"منذ نعومة أظافري وأنا أستغرب لماذا يحظى أخي بمعاملة ممتازة من كل محيطنا الأسري مقابل معاملة دونية لي، حتى اعتقد عقلي الطفولي أن الذكر كائنٌ خارق، رغم أنني كنت متفوقة عليه مدرسياً، لكن كل نجاحاتي كانت أشبه بسحابة صيف عابرة بينما كانت كل إخفاقاته محلّ اهتمام، كان دوماً يجد حضناً لعجزه وشماعةً لفشله... عندما كبرت، تصارعتُ مع حواجز الأبوية، لكنني في النهاية تمكّنتُ من العبور ماشيةً على حقل من الألغام. أنهيت دراستي وعملتُ في المحاماة. فتحتُ مكتبي الخاص، ثم قررت خوض غمار السياسة. ومنذ ذلك الحين، بدأت حياتي تأخذ مساراً آخر في مواجهة السلطة الذكورية، التي خرجت من بوتقة خاصة إلى حلبة أشد عُنفًا".
بهذه الكلمات تلخّص لنا سماح (اسم مستعار لأنها فضّلت عدم ذكر اسمها)، وهي محامية وناشطة سياسية سابقة، جزءاً من معاناتها من المحيطين الخاص والعام، حيث واجهت كل أشكال العنف السياسي والاقتصادي بقصد إقصائها عن ممارسة العمل السياسي.
من عنف الفضاء الخاص إلى عنف الفضاء العام
تقول سماح في مقابلة خاصة مع "ميدفيمينسوية"، "بدأتُ تجربتي المدنية والسياسية من خلال الانضمام إلى حزب سياسي بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011. كنت حينها حديثة الزواج، لم يستسغ زوجي الموضوع ولكنه اقتنع على مضض".
انطلقت في النشاط وبشغف الشابة اليافعة المتشوقة لتحقيق ذاتها وإحداث التغيير. وتخبرنا، "قرّر الحزب ترشيحي على رأس قائمة حزبية للانتخابات التشريعية 2014 غير أن الأمور انقلبت رأساً على عقب بعد رفض زوجي لذلك؟ حينها تيقنت أنني بدأت أقتحم إحدى مربعات المحرّمات".
"قرّرت خوض غمار السياسة، ومنذ ذلك الحين، بدأت حياتي تأخذ مساراً آخر في مواجهة الهيمنة الذكورية، التي خرجت من بوتقة خاصة إلى حلبة أشد عنفاً"
وتردف سماح، "زوجي مارس ضدّي كل أساليب الهرسلة اليومية، لم يقبل حضوري في أوقات مختلفة الاجتماعات الحزبية ورفض الاعتناء بطفلنا، بل استخدمه وسيلة ضغط ضدّي. كان يوجه لي اتهامات يومية بالمسؤولية وبالإهمال". وصل به الأمر إلى إخفاء رخصة قيادتي وتعطيل سيارتي بهدف منعي من الخروج لتلبية التزاماتي السياسية وتنصّل من كل مهامه في الإنفاق على المنزل وقايضني، "إما تتركين عملك السياسي أو أنني لن أنفق شيئاً على البيت واكتشف حينها طقوساً جديدة من التقاليد الذكورية... تعمّد زوجي إتلاف جميع الأوراق المخصصة لعملي السياسي من مكتبي وأهانني، ولم يقتصر الأمر على زوجي، فداخل الحزب أيضاً، واجهتُ رفضاً تاماً من بعض الرجال ممن ينتمون لمنطقة سكني الذين اعتبروا أنفسهم أكثر أحقيّة مني بالترشح بحجة "الناخبون يفضلون الرجال، الرجل هو القادر على الاستقطاب والتعبئة أكثر من النساء. ترشيح امرأة على رأس قائمة سيضعف حظوظنا في الفوز".
وتقول سماح، ''في النهاية تم استبعادي ولم أترشح على رأس القائمة الحزبية بل تمّ نقل اسمي إلى آخر القائمة ولم أحصل على الأصوات اللازمة نظراً إلى تقلص حظوظي وأنا أتذيل مجموعة من الرجال، كان ذلك شعوراً مهيناً لي واستغلّه زوجي الذي سخر منّي وقال لي، "قلت لك من البداية السياسة ليست للنساء، بعد فشلك لم يبق لك سوى بيتك وابنك وهما مكانك الطبيعي".
حتى طفلي استُعمل كوسيلة ضغط ومقايضة...
رفضت "سماح" الخضوع لزوجها وقرّرت المواصلة لكنها لم تقوَ على المقاومة كثيراً، لأن الجميع كان يعارضها، بمن فيهم عائلتها وعائلة زوجها. "صار إبني وسيلة ضغط من الجميع لا أحد يقبل احتضان طفلي الرضيع وزوجي يرفض رعاية الطفل في المحاضن الخاصة". وعليه، اضطرت سماح إلى التوقف عن العمل في الحقل السياسي، وباتت حياتها مع زوجها، كما تقول، "عملية ميكانيكية، أنا مجرد زوجة تقوم بواجباتها الزوجية بلا أحلام بلا ذات بلا روح، أنا مسلوبة الروح والإرادة".
قصة سماح هي واحدة من مئات القصص حول العنف السياسي والاقتصادي الذي يسلط على النساء بقصد إقصائهن واستبعادهنّ من الحياة السياسية وطبْعهنّ بصورة نمطية تقليدية مكانها المنزل ورعاية الأطفال.

للتعمّق أكثر في المسألة، حاورتْ "ميدفيمينسوية" الأستاذة الجامعية والناشطة النسوية منية بن جميع، الرئيسة السابقة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات (2016-2018) التي تقلدّت مسؤولية الإشراف على مركز الاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف، فضلاً عن مشاركتها مع مجموعة من الخبراء والمختصين في إعداد مشروع القانون حول القضاء على العنف ضدّ المرأة لسنة 2017.
تشرح منية بن جميع أن "منع المرأة من ممارسة نشاط سياسي أو حزبي أو جمعياتي أو أي حق أساسي يعتبر نوع من أنواع العنف التي يمكن أن يرتكبها شخص عادي أو مسؤول عام من خلال عنف معنوي، مثل إجبار المرأة على التصويت أو عدم التصويت أو منعها من ممارسة أي حق سياسي أو جمعياتي آخر".
يُعرّف القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة العنف السياسي بأنه " كل فعل أو ممارسة يهدف مرتكبه إلى حرمان المرأة أو إعاقتها عن ممارسة أيّ نشاط سياسي أو حزبي أو جمعياتي أو أي حق أو حرية من الحقوق والحريات الأساسية ويكون قائماً على أساس التمييز بين الجنسين".
''العنف السياسي يمكن يتخذ أشكالاً مزدوجة حينما يلتحم بالعنف الاقتصادي من خلال حرمان الزوج لزوجته من الدخل حتى حتى لا تتمكن من التحرك والسفر"
وتضيف بن جميع أن "الزوج يمكن أن يمارس هذا النوع من العنف بحيث يحرم زوجته من الخروج من المنزل وممارسة السياسية أو أن يخفي عنها بطاقة هويتها وأوراقها الرسمية حتى لا تتمكن من الذهاب للتصويت أو حضور اجتماعات".
وتوضح أن "العنف السياسي يمكن يتخذ أشكالاً مزدوجة حينما يلتحم بالعنف الاقتصادي وذلك من خلال حرمان الزوج لزوجته من الدخل حتى حتى لا تمتلك الأموال للتحرك والسفر لحضور الاجتماعات"، لافتة إلى أن " النساء غالباً ما يشغلن وظائف غير رسمية وذات أجر منخفض، مقابل ساعات عمل ثقيلة وطويلة".
تحالف العنف السياسي والعنف الاقتصادي لإقصاء النساء
"العنف السياسي يتحالف مع العنف الاقتصادي فلا تجد النساء الوسائل والحوافز اللازمة للانخراط في الأنشطة السياسية، ما يجعل من العنف الاقتصادي وسيلة تولد ذلك العنف السياسي الهادف إلى منع المرأة من المشاركة الحياة السياسية"، كما تشرح بن جميع.
على صعيد آخر، تشير الناشطة النسوية إلى أن "الصور النمطية عن دور المرأة والرجل تُقيّد حق المرأة في ممارسة حقوقها السياسية. حيث تختزل النظرة النمطية الضيقة مكان المرأة في المنزل بينما الفضاء العام هو حكر على الرجال".
تؤكد إحصائيات أنجزتها مؤسسة إيمرود كونسلتينغ عام 2021 لرابطة الناخبات التونسيات أن نسبة 59% من عينة مكونة من 200 إمرأة ناشطة سياسياً تعرضن للعنف ولو لمرة واحدة، ونسبة 30 بالمئة من العنف الجنسي والجسدي والاقتصادي.
قانون مناهضة العنف ضد المرأة… ثَوْري لكن ناقص
تشرح منية بن جميع أن "القانون عدد 58 المناهض للعنف ضدّ المرأة، رغم أنه قانون ثوري وهام إلاّ أنه منقوص نظراً إلى الغموض الذي يكتنف الفصل 18 المتعلق بالعقوبات والذي ينص على أنه "يعاقب كلّ مرتكب للعنف السياسي بخطية قدرها ألف دينار. وفي صورة العود ترفَع العقوبة إلى ستّة أشهر سجناً" (العود مقصود به التكرار )، مشيرة إلى أنه ''كان من الأفضل أن نقول إن جميع أشكال العنف النفسي أو الاقتصادي أو الجنسي أو الجسدي توصف بأنها عنف سياسي عندما تتأسس على الرغبة في حرمان المرأة من حقوقها السياسية أو النقابية أو من حقوقها وحرياتها الأساسية، دون جعلها سياسية، إذ إن العنف هو جريمة مستقلة".
وأكدت الرئيسة السابقة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات أن "الانتقادات التي توجه إلى القانون تعتبر أنه لا يحمي بما يكفي المرأة السياسية على وجه خاص، مشيرة إلى أن "رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي (نائبة في البرلمان التونسي المنحّل) كانت قد قدمت مشروع قانون في هذه الاتجاه".
وكانت النائبة موسي اقترحت خلال العُهدة البرلمانية الماضية 2019-2021، مشروع قانون لتشديد العقوبات على جميع أشكال العنف، بخاصة العنف الجسدي المسلط على النساء المنتخبات والممثلات في البرلمانات لكنه تعثر بالنظر إلى حلّ البرلمان في 25 تموز/يوليو 2021 إثر أزمة سياسية خانقة في البلاد.
وشددت بن جميع على أن "الدولة تعتبر المرأة غير مساوية للرجل بما أنها تعترف بالرجل وحده كرئيس للعائلة والمرأة هي المرؤوس، فهي لا تملك سلطة في المجال الخاص والرجل هو رب الأسرة... طالما أن المرأة ليست مساوية للرجل في المجال الخاص والعائلي، فلا يمكنها أن تكون مساوية له في الحياة العامة".