هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
لمحة تاريخيّة
"اليسا" مؤسسة امبراطورية قرطاج القديمة التي تحدّت روما. "الكاهنة" الملكة والمقاتلة البربرية التي وقفت في وجه الجيوش العربية التي أتت لإدخال الإسلام بالقوة في المناطق الواقعة غرب الخليج العربي. "السيدة المنوبية"، قديسة من القرن الثالث عشر فريدة من نوعها في ذلك الزمن، ما زال يبجّلها الصوفيون حتى اليوم. "حبيبة منشاري"، المناضلة النسوية قبل ظهور الكلمة والتي قامت بنزع الحجاب بحركة مسرحية كانت الأولى من نوعها حين كشفت رأسها على المنصة التي كانت تلقي فيها كلمة أمام مجلس مختلط في عام 1929.
هل إن تأثير الذاكرة الجمعية لتلك الشخصيات التونسية التي تكاد تصل إلى مرتبة الأسطورة هو ما أعطى لنساء هذه البلاد منذ القرن التاسع عشر بل وقبله إرادة المطالبة بالحقوق والاحترام وبالمكانة التي كان المجتمع الأبوي المهيمن ينكرها عليهن؟
ربما، تجيب المؤرخة صوفي بسيس التي كتبت ما يلي في كتابها "صاحبات القيمة" (ايليزاد، 2017): "هذا التعطّش النسوي للحرية، هذا التمرّد على الأوامر والعقائد الجامدة، ليس مادة مستوردة، لأنه يندرج في تاريخ محلي يمتد على آلاف من السنين. كل عصر من العصور أنتج شيئاً من هذا، وتونسيات اليوم لسن سوى الحلقة الحدث، وليست الأخيرة، في سلسلة طويلة تنهل من الماضي وتحضّر للمستقبل".
ثورة قانون الأحوال الشخصية: زمن الحبيب بورقيبة
لا شك في أن وضع النساء التونسيات استفاد، منذ القرن التاسع عشر، من تقاليد إصلاحية قام بها الرجال أيضاً من أجل تحرير بلادهم من التقاليد البائدة التي أدّت إلى الاستعمار. ففي 1930، نشر الطاهر حداد كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع". وعلى الرغم من اضطهاد زملائه له في جامعة الزيتونة واتهامهم له بالكفر، فإن بيان الطاهر حداد الذي ينادي بوضع أفضل للمرأة سيصبح مرجعيّة للإصلاحيين في زمنه. وقد طالب فيه بجعل التعليم بمتناول النساء، وبالمساواة، في الميراث ضمناً. وهي المعركة التي ستستمر دائرة حتى اليوم.
انتزعت تونس استقلالها في 20 آذار/مارس 1956، وقام الرئيس الأول للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة بالبناء على ذلك الإرث الإصلاحي حين أبرم في 13 آب/اغسطس 1956 نصاً حقوقياً أساسياً هو الأكثر طليعية في بلاد الإسلام، ونعني به قانون الأحوال الشخصية الذي اعتُبرت ثلاث من مواده شبه ثورية. فالمادة 3 تنص على أن "الزواج لا يتم إلا بموافقة الزوجين". والمادة 18 تنص على "منع تعدد الزوجات". والمادة 30 تحظّر على الرجل القيام برمي يمين الطلاق على المرأة، وتنص على أن "الطلاق لا يمكن أن يتم سوى أمام محكمة". وحصلت النساء على حق التصويت في الانتخابات البلدية عام 1956 ، ونلن الحق في التعليم المجاني والإلزامي في 1958 والحق في شرعنة الإجهاض في 1973. كذلك، فإن إصلاحاً ثانوياً في قانون الميراث أطلق بوادره بورقيبة في 1959 سعى للحد قدر الإمكان من عدم المساواة في هذا المجال. وفي 1981، نالت الأرامل حق حضانة أولادهن وهو الحق الذي كنّ قد حُرمن منه حتى ذلك اليوم لصالح أحد الأقارب من الذكور داخل العائلة.
استلم الرئيس الثاني للجمهورية التونسية زين الدين بن علي السلطة عقب انقلاب "طبي" عام 1987. وقام بدعم هذه الإجراءات كوسيلة لكسب دعم النساء من سكان تونس والوقوف ضد المتطرفين، وهم ألد أعدائه السياسيين.
"النساء التونسيات، ذريعة مريحة للغاية"، حسب ما كتبته المحللتان السياسيتان ألفة لملوم ولويزا توسكان (لو موند ديبلوماتيك، وجهة نظر، أغسطس/سبتمبر 2018). في 1998، استطاعت "جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية" و"الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات" والتي تضم ناشطات نسويات مستقلات وأقرب إلى اليسار، الحصول على ترخيص أثناء حكم بن علي. كانت تلك بنى ديناميكية ومستقلة عن السلطة استطاعت التطوّر خارج إطار "نسوية الدولة" التي يمثلها بشكل خاص الاتحاد الوطني للنساء التونسيات (UNFT) المعروف بتدبير أموره مع السلطة الأبوية.
يُحسب لبن علي قراره في 1992 نقل بعض من امتيازات الحضانة إلى الأم التي نالت حقّها في حضانة أولادها. ولا شك في أنه كان خلف إلغاء "واجب الطاعة" المفروض على الزوجة في قانون الأحوال الشخصية. كما أسّس الالتزام المتبادل بالاحترام والتشاور بين الزوجين، وألغى الأسباب التخفيفيّة التي كان يستفيد منها الزوج في حال قتله لزوجته إذا ما فاجأها في حالة "زنا" مؤكدة. ولا شك في أن هناك إصلاحات أخرى قد أدخلت على قانون العمل من أجل تحقيق مساواة أفضل في الأجور بين الجنسين خلال زمنه. ولكن، كما تبيّن لملوم وتوسكان، لم تمنع هذه الخطوات المتقدمة المشرّع من أن يبقى "أسير الإرجاع إلى التقاليد والعادات التي تقيّد المرأة ضمن دورها كأم وكزوجة مطيعة. وظل المهر كما هو، وبقي الأب السيد المطلق في العائلة"، حسب ما كتبت المؤلفتان.
كانت انتفاضة 17 ديسمبر 2010-2011 لحظة تحرر وتحرير من ديكتاتورية طويلة جداً، وقد حملت معها كتلة من المطالب النسوية. وشعارها الأساسي: "العمل، الحرية، الاحترام" ردّدته النساء من جميع الأعمار في الشارع، ذلك أن الثورة كانت انتفاضة مختلطة علمانية ومدعومة من المدوّنات الشابات والمناضلات من أجل حقوق الإنسان من أجيال مختلفة. اندلعت الانتفاضة في الفضاء العام وهزّت مسار التاريخ في البلاد مؤدّيةً إلى إصدار دستور جديد تم اعتناقه في 27 كانون الثاني/يناير2014 من قبل المجلس الوطني التأسيسي.
المساواة في الميراث: معركة يجب أن تستمر
مكّن الانتقال الديموقراطي التونسي الإسلاميّين من الرجوع إلى الساحة بعد أن تمّت تنحيتهم جانباً عن السلطة لفترة طويلة من قبل بن علي، الرئيس المخلوع. استدعت إعادة الاعتبار لهم قيام قطبيّة ثنائية سياسية يتقابل فيها العلمانيون/ات مع دعاة الإسلام السياسي. ستظهر هذه المعركة في فترة تشكيل المجلس الوطني التأسيسي (نوفمبر 2011- يناير 2014) في مجلس نيابي تهيمن عليه حركة النهضة (الإسلاميون)، وعادت إليه بقوة فكرة الاستناد إلى الشريعة (القانون الإسلامي) كمصدر للقانون أثناء صياغة القانون الجديد الأساسي. هيأ ذلك لظهور واحدة من أضخم الأزمات التي سيعرفها البرلمان في آب/اغسطس 2012، عندما قام نواب النهضة باقتراح مادة حول "التكامل" بين النساء والرجال يتعارض بوضوح مع مبدأ المساواة بين الجنسين. أثارت هذه الفكرة حفيظة النساء وحشدت بشكل واسع مكوّنات المجتمع المدني، ممّا سيجعل النساء والرجال يتوافدون بأعداد كبيرة إلى مركز المدينة في تونس العاصمة في الثالث عشر من أغسطس 2012، وهو يوم عيد المرأة التونسية (ذكرى إقرار قانون الأحوال الشخصية) من أجل إعلاء الصوت ضد المبادرة الإسلامية. وأمام هذه الاعتراضات الشعبية، سحبت الأكثرية مشروعها من البرلمان.
وقفت النسخة النهائية من الدستور إلى جانب المساواة بين "المواطنين" و"المواطنات" (المادة 21). مع ذلك، لا تزال هناك مناطق رمادية عدّة: فاختيار الكلمات لم يكن بريئاً بل كان مسيّساً بشكل كبير، والتلونات في التعبير تركت المجال مفتوحاً للتلاعب بمبدأ المساواة الذي كان لا يزال منقوصاً. "هذه المساواة "الناقصة" لا بد من ربطها "بالغموض الأصلي" الذي تحمله الثقافة السياسية التونسية منذ القرن التاسع عشر تجاه النساء اللواتي كن وقتها غير مرئيات" كما تشرح المؤرخة كمار بندانا في مقال نُشر في المؤلف الجماعي، "الحقوق والحريات المتلاحمة في تونس" (كانون الأول/ديسمبر 2020، مؤسسة هاينريش بول).
بموازاة ذلك، فإن مسألة التكافؤ تقدّمت بشكل ملحوظ في تونس، وما زال موضوع المساواة في الميراث مطروحاً بعد مشروع قانون تقدم به إلى مجلس نواب الشعب رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي في آب/اغسطس 2019، لكن لم يتم إقراره حتى اليوم. وفي النهاية فإن التونسيات استطعن الحصول على قانون عضوي يتعلّق بإلغاء العنف ضد النساء صوّت البرلمان التونسي عليه في 26 تمّوز/يوليو 2017. وقد جاء نتيجة معركة طويلة خاضتها الناشطات النسويات منذ أكثر من عشرين سنة. بذلك، أصبحت تونس البلد العربي الوحيد الذي يمتلك تشريعاً مماثلاً، والبلد التاسع عشر في العالم الذي يشرّع محاربة العنف ضد النساء عبر القانون.