بقلم غنى العنداري - كاتبة نسوية من لبنان
ما الذي يفرّقنا اليوم عمّا وصلت إليه الأحوال في أفغانستان أو إيران؟ القليل القليل... ذلك أنّ وضعنا الحالي يشكّل فمَ الهاوية التي سقطت منها نساء تلك البلدان ومعهنّ سقطتْ مجتمعاتهنّ بكاملها.
مَن شاركتْ منّا في مسيرة الدفاع عن الحريات يوم السبت 30 أيلول/سبتمبر 2023، تلك المسيرة التي استحالت وقفةً وانتهت بحصارٍ دام ساعات، تعلمُ جيداً أنّ أسوأ كوابيسنا، كالعيش تحت سطوة أنظمة دينية ديكتاتورية لها مطاوعيها وشرطة أخلاقها، صار قيد التنفيذ.
لكن في الحقيقة، على الرغم من الوضع المرعب الذي كان يحاوطنا، لم أشعر بالخوف يوم السبت،ـ ولا أشعر بالخوف اليوم، ليس لأنني باسلة إلى هذا الحد، بل لأن عقلي، وبشكلٍ فطري وبدائي، فهم حقيقة أنّ الخطر آني وحقيقي جداً، وأنه عليّ المواجهة والدفاع عن نفسي وعن الأخريات.
هو خطر وجودي لن تنفع فيه البيانات ولا الاستنكارات ولا التنظير عن مدى جدوى المسيرات ولا التأمل في عمق الانهيار. الجواب الوحيد هو الدفاع، لأننا في حضرة خطرٍ وجودي، حرفياً، وعلينا بالدفاع عن أنفسنا بكل ما أوتينا من قوّة. كما نقول بالعامية: "الموس وصلت للرقبة". جبنُنا وتفادينا المواجهة لن يُنقذانا هذه المرّة. يومَ لم نواجه التطرّف الديني في صيدا -بالقدر الكافي- حاصَرَنا مرتزقة الأبواق الدينية في وسط بيروت، واعتدوا علينا بالضرب. وحين حاصرنا جمعٌ من الرجال المسعورين، تحت أنظار رجالٍ آخرين من قوات الأمن، وأدركوا أننا داخل سيارات الأمن، توجّهوا إلى باب الآليّة وفتحوه.
كنت بالقرب من الباب، ولم أخف. أردته أن يقترب، لأنني فكّرتُ للحظة أنه لو حاول ضربي سأضربه. وهذا ما فعل، وهذا ما حاولت فعله، دفاعاً عن نفسي. أصبته أم لا، لا أعرف. كنتُ على يقين بأن لدي القدرة الجسدية الكافية لضربه. لا لأنني أتفوق عليه بقوتي البدنية، بل لأن نسبة الأدرينالين في جسمي ارتفعت لأتمكّن من إنقاذ نفسي. لكن ما يهمّ الآن هو أن الخطر كان داهماً وحقيقياً. ولو لم أغلق الباب وأتمسك وأخريات به، كانوا ربما نجحوا في تصفيتنا.
حين حاصرنا جمْعٌ من الرجال المسعورين، تحت أنظار رجالٍ آخرين من قوات الأمن، وأدركوا أننا داخل سيارات الأمن، توجّهوا إلى باب الآلية وفتحوه
فجأة، نفدت قنابل رجال الأمن وقوات مكافحة الشغب الدخانية والمسيلة للدموع، ونفد رصاصهم المطاطي، وجفّت المياه من خراطيمهم. أكثر من ذلك، كان أحد العناصر يصرخ بنا ويهدّد بكسر هواتفنا ويشتمنا أكثر من مرّة. في تلك اللحظة، لم يسعني سوى أن أفكر بما كانوا سيفعلون بنا لو كانت لديهم تعليمات باعتقالنا مثلاً. عندما حاولنا التفرق، هجم ما يقرب الأربعين رجلاً على ناشطة بيننا، وحين واجهت أخرى العناصر الموجودين بـ "واقفين عم تتفرجوا؟"، أجابها بـ"إي أكيد بدنا نتفرّج عليكن".
لم يكن سرّاً على أي واحدة منّا أنّ العناصر الأمنيين والعسكريين كانوا أبطال اعتداءات كثيرة في الآونة الأخيرة، وأن النهج البعثي عاد واستفاق وما زال يصول ويجول منذ أعقاب 17 تشرين. لكن عبثاً أملنا بأن يتصرفوا، حتّى ولو على غير عادتهم، كما ينبغي، أي كمؤسسات يمتلكها الشعب فتقوم بخدمة الشعب، لكن هذا أمل إبليس بالجنة، على ما يبدو.
أحصينا أنفسنا. كنّا 17 امرأة محاصرات داخل حافلة، ومُجتمِعات، ربما وصل عددنا إلى الأربعين كحد أقصى. وقفةٌ تضامنية مع أحد الناشطين يكون فيها أشخاصٌ أكثر... أمّا الرجال بيننا، فكان يمكن عدّهم على أصابع اليد الواحدة. وهذا ليس استجداءً لا للتضامن ولا للتعاطف، لأن الموضوع ليس مباراة حول مَن يجمع متعاطفين ومتضامنين أكثر. لكن لا يسعني إلا أن أتسائل بين الحين والآخر: أين كان الشبان، وأين كانت بعض الشابات؟ لا أقصد أين كانوا أمس فقط، أين الجميع خلال كل هذه الفترة التي بدأت بها حملة القمع المتعددة الأذرع؟ ألا تعني الحريات على اختلافها أحداً؟ أليس فقدانها نتيجةً أساسيةً للانهيار الشامل وأحد أسبابه أيضاً؟ أم أنّ الاشتباك الحقيقي مع النظام، ممثّلاً بالحملة التي أطلقها أمين عام حزب الله وتبعتْه قيادات دينية وحكومية، والذي يشكّل خطراً فعلياً على الحرية والأمان، أمر ثانوي؟
ما تبدّى لي بعد يوم السبت، هو أن من وسّع ويوسّع مساحة الحريات ويواجه النظام هنّ النساء. في بعض الأحيان، كانت جمعياتهن هي المبادِرة إلى التحرّك والاحتجاج، شئنا ذلك أم أبينا. فكما كان جلياً في وقفة السبت، النساء هنّ اللواتي سيتصدّين للقمع، ولا أمل ولا تعويل إلا عليهنّ لإنقاذ ما تبقّى من هذا المجتمع.
بعد انتهاء حصار المرتزقة لنا، وربّما تلقيهم التعليمات بأن الرسالة المنوي إيصالها قد وصلت فصار يمكنهم العودة إلى هيئتهم البشريّة غير المتوحشّة، عدنا إلى منازلنا. قالت صبية كانت معنا، "أليس هناك بلد نلجأ إليه؟". رأيتُ نفسي أنفعل وأجيبها "لا، أنا لا أريد ان ألجأ إلى أي مكان! هذا البلد أريده، وأريد أن أنتزع حريتي منهم بأظافري وأسناني وأريد حريتي كلها، كلها!".
كما كان جلياً في وقفة السبت، النساء هنّ اللواتي سيتصدّين للقمع، ولا أمل ولا تعويل إلا عليهنّ لإنقاذ ما تبقّى من هذا المجتمع
أريد حريتي لأنتقد النظام بسياسييه ورموزه وشرطته وعسكريّيه وقضائه من دون أن تطالني الملاحقات والتوقيفات والاستدعاءات.
أريد حريتي لأنتقد المؤسسات الدينية ورجال الدين المُهستِرين من كلمة "حريات"، وأريد أن أنتقد الدين نفسه، وأكثر من ذلك، أريد أن تُحترم حريتي في أن أناقش فكرة وجود الله، دون أن تطالني التهديدات وشتائم شديدي التقوى والأخلاق.
أريد حريتي لأنتقد أوساط النشطاء واليسار والمعارضة، والذكورية والانتهازية التي تعجّ بها تلك المساحات. وأريد احترام حرية اختياري العمل بعيداً من الرجال، مهما بلغت لباقتهم ومناصرتهم للنساء، من دون أن أحتاج إلى أن أبرّر خياري في كل مرّة.
أريد حريّتي لأؤيد علاقات الراشدين/ات المثلية إلى النهاية، وأن أشارك تحفّظاتي وتساؤلاتي حول مناحي وتكتيكات وأيديولوجيات غير نسوية من دون أن ينهرني أحد أو يطلب منّي صكوك براءة تثبت عدم رجعيّتي.
أريد حريتي لأنتقد فقاعات أماننا التي أثبتت محدوديّتها وعدم جدواها في ظل الخطر الحقيقي الذي دخل دارنا واستقر فيه ونسف الباب من دون أن يطرقه حتّى.
أريد حريتي لأقول إنه ينبغي علينا أن "نشد حالنا" أكثر ونواجه القمع لأن الخوف أو أفكار مثل "كثر لا يقدرون تحمّل كلفة المواجهة" لم تعد تقنعني. أنا أكيدة أنه بمقدورنا فعل شيء أكبر، أي شيء، لمواجهة ما يحدث لنا وسيحدث.
إن لم نتحامل على خوفنا، إن ظللنا نختبئ ونتمسّك بحجج تريح بالنا وتسكت ضمائرنا، فلا ريب من أن الثمن سيكون أقسى بكثير. حينها، سيصبح التحرّر، بكل أشكاله الإنسانية، شبه مستحيل.