت. وسرعان ما صرنا أصدقاء. فخلال الحصار تقاسمنا كل شيء. وحّدنا نضالنا المشترك من أجل الكرامة والحرية والعدالة".
أجرى صحافيون/ات من وسائل إعلام عالمية الكثير من المقابلات مع عفراء، وكثيراً ما كانوا يسألونها لماذا أصرت على البقاء مع عائلتها في سياق خطير يترك آثاره المدمّرة على الروح، فكانت تجيب، "هذا واحد من الأسباب الذي جعلنا نقوم بهذا الفيلم، أن نشرح خيارنا الذي تم انتقاده لمرّات كثيرة بسبب المخاطر التي كان ينطوي عليها. إن حس المسؤولية هو الذي جعلنا نبقى نحن الاثنتان أطول وقت ممكن. ما كان لنا أن نفعل شيئاً مغايراً".
تعيش وعد وعفراء اليوم في لندن مع عائلتيهما وتعملان هناك، وما زالتا تدينان الحرب المستمرة من دون هوادة في سياق من عدم الاهتمام المعمّم لدى وسائل الإعلام الكبرى والرأي العام الدولي الذي سئم من الحروب الطويلة.
كنتُ هناك
هناك فيلم آخر تتخلله هو أيضاً مشاهد الرعب والعنف القمعي الذي يمارسه نظام الأسد. في "كنت هناك" يقوم سام بيروتي وأمينة صوان برواية قصة امرأتين بقيتا على قيد الحياة بعد العنف الذي مارسته عليهما وحدات الأمن الخاصة في دمشق.
الشهادات المباشرة التي تقدّمانها تتناوب مع مقابلات مع مناضلين/ات ومع صور متحركة بالأسود والأبيض تتعلق بذكرياتهما حول التعذيب والشروط غير الإنسانية التي عاشتا في ظلها طيلة أشهر دون أي اتصال مع العالم الخارجي. تتحدث الشخصيتان الرئيسيتان في الفيلم بكل شجاعة وكبرياء عن ضجة القنابل التي لا تتوقف والتهديدات البذيئة التي يطلقها الحراس والذل المستمر والانتهاكات الجسدية والنفسية التي خضعتا لها منذ عملية التفتيش الأولى التي أطلق عليها اسماً ساخراً هو "حفلة الاستقبال".
في زنزانات يتكدّس فيها البشر -حسب الشرح الذي تقدمه إحداهما-، كان يمكن في بعض الأحيان أن يصل العدد إلى ثلاثين امرأة، بعضهنّ حوامل، وبعضهنّ الآخر برفقة أطفال في السنين الأولى من أعمارهم، كانوا يرتعدون في كل مرة كانت تؤخذ أمهاتهن منهم للاستجواب.
"في حالات مثل هذه، تصبح قصة شخص واحدة قصة الجميع". ثم تضيف إحدى المتكلّمتين، "كتبتُ اسمي على الجدران وقرأت رسائل عديدة من اللواتي كنّ هناك قبلي. في بعض الأحيان يكون البقاء على قيد الحياة بعد ذلك أمراً مؤلماً. وأنا أتساءل في كثير من الأحيان لماذا نجحت في الخلاص من كل ذلك في حين فشلت أخريات؟".
أناشيد صامتة وبضع نقاط من الشاي في الصباح كانت الوسيلة الوحيدة للترفيه عن النفس والتي ساعدتهما على الوقوف في وجه اليأس والعزلة والوحشية في سياق ينتشر فيه العنف الجنسي بكثرة وغالباً ما يُستخدم من أجل إرسال رسائل تخويف للأقارب. "العنف الجنسي من أشد أنواع التعذيب وحشية لأنه يرتبط بما هو حميمي. ربما كان يمكننا أن نشعر بأنفسنا أكثر قوة لو أننا كنا نستطيع الكلام عن ذلك، لكن ما يحصل هو العكس. إنه نوع من الانهيار يكمن فيه شعور بالذنب لأننا تركناهم يفعلون بنا ما فعلوه"، بحسب ما أسرّت به الشخصية الثانية بصوت يكاد لا يُسمع.
"لم نعد نعلم أي شيء عن التسعين بالمئة من المعتقلين والمعتقلات في سوريا. وفي معظم الأحيان، تفقد عائلاتهم أي آثار لهم بشكل نهائي"، وفق ما تشرح إحدى المناضلات في مجال حقوق الانسان، آمنة صوان، وهي صحافية ومخرجة تعمل إلى جانب شريكها سام بيروتي.
اليوم، كما تؤكد صوان، تعيش المرأتان اللتان تحدثتا في الفيلم الوثائقي في الخارج. واحدة منهما تعمل كفنانة في مجال الفن المعاصر، والثانية تناضل ضمن الحركة السياسية للنساء السوريات، وغالباً ما تتم دعوتها إلى برامج تلفزيونية إو إذاعية. وكما هو حال آلاف من اللاجئين/ات السياسيين الذين فروا من النزاع، ما زالت المرأتان تناضلان معاً من أجل توعية الرأي العام الغربي على الوضع المأسوي لبلد فيه ما يزيد على مليون ونصف شخص معتقل...