هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
حاورتها ألفة بلحسين
متى بدأ اهتمامك الأكاديمي بالمخرجات والمخرجين التونسيين؟ وبخاصة إن فكرنا بأعمالك السابقة التي ركزت على تحليل مسارات المخرجين والمخرجات في المهجر؟
مسألة المهجر كانت في صميم أطروحة الدكتوراه التي ناقشتُها عام 2015، وتناولتُ فيها، من وجهة نظر تاريخية وجمالية، السينمائيون والسينمائيات الفرنسيات من أصول مغاربية. أفضت تلك الأطروحة إلى نشري كتاب بعنوان "سينما عبداللطيف كشيش: بوادر ومآلات"، (منشورات ريفونوف، 2016).
قدمت الأطروحة صورة المهاجر والمهاجرات في السينما الفرنسية في السبعينيات، وكيف حمل المهاجرون والمهاجرات الكاميرا لاحقاً، وبخاصة من الجيل الثاني، ليصوروا شخصيات تنحدر من أوساط المهاجرين.
اعتباراً من عام 2016، نقلتُ إشكاليات كانت محور اهتمامي وأضفيتها على سينما المغرب والشرق الأوسط، انصب تركيزي كذلك على السينمائيات والسينمائيين من تلك المناطق والذين يعيشون في فرنسا، تجلى ذلك في المداخلات التي قمتُ بها ضمن ندواتٍ وحلقات بحثية، ومن بينها ندوة قدمتها عام 2017 بعنوان "صورة النساء المتمردات في الأفلام الروائية التونسية ما بين عامي 2000 و 2020".
أما فيما يتعلق بالسينما ومسألة النوع الاجتماعي (الجندر)، درستُ لفترات طويلة النساء العاملات في إدارة عمليات التصوير في تونس. كما تابعتْ هذا العمل الميداني مجموعة بحثية اسمها HESCALE، مختصة في مجال السينما وتضم باحثين فرنسيين وتونسيين.
ما الفرق في صورة المرأة التي قدمتها مخرجات تونسيات من الجيل الأول مثل سلمى بكار وكلثوم بورناز ومفيدة تلاتلي، وتلك التي قدمتها سينمائيات لمعت اسماؤهن بعد الثورة ويعشن في الشتات، مثل ليلى بوزيد وكوثر بن هنية؟
الفرق الكبير بين مَن يُطلق عليهنّ اسم سينمائيات الجيل الأول وبين الجيل الذي تلاهنّ، ويكمن الفرق في مسألة الاستقلالية، وأيضاً في الاستيلاء على مقاليد السلطة. وأعني بذلك أن المرأة لم تعد تُصور على أنها مجرد ضحية، كالدور الذي جسدته مفيدة تلاتلي في "صمت القصور" (1994)، إذ حاولت عليا ابنة خديجة التخلص من قدر تعيس، لكنها واجهت في النهاية نفس المصير الذي واجهته أمها بإجهاضاتها المتكررة.
على الجانب الآخر نجد شخصيات تتحكم بمصيرها، كما في فيلم كوثر بن هنية « La Belle et la Meute » ، "على كفّ عفريت" (2017)، وكما في المشهد الأخير من فيلم « Les Secrets » ، "الدوّاحة" (2010) لرجا عماري.
النساء في هذه الأفلام هنَّ مقاتلات، يقفن في وجه سلطة قمعية، تماماً كما حال ليلى بوزيد في فيلمها « A peine j’ouvre les yeux »، "على حلّة عيني" (2015)، فنجد البطلة الشابة فرح وعمرها ثامنية عشر عاماً، تعيش في زمن الديكتاتورية، لكنها لا تنصاع لمحاولات التخويف والمضايقات التي تمارسها الشرطة، وتظهر فرح كشخصية نشطة وفعّالة.
ما هي العلاقة التي مازالت تجمع مخرجاتٍ يعشن في المهجر مع القضايا التونسية وبخاصة ما بعد الثورة؟
في أغلب الأحيان نجد أن المُخرجات المهاجرات يحتفظن بموطئ قدم لهن وبعلاقة قوية جداً مع بلدهن الأصلي، أقول ذلك وأنا أفكر برجا عماري وكوثر بن هنية وليلى بوزيد، إذ تعالج أفلامهن المسألة التونسية، كما نلاحظ نوعاً من الإحالة البسيكولوجية عند بعضهن، فنجد في فيلم "جسد غريب" (2018) لرجا عماري، شخصية مهاجر غير شرعي يعيش بين تونس وفرنسا.
نلاحظ الأمر ذاته عند ليلى بوزيد في فيلمها الأخير Une Histoire "d’amour et de désir ، "مجنون فرح" (2021) الذي يعالج أيضاً مسألة الهجرة. الشخصية الرئيسية فيه، طالبة شابة وصلت من تونس، والقصة تدور بأكملها في باريس.
لديّ الفرضية التالية: كلما ازداد تجذّر السينمائيات المهاجرات في الأراضي الفرنسية، كلما امتلكن رغبة بمعالجة المسألة الفرنسية أيضاً. ومع بقائهن مرتبطات بقوة ببلدهن الأم، نلحظ لديهن معالجة مستمرة لشخصيات تونسية واهتماماً بالتطورات المجتمعية التي تحصل هناك، وبخاصة تلك التي تتعلق بالمرأة.
ما هي الآفاق التي تساهم فيها مخرجات المهجر وبخاصة الجيل الجديد منهن واللواتي لمعن في المهرجانات الدولية ؟
هناك مستويين، بدايةً وبالمقارنة مع نساء ما زلن يعشن في تونس، لدى مخرجات المهجر فرصة لترك مسافة مع القصص التي يروينها، فهنَّ قادرات على النظر بطريقة مختلفة إلى ما يحصل في بلادهن الأصلية، تتسم نظرتهن بكونها أكثر حريّة، كما أنها منعتقة من الرقابة الذاتية، بالإضافة إلى ذلك فهن قادرات على معالجة المسائل المحرّمة بشكل مختلف، فوضعهن يحميهنَّ من هجمات المجتمع.
أفكر برجا عماري وفيلمها «Satin Rouge »، "الستار الأحمر" والذي أثار جدلاً كبيراً عند عرضه في الصالات التونسية عام 2002.
الإيجابية الأخرى التي تمتلكها هؤلاء المخرجات، هي فرصة إنتاج وتوزيع أفلامهن، إذ يستطعن الوصول إلى التمويل الفرنسي بسهولة أكبر، وإلى المساعدات التي يقدمها المركز الوطني للسينما والصورة (CNC)، وبالتالي إلى توزيع أفلامهن في فرنسا.
هل اهتمت مخرجات المهجر بالحياة السياسية وبحراك ما بعد ثورة 2011؟
نعم، وعلى الأخص مع "على حلة عيني"، وهو أول فيلم أخرجته ليلى بوزيد، والذي يرفض ما حصل في كانون الثاني / يناير2011. لم تتكلم ليلى بشكل مباشر عن الثورة، وإنما عن الأشهر التي سبقتها، وعن مناخ الخوف والانشقاق الذي هيمن في حينها على البلاد.
في فيلم "الدوّاحة" (2010) لرجا عماري، تصف المخرجة القمع الذي يسيطر على حياة المرأة، ولا يمكن هنا إلّا أن نفكر بالاستعارة السياسية التي يحيل إليها الفيلم.
أما أريج السحيري فعرفت مساراً فريداً من نوعه ومعاكساً، ولدت أريج في فرنسا، وعادت إلى تونس لتصور فيلمها. طريقتها في تصوير العاملات في الزراعة في فيلم "تحت الشجرة " (2022) مثيرة للاهتمام بشكل خاص.
من وراء الصبغة الحكائية، تلتقط المخرجة قصص الحب اللطيفة التي تعيشها العاملات الشابات في الزراعة، وتعمد إلى إظهار قوتهن المختبئة تحت الهشاشة الخارجية. الإيحاء السياسي للحكاية واضح، إذ تعود بنا المخرجة إلى مآسي شاحنات الموت، وهي وسائل نقل عشوائية تنتشر في الأرياف التونسية، ذهبت ضحيتها الكثير من نساء الريف.
تركز كوثر بن هنية في فيلم "على كف عفريت"، على ضرورة عدم إفلات رجال الشرطة من العقاب. يثبت الفيلم أن رحيل الدكتاتورية لم يساهم في تغيير المنظومة القمعية على الإطلاق.
انتظرت كوثر بن هنية الثورة كي تُخرج فيلمها "شلاط تونس"، إذ كان من المستحيل تقريباً، قبل ذلك، أن تحصل على الإذن بتقديم أفلام وثائقية.
إحدى أكبر التغيرات الجذرية بعد الرابع عشر من كانون الثاني / يناير 2011، هي تمكن المخرجات من إخراج الأفلام الوثائقية، وهي أفلام أقرب إلى الواقع من الأفلام الروائية، ومن هنا تكمن صعوبة تصويرها في ظل حكم سلطوي.
في النهاية، لا يمكن نسيان فيلم كوثر بن هنية "بنات ألفة" (2023). تنطلق كوثر مرة أخرى من حكاية عادية لألفة وبناتها الأربع، في الوقت ذاته، يعيدنا الفيلم في خلفيته إلى المراحل الاجتماعية والسياسية المختلفة التي مرت بها البلاد منذ الثورة. تُظهر بن هنية بكثير من البراعة كيف تؤثر ثورة بلد على "الثورة الشخصية"، وبالتالي على ما تمرّ به ألفة.
بما أن للشكل أهمية كبيرة في السينما، كيف صورت المخرجات اللواتي عملن ما بين عامي 2010 و2020 المرأة؟ هل امتلكن "النظرة الأنثوية" female gaze (1) التي تتحدث عنها آيريس براي، والتي تصور النساء كفاعلات، وتحاول جاهدة وضع تجاربهن داخل السرد الروائي؟
هذه النظرة الخاصة التي تتكلمين عنها بدأت مع رجا عماري حتى قبل قيام الثورة. تقع تجربة عماري في نقطة محوريّة بين جيلين من المخرجات التونسيات، نعيش معها طفرة حقيقة في السينما التونسية، ففي فيلمها الطويل الأول "الستار الأحمر" (2002)، نترك المدينة القديمة التي تدور داخلها معظم الأفلام التونسية ونصل إلى المدينة الحديثة في تونس العاصمة وتختلف مع هذا الانتقال طريقة تصوير المرأة أيضاً.
من جهة أخرى اختلفت النظرة نحو الرقص الشرقي الذي يشكل محور هذا الفيلم عن "النظرة الذكورية " male gaze"، وأعني بذلك النظرة الذكورية التي فرضت نفسها حتى الآن في الأفلام المصرية على سبيل المثال.
أُحيط الرقص الشرقي في الماضي بنوع من الإعجاب المُطلق، وفي هذا الفيلم يتحول إلى أداة تمرد بالنسبة للأرملة وربة المنزل، فتقرر ترك حياتها الرتيبة لتدمر كل المعتقدات السابقة وتكسر من خلال ذلك القيود المجتمعية.
في المشهد الافتتاحي لفيلم "على حلة عيني" لليلى بوزيد، نرى كيف تكتشف الصبية الرغبة بشكل عفوي، وندرك من خلال طريقة التصوير وجود امرأة وراء الكاميرا، نقترب معها من الجلد، ورغم أن الكاميرا تكاد تلمس الجسد إلا أنها لا تستغله.
في فيلم ليلى بوزيد الأخير "مجنون فرح"، لجأت المخرجة إلى طريقة استثنائية، إذ استخدمت قوة الأدب للتعبير عن الرغبة التي تصبح أكثر رقة عندما تغلفها بالشعر. تختار السينمائية بهذا صورة غير مسبوقة للرغبة، فيتم الإيحاء بها من خلال الكلمات التي تتراءى لأحمد، وهو الشخصية الرئيسية في الفيلم، وبذلك تخلق استعادةً للحب الأفلاطوني والأثيري الذي يشعر به قيس (شخصية المجنون) تجاه ليلى (2).
نشرت آمنة مرابط عدة مقالات ومقابلات حول أفلام السينمائيات اللواتي ورد ذكرهن في هذا الحوار، وذلك في موقع Culturopoing