هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية)
برزيميس/ميديكا (الحدود البولندية لأوكرانيا)- تحمل الفتاة الكلب بين ذراعيها وتحدّق في الأفق البعيد. ربطة رأسها مشدودة على شعرها الأشقر تمنحها نفحة أرستقراطية. من حولها، صخب الناس الذين يروحون ويجيئون في مكانهم، بينما تركّز والدتها على مداعبة الكلب وتتجنب الالتفات إلى كل ما حدث وسيحدث، أي انهيار مئات الأرواح، بما في ذلك حياتها. على اليمين، تقف الأخت الكبرى، وكأنها كأس زجاجي رقيق يوشك على الانفجار: اكتفت بربط شعرها المهمل كذيل حصان، وعيناها متورّمتان وحمراوان، ويداها المرتعشتان تمسكان بهاتفها المحمول كآخر ما تبقى لها من حياتها السابقة.

في محطة "برزيميسل" عند الحدود البولندية مع أوكرنيا، تتظهر المأساة على وقع إيقاعين منفصلين تماماً. هناك، تجد/ين عائلات أوكرانية مؤلفة بمعظمها من نساء وأطفال، بعد أن تم تجنيد الرجال من أجل التصدي للغزو الروسي. تَراهم يجوبون قاعة المحطة بحثاً عن أجوبة لأسئلتهم: أين سينامون؟ متى سينطلق الباص نحو المدينة التي ستأويهم في منزل أحد أقاربهم؟ متى يصل الباص المحمّل بأحبائهم الذين افترقوا عنهم؟ أما الأشخاص الجالسون أو الممدّون على الأرض، فبعضهم يتبادل الأحاديث والبعض الآخر يغلب عليه النعاس. هؤلاء الذين يفترشون الأرض هم من اعتادوا على اللجوء منذ سنوات طويلة وأُطلق عليهم شتى التسميات: لاجئون أو مهاجرون أو نازحون أو عابرون، سمِّهم ما شئت. هم من اعتادوا حالة الاغتراب هذه وما يصحبها من هلوسات تجعل المرء يحدّق ولا يرى وكلما مشى ابتعد أكثر عن بيته. هم على يقين من أن هذه الحالة ليست سوى بداية رحلة طردهم من حياتهم التي قد تستمر لسنوات أو حتى إلى الأبد.
حفيظة شابة أفغانية تبلغ من العمر 18 عاماً تعيش في أوكرانيا منذ ثلاث سنوات مع والديها وأخويها. مع بداية الحرب في أوكرانيا، اضطروا من جديد إلى الهرب من منزلهم وكل ما بحوزتهم أوراقهم الثبوتية. يتثاقل جفنا حفيظة وهي تشد عليها لحافاً لعله يمنحها القليل من الدفء، فيما تجلس والدتها على كرسي متحرك أعطوها إياه في المحطة كي ترتاح بعد مسير طويل لمسافة 30 كيلومتراً. تقول حفيظة: "سبق أن عشنا مثل هذه الأيام، وها نحن نضطر من جديد إلى البدء من الصفر وليس لدينا أدنى فكرة كيف نكمل حياتنا". بالنسبة إليها، لا داعي لشرح السبب الذي دفعها هي وعائلتها إلى ترك بلدهم، بل تختصر هاجسها الوحيد قائلة: "لا ندري ما هي وجهتنا، كل ما نأمله هو أن نجد مكاناً نعيش فيه حياة كريمة".

هؤلاء الذين يفترشون الأرض هم من اعتادوا على اللجوء منذ سنوات طويلة وأُطلق عليهم شتى التسميات:
لاجئون أو مهاجرون أو نازحون أو عابرون
قبالة حفيظة، يجلس حسنه أحمد أنتغران، وهو طالب يدرس الطب قصد أوكرانيا لإكمال عِلمه، شأنه كشأن عشرات آلاف الطلاب الأجانب. وكبقية الطلاب، يخشى أن يضيع تعبه وتعب عائلته سدًى. يروي حسنه ما حل به وبزملائه فيقول: "أمضينا ثلاثة أيام من دون طعام أو شراب ونحن نحاول بلوغ الحدود". إلى جانبه، طالب هندي يومئ برأسه موافقاً ويفضّل عدم الإفصاح عن اسمه كما يخفي وجهه أمام الكاميرا. يضيف حسنه: "نقول لأهلنا إن الأمور تسير على ما يرام. لا نريدهم أن يرونا بهذه الحال ننام مفترشين الأرض وأمعاؤنا خاوية". هذا لسان حال الكثير من الطلاب واللاجئين الآخرين الذين يرفضون أن يتم تصويرهم بهذه الظروف أو أن يتوقفوا برهة لشرح سبب فرارهم.

انقسم النازحون/ات في المحطة وتجمعوا حسب البلد الذي يأتون منه. في أحد أركان المحطة، تجمّع أصحاب البشرة السوداء وبعضهم يحاول النوم في انتظار أن ينتهي المتطوعون/ات من تنظيم عمليات نقلهم إلى مدن أخرى عبر باصات وسيارات مخصصة. على الرغم من أن الأوضاع المتوترة في أوكرانيا بقيت محط أنظار القوى الدولية لعدة أسابيع، وحتى بعد دخول عملية الغزو الروسية أسبوعها الثالث، لم يُفضِ هذا الاهتمام الكبير إلى أي خطة إيواء من المجتمع الدولي أو الاتحاد الأوروبي لإغاثة اللاجئين أو دعمهم، لا في هذه المحطة ولا عند معبر ميديكا الحدودي. في الأيام الأخيرة، شهد هذا المعبر تدفق جزء كبير من اللاجئين/ات الذين أُجبروا على مغادرة أوكرانيا مع بداية الحرب، وقد تخطى عددهم المليوني شخص حسب تقديرات الأمم المتحدة.
تقتصر مجمل جهود المساعدة على عدد من المتطوعين/ات البولنديين الذين ينكبّون على الطهي وتحضير المأكولات الساخنة ويسجلون أسماءهم والمدن التي لديهم أقارب أو معارف فيها لإعلامهم متى سينطلق باص أو سيارة باتجاههم. هذا هو حال الشابة كاترينا التي تبلغ من العمر 21 عامًا وتعيش في مدينة ايفانو-فرانكيفسك في غرب أوكرانيا وقد سبق لها أن أقامت لسنوات عدّة في برشلونة مع والدها. تخبرني الشابة عن خيبتها وتقول: "لا أجد الكلمات لأصف ما حصل معنا. كنت أدرس لأصبح مصففة شعر وبين ليلة وضحاها وجدت نفسي أهرب خاوية اليدين من بلدي ولا أعلم كيف أصل إلى وجهتي". كانت كاترينا على الأقل تعرف أنها متوجهة إلى منزل والدتها في بولندا، على عكس الكثير من النازحين/ات الذين لا وجهة لهم أو مأوى.
"نقول لأهلنا إن الأمور تسير على ما يرام. لا نريدهم أن يرونا بهذه الحال ننام مفترشين الأرض وأمعاؤنا خاوية"
تجمع بين أوكرانيا وبولندا علاقات تجارية وعائلية واجتماعية وثيقة. ومن الشائع بين العائلات الأوكرانية الاعتماد على أفراد الأسرة الذين هاجروا إلى البلد المجاور بغية تحسين ظروفهم الاقتصادية. لذا، كان بعضهم يملك أغلى رجاء قد يطلبه أي نازح/ة وهو شبكة دعم. هذا بالضبط ما ينبغي أن يؤمّنه الاتحاد الأوروبي للاجئين/ات في هذه الظروف؛ غير أن الفراغ الذي يتركه الاتحاد الأوروبي يفسح المجال أمام مجموعة من الشخصيات المتنوعة التي تهب دائماً لتقديم يد العون في ظل هذا النوع من الأزمات الإنسانية في بلدان الشمال.

عند المعبر الحدودي في ميديكا حيث تركزت الأضواء خلال الأسابيع الأخيرة، يحتشد العشرات من المتطوعين/ات: شاب سويدي ذو شعر طويل يطل بمظهر لاهوتي وبملابس كهنوتية سوداء اللون، وإلى جانبه شاب كندي يرتدي بذلة تمويه عسكرية ترابية اللون توحي بأنه سيدخل أوكرانيا للقتال ضد الروس ويتحدث مع قائده المفترض عبر الهاتف المحمول. في مقابل الرجلين، شاب آخر يُعرّف عن نفسه كطبيب متطوع لكنه ينفي انتماءه إلى المنظمة التي يرتدي سترة تحمل شعارها. "منقذون بلا حدود" هي المنظمة الوحيدة التي نصبت خيمة صغيرة لها عند الحدود. هي منظمة إسرائيلية للأطباء المتطوعين/ات والملفت أن شعارها يكاد لا يظهر أمام العَلم الإسرائيلي الضخم الذي تقصدت المنظمة عرضه.
في بقعة أبعد بقليل، يظهر من جديد مشهد البولنديين/ات المتطوعين وغير التابعين لأي منظمة وهم يوزعون الشاي والقهوة والطعام والملابس ويقدمون معلومات للأشخاص الذين يصلون إلى المحطة بحالة من العجز المطلق. يعمل هؤلاء المتطوعون في درجة حرارة تحت الصفر ولا يملكون سوى خيمة لتقيهم من البرد. إلى جانبهم، يظهر ظل كريستينا في وسط العتمة وهي ترتدي معطفاً رمادياً وتمسك بحقيبة حمراء. لم يمضِ وقت طويل على وصولها إلى المحطة، بيد أنها تصب كل تركيزها على الممرات المضاءة وتعاين النازحين الوافدين عبرها. غادرت كريستينا البالغة من العمر 17 عاماً "لفيف" بعد أن فقدت الشعور في الأمان في مدينتها التي تحولت إلى ملجأ لعشرات آلاف النازحين. تعرب كريستينا عن غصتها وتقول: "تركت أبي وأمي وأخي، كلهم بقيوا هناك. لكنني لم أعد قادرة على العيش في هذا الخوف". هي تنتظر وصول أحد أصدقائها للتوجه إلى وارسو حيث لديهم معارف قادرون على إيوائهم.

إلى أين الهرب؟
بدلًا من أصدقاء كريستينا، أقبل - كمن ظهر من العدم - حوالي خمسين فيتنامياً لا نعرف الأسباب التي دفعتهم إلى العيش في أوكرانيا. إذ لم يكن أي منهم يتحدث الإنجليزية أو الفرنسية وفي المقابل لم يكن أي من الصحافيين/ات المتواجدين هناك يتحدث الأوكرانية أو الفيتنامية. عند إعداد مقالاتنا الإخبارية، غالباً ما نغفل سهواً نحن الصحافيين/ات ذكر التحيّز غير المتعمد الذي يفرضه علينا نقص الموارد للاستعانة بمترجمين/ات ونقل شواهد أكثر شمولاً. إن التحدث إلى نازح/ة أو لاجئ/ة يتكلم الإنجليزية يدل على عملية غربلة تلقائية للأشخاص من حيث المستوى التعليمي والطبقة الاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، تتأثر غالباً جودة المعلومات التي نتبادلها مع اللاجئين/ات لأن الإنجليزية ليست لغتهم الأم، فمن الطبيعي ألا يتمكنوا من التعبير عن أنفسهم بالفروق الدقيقة والعمق الذي يمكنهم إظهاره في لغتهم. ولذلك، في مدن مثل "لفيف" يكون المتطوع/ة الذي يتولى مهام الترجمة معفياً من أداء خدمات أخرى في ظل الحرب.

في مطار كراكوفيا الذي يبعد ثلاث ساعات عن الحدود في السيارة، كان مئة طالب/ة تونسي يرتاحون من رحلة الهرب في الكافتيريا. وهناك، كان يعمل موظفون/ات من السفارة التونسية على تنظيم إجلائهم إلى تونس عبر طائرة عسكرية. كانت شابتان وثلاثة شبان يجلسون إلى طاولة ويشاهدون فيديوهات صوّروها خلال نزوحهم. كانوا يدرسون الطب والصيدلة في خاركوف، المدينة التي تتعرض لحصار شديد من الغارات الجوية الروسية حتى اللحظة.
"لم نتمكن من حمل أكثر من مستنداتنا الشخصية. خرجنا هرباً نحو محطة القطار ولكن انظري كيف كان المشهد". هذا ما تستذكره الشابة تحسين العبيدي وهي تشير إلى الهاتف الجوال وتريني الفيديو الذي يُظهر حشوداً من الأشخاص وهم يصرخون محاولين الصعود إلى القطار الذي سيأخذهم أولًا إلى كييف ومن ثم إلى "لفيف". وتضيف الشابة: "من هناك، كان علينا السير مسافة 70 كلم للوصول إلى الحدود". قبل دقائق، لفت نظري أن هذه الشابة تعاني من صعوبات في المشي. "نقول لعائلاتنا إننا بخير، مع أن ذلك غير صحيح. أمضيت أربع سنوات رائعة وأنا أدرس الطب في هذه المدينة. لا أدري إذا سننتمكن من العودة يوماً ما ومتابعة دراستنا، أو إذا كنا قد خسرنا بالفعل كل ما وصلنا إليه حتى الآن".
في هذه الأثناء، ردد أصدقاؤها أكثر من مرة كيف كانت القذائف تسقط "من كل حدب وصوب" وهم يصرون على أن يطلعوني على الفيديوهات التي صوّروها. إذا كان لدى أحد شكوك حول أهمية توثيق الأعمال الهمجية، فمن الأكيد أنه شخص لم يتعرض لها في حياته. أما من عاش الهمجية وذاق مرارتها، فلا يستطيع إلا أن يوثّق هذه الأحداث بأي وسيلة كانت كي لا ينسى الفظاعة التي اختبرها مرة بعد أخرى.