هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
في كل سنة في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر، يحتفل العالم بيوم النساء الريفيّات الذي أطلقته الأمم المتّحدة عام 2008. تُحاط هذه المناسبة بإعلانات ومدائح تُغدق بها النساء الريفيّات الجزائريات، فتُنسب إلى جهودهنّ وطباعهنّ كل القيم الوطنية الأصيلة، كالحفاظ على التقاليد والكدح والتواضع، وغالباً ما يتم وضعهنّ مقابل نساء المدن اللواتي يُربط ذكرُهنّ بالتراث الغربي. هذه الكليشهات التي تمدح الفلاحة وعاملة الأرض، تكذّبها مطامح النساء الريفيّات أنفسهنّ من خلال كسرهنّ اليومي للصور النمطيّة التي تُسقط عليهنّ عبر إطلاقهنّ مبادراتهنّ ومساراتهنّ النضاليّة الخاصّة بالواقع الذي يعشنه. فنرى نساءً ريفيّات أكثر فأكثر يربّين المواشي والنحل بمفردهنّ ويُدرن مشاريع للحرف اليدوية الميكروية، مُنطلقات من رغبتهنّ الكبيرة بالاستقلال والتحرّر.
أكثر من 200 ألف امرأة اليوم هنّ في المجال الزراعي، 7,3% منهنّ على رأس مزارع تتراوح مساحتها بين هكتار واحد وخمسة هكتارات. تمثل النساء الريفيّات أكثر من الربع من بين الملايين السبعة من الجزائريين الذين يعيشون في مناطق الاستثمار الزراعي، مع العلم أنّ الأرقام الرسمية لا تأخذ بعين الاعتبار النشاط غير الرسمي للنساء العاملات بلا رواتب ضمن قطع صغيرة من الأراضي التي تعود للعائلة. هنّ يشكّلن 18% من أصل مليون ونصف من السكان الزراعيين الفاعلين على المستوى الوطني.
في الجنوب كما في الشمال، تنقل النساء الريفيات معارفهنّ من جيل إلى جيل. وغالباً ما كانت تقع العناية بالأرض على عاتقهنّ حين كان الرجال يحاربون ضمن مجموعات مسلّحة تقاوم من أجل استقلال البلاد ليهجروها فيما بعد إلى فرنسا أو إلى المدن من أجل العمل في المصانع. مع ذلك، ظلّت الأرض لفترة طويلة مرتبطة بشرف الرجال وجهودهم ودمائهم فبقيت تحمل اسم السلالة العائد للرجل إذ لا يجب بأي حال من الأحوال أن تقع الأرض في أيدي الغرباء عن القبيلة (كأزواج النساء مثلاً).
هذه الأراضي التي تُحمى وتُزرع اليوم بعد استرجاعها من أيدي الاستعمار الفرنسي، سرعان ما تراجع فرح استردادها وتهاوى أمام تحديات الجدوى الاقتصادية منها. فالمنظومة الزراعية الحالية معقّدة جداً ووُلدت من محاولات تجريبية ومن إصلاحات وإجراءات من أجل تأمين الاستقلال الغذائي وتنمية المناطق الريفية التي لا تزال مُهملة إلى حدّ بعيد. تتجاور الملكية الخاصة التي تشكل 35% من مجمل المساحة الزراعية المفيدة مع أراضي الاستثمار الزراعي الجماعي EAC، ومع أراضي الاستثمار الفردي EAI التي منحتها الدولة للاستثمار لمدّة أربعين سنة. تعطي الإدارة القروض الضرورية وتؤمن البذار كما تقوم بتسويق المنتجات الاستراتيجية، ومن ضمنها الحبوب. لكنّ هذه المنظومة محكومة بالبيروقراطية والفساد اللذين يعيقان عمل المزارعين وبشكل أكبر المزارعات.
عتيقة تيرييل سعدي امرأة ريفيّة في الرابعة والأربعين من عمرها، تعرف جيداً أن "امتلاك الأرض نعمة والحفاظ عليها معركة"، على حدّ قولها. هي واحدة من المزارعات النادرات اللواتي يمتلكن مزرعة، وتتجاوز مساحة مزرعتها الأربعين هكتاراً. من حسن حظّها، استطاعت عتيقة مع زوجها المتوفّى أن تستعيد أرض أجدادها في منطقة فرندة التي تقع على بعد 200 كيلومتر تقريباً عن مدينة وهران، وهي عاصمة الغرب الجزائري. ولكي تحافظ على ديمومة مزرعتها التي تعتبرها "بالوعة مالية حقيقية"، نوّعت عتيقة نشاطاتها لتشمل تربية الأبقار والماعز، وزراعة الحبوب ومنتجات البستنة.
"مَن يُزعجني هم الديناصورات الذين يجلسون في المكاتب، والذين ينظرون إليك إما بنظرة مواربة، أو بشهوانية عندما تذهبين إليهم لطلب المساعدة في مشروع ما"
تحلم عتيقة بزراعة "صحّية وعصريّة". تحب أن توسّع أراضي البستنة لديها بالطريقة البيولوجية الطبيعية، من دون تكبّد عناء طلب علامة "بيو" لمزروعاتها، ذلك أنّ الإدارة الجزائرية آلة ثقيلة قادرة على أن تثني الناس عن اندفاعهم وحماساتهم وتعقّد معاملاتهم.
"لا مشكلة لدي مع العاملين/ات في أرضي أو مع جيراني، يرونني عندما أقود التراكتور أو أعمل في الحقول"، تؤكّد لنا عتيقة. وتتابع، "من يزعجني هم الديناصورات الذين يجلسون في المكاتب، والذين ينظرون إليك إما بنظرة مواربة، أو بشهوانية عندما تذهبين إليهم لطلب المساعدة في مشروع ما". مع ذلك، لا شيء يثني عتيقة وغيرها من الريفيات عن تحقيق أحلامهنّ الزراعية.

فيصل الناصر ناشط يقف وراء مبادرة محترفات التأهيل في مجال الزراعة المعمرة في الجزائر. هو صحافي سابق استطاع أن يجذب للتدريب عدداً كبيراً من المزارعات ومن الجامعيّات. "كان اهتمامهنّ بتلك التقنية كبيراً جداً، وبعضهنّ أطلقن مشاريعهنّ في هذا المجال"، يقول فيصل.
لا شك في أن النساء لسن وحدهن من يتحمّلن بطء البيروقراطية وثقلها والعوائق التي تقف في وجه الحصول على القروض المصرفية، لكنّهنّ يعانين من الهشاشة والإقصاء بنسب أعلى بكثير. في هذا الإطار، تقول عتيقة بأسى، "فقط الحيتان الكبيرة هم الذين ينجحون في الحصول على التمويل الهام".
تناولت الصحافة الجزائرية بإسهاب فضائح آلاف الهكتارات التي تم "منحها كهبة" إلى أشخاص مقرّبين من السلطة، من بينهم جنرالات ووزراء. ولئن كان القانون المدني الجزائري يعطي النساء الحق نفسه الذي يناله الرجال في ما يتعلق بشراء الممتلكات التي تم الحصول عليها وبيعها أو وراثتها، فإن قانون الأسرة يبدو أكثر إجحافاً بحق النساء لأنه يفترض في مجال الإرث إعطاء الأرملة وأولادها مقدار 1/8، وللأرملة بدون أولاد مقدار 1/6، وتبقى حصة الشقيق أكبر بمرتين من حصة الشقيقة*.
هذا القانون نص رجعي تأسّس على فكرة أن الأرض لا يجب أن تنتقل إلى أيدي أزواج بنات القبيلة. لفترة طويلة، ما كانت الشقيقات يجرؤن على المطالبة بحصتهنّ من الأرض لكي لا يقفن في مجابهةٍ مع الأخوة الشبّان، ولكي لا يُثرن فضيحة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التنازل عن الحق يفتح المجال أمام إنفاق الأسرة على المرأة في حال تطلّقت أو تأرملت، فنتظر إليه المرأة كضمانة لها. لكنّ هذه الفكرة أقرب إلى الوهم الذي يغذيه النظام الأبوي لأن النساء في الواقع هنّ من يقدّمن العمل القاسي من أجل العيش، ومع ذلك، يتم استبعادهن من حصّة عادلة من الإرث. العناية بالبستان وتربية الطيور وبعض الأبقار، صنع الفخار والخبز وحياكة السجاد والأغطية، كلها مهمات قامت ولا تزال تقوم بها أجيال من الأمهات اللواتي عملن وبعن المنتجات من أجل تغذية عائلاتهنّ.
وعتيقة تعرف ذلك جيداً، وتقول: "كنتُ أرى جميع النساء في الحقول منذ شروق الشمس وحتى غروبها. تعلّمت منهنّ الكثير عن أعمال الأرض بأقل من يمكن من الوسائل".
من هنا، يتّضح أن التعتيم على العمل النسائي حاضر وبقوّة، على رغم الجهود التي تبذلها بعض الجمعيات من أجل إخراج النساء من العزلة التي يعشن فيها وتقديم المعلومات اللازمة لهنّ من أجل إدارة الإرث وغيره من الأمور.
تضاعفت الصعوبات التي تعرفها المناطق الزراعيّة تحت وطأة التقاليد وثقل السلطة الأبوية المهيمنة على النساء. فالفضاء العام الذي يكون في غالبيته مذكّراً في المدن، يصبح أكثر إعاقة لقدرة النساء على الحركة في القرى بسبب نقص وسائل النقل، أو بسبب الخوف من السمعة السيئة. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما لا تجد النساء الريفيّات الوسائل اللازمة من أجل الوصول إلى التدريب أو المعلومات حول فرص التمويل والتقنيات الزراعية. على رغم الصعاب، يستمررن في النضال من أجل استقلاليتهنّ وحقهنّ في الملكيّة وفخرهنّ بما تصنع أيديهنّ. "فلاحة وأفتخر"، كما تجيب عتيقة لدى سؤالها عن مجال عملها في الحياة.