شيماء اليوسف
في صورة شاركتها إحدى مستخدمات "الفيسبوك"، يظهر فيها طبقين من الطعام، تشير المستخدمة إلى أن الطبق الكبير، والذي يحمل الجزء الأكبر من أصابع الكُفتة (1) من نصيب زوجها، بينما الطبق الصغير من نصيبها، وقالت أنها ورثت هذا الأسلوب عن أمها التي وضعت على الدوام حصة اللحم والنصيب الأكبر من الطعام للأب. أثارت الصورة جدلاً بين المستخدمين بين موافق ومعارض، لكن هذه الصورة ليست استثنائاً بل هي نمط تفكير سائد في أجزاء واسعة من المجتمع المصري حتى اليوم.
الطعام للرجال والخدمة للزوجة
في رواية الحرافيش (1977) لنجيب محفوظ، يتزوج ضيا الناجي من السيدة التي كان خادماً لها، فبعد أن امتلك المال وبات صاحب سلطة قرر الانتقام منها ومن خلال الضغط على والدها بعدما أصبح ذو نفوذ تمكن من الزواج منها عنوة. تحضّر الزوجة مائدة الطعام لزوجها، لكنه يرفض أن تشاركه أو تأكل معه، لأنها زوجة بدرجة "جارية"، لا ترتقي للجلوس إلى جانبه أو تناول الطعام معه، فتقف جواره لخدمته فقط، مستغلاً سلطته كذكر لإذلالها ومنعها من تناول الطعام.
حلمَ الحرافيش بمجيء عاشور الناجي، مهداهم المنتظر، الذي سيحررهم من الظلم، لكن حين نالوا هذه الحرية، اقتصرت على رجال الحارة وحدهم، هكذا صوّر نجيب محفوظ تناقضات الصراع الطبقي في روايته، إذ ترمز عائلة الناجي لشعب خاضع وذليل، ما أن تفكَّ قيود الظلم عن العائلة، يتمتع الرجال وحدهم بالخلاص.
الحرافيش هم امتدادٌ لنسل السيد أحمد عبد الجواد، بطل الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ الروائية، ففي فيلم بين القصرين (1964) المقتبس عن رواية لمحفوظ بنفس العنوان، يعيش "سي السيد" ذليلاً تحت قبضة الاحتلال الإنجليزي لمصر، ويعوّض ذلك بظلمه للنساء الواقعات تحت رحمته، فلا تستطيع زوجته وبناته الجلوس معه لتناول الطعام على المائدة، إنما يقفن قرب المائدة، يقدمن الخدمة للذكور، وبعد أن ينتهي هو وأبناؤه الثلاثة من الأكل، يُسمح لهن بتناول ما تبقى من الفتات فقط.
يتكرر المشهد ذاته في مسلسل "حديث الصباح والمساء" (2001) والمقتبس أيضاً عن رواية لنجيب محفوظ. عندما ينادي عزيز المصري على زوجته، نعمة المراكبي، كي تشاركه الطعام، يشمئز والده من الموقف ويجز على أسنانه. تلاحظ جليلة الطرابيشي غضبه، فتسحب زوجة الابن معها لتأكلا بمفردهما. عندها ينفرد الأب بابنه، ينهره قائلاً: " متخليش مراتك تاخد عليك وتقعد تاكل معاك".
تتنافى هذه الصورة مع حقيقة علاقة المرأة والرجل في المجتمعات القديمة، وبحسب الكاتبة "نوال السعدواي" في كتابها "عن المرأة"، النساء هن مَن اكتشفن الصيد والزراعة، ولم يؤخرهن الحمل أو الولادة عن جلب الطعام وتغذية أطفالهن وتنظيم وتوزيع الطعام بالعدل على أفراد القبيلة أثناء غياب الرجال في رحلات الصيد التي كانت تستمر لأشهر طويلة، إلا أنه وبعد بسط الرجال سلطتهم على اقتصاد القبيلة وعلى العائد من جهد النساء، مستخدمين أدوات الحرب، انتهت سلطة النساء لينتقل المجتمع إلى النظام الأبوي، ويتغير كل شيء حتى توزيع الطعام بالعدل.
العمدة في فيلم البوسطجي (1968)، كان مثالاً عبقرياً على النظام الأبوي المتسلط، المقتبس من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الراحل يحيى حقي، يشعر العمدة بالاستحقاقية الشديدة كذكر شرقي، يجلس على المائدة ويتناول وحده الطعام، أمّا زوجته وابنتيه والخادمة فيقدمن جميعهن الخدمة له.
العمدة ذاته الذي اغتصب الخادمة التي تعمل في منزله، يقتل ابنته بعد معرفته بحملها ولا "يعفو" عنها حتى حين يتقدم الشاب لخطبتها، وكأن مشهد التمييز على مائدة الطعام يلخص كل أشكال الظلم الذي تتعرض له المرأة كمواطن من الدرجة الثانية في القانون.
"الفتات" طعام المرأة وأطفالها
لم تبخل الدراما المصرية في تصوير الفروق بين الجنسين على طاولة الطعام، حيث نوعية الخدمة والطعام المقدمة للرجال أفضل بأشواط من تلك المقدمة للنساء.
في الحلقة الأولى من مسلسل "الليل وآخره" (2003) تجمع أم رحيم أبنائها وأحفادها في عزومة رمضانية على الإفطار. تُخصص المائدة الفخمة للرجال بينما تجلس النساء والأطفال من الإناث على المائدة البسيطة، تغضب زوجة المستشار من المشهد وتشعر بالمهانة.
وفي مشهد حفل زفاف "سنية" في مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" (1996)، المقتبس من كتاب لإحسان عبد القدوس، نشاهد فاطمة كُشري، زوجة عبد الغفور البرعي، توزع الطعام على ضيوف الحفل بينما زوجها يقف ضاحكاً وهو يتناول الطعام دون مساعدتها. ورغم الازدحام وتدافع الضيوف من حولها، إلا أنها تمده بقطع من اللحم وتقول له : "كُل أنت يا عبده".
وفي فيلم الزوجة الثانية (1967)، نرى فاطمة تقدم لزوجها نصيباً أكبر من الطعام عن باقي أفراد الأسرة. في أحد المشاهد، يسألها العمدة الذي تخدم في منزله لو أعطاها طيراً للذبح ماذا تفعل به؟ فتجيب بأنها ستأخذ لنفسها وأبنائها جزءاً صغيراً وتطعم الباقي لزوجها لأنه الرجل، رغم أن فاطمة تبذل جهداً مضاعفاً عن زوجها الذي يعمل خارج المنزل فقط، بينما تعمل هي داخل المنزل وخارجه.
توزيع الأنصبة والنصيب الأكبر للذكور
هذه المشاهد ليست مجرد دراما، إنما تعكس واقعاً معاشاً في مصر. في الفصل الرابع من كتاب "إعادة إنتاج التراث الشعبي.. كيف يتشبث الفقراء بالحياة في ظل الندرة" (2012)، يقول سعيد المصري إن الأسر الشعبية تعطي الحصّة الأكبر من الغذاء للرجل، وخاصة الأصناف النادرة والمكلفة من أسماك ولحوم ودواجن وحلوى وفواكه.
وتشير البيانات الميدانية التي أجراها المصري على "حي بولاق" بمحافظة "الجيزة" أن الأولوية في التوزيع تعطى للذكور البالغين، حتى لو كانوا غائبين عن مائدة الطعام، والسبب وراء ذلك، بحسب القاعدة الشعبية المتعارفة هي أن: "الرجالة بتتعب وتشقى ولازم منابهم (نصيبهم) يبقى أكبر. المهم الرجاله تاكل والستات والعيال بعدين".
تتحمل المرأة مسؤولية تدبير الأسرة اقتصادياً حتى لو كان ذلك على حساب نفسها وأطفالها، فتلجأ الأم إلى حيل قاسية تحرم فيها أطفالها من اللقمة لتوفيرها للأب أو الأخ.
ويقول سعيد المصري إن الأمهات كثيراً ما يقنعن بناتهن بأنهن لا يحببن أكل اللحوم، بل يفضلن لعق العظام، وبهذه الطريقة يصبح نصيب الفتاة مجرد قطعة من العظام خالية حتى من اللحم.
نساء الزمن الجريدي
يحكي الكاتب إبراهيم الدرغوثي، في روايته: "خارج حدود السرد"، عن المرأة الجريدية التي لم يقاسمها الرجل أكله. والزمن الجريدي في الرواية هو زمن خيالي أوجده الكاتب كما القرية التي تجري فيها الأحداث ورغم أن الزمن الجريدي قد يكون غير موجود إلا أن ما يحصل مع نسائه موجودٌ في الواقع.
تناولت النساء الجريديات الطعام بعد فروغ الرجال منه، إذ كان الرجل يأكل أولاً ثم تأكل المرأة ما تبقى من الفتات، لذلك كنَّ يصبرن رغم جوعهن ويكتفين بالقليل المتاح.
ظاهرة تمييز الرجال عن النساء في نوعية وكمية الطعام ليست جديدة، بحسب الناقد الفني أحمد سعد الدين وهي مستمد من الواقع الذي نقلته السينما من داخل الحارة الشعبية المصرية وبيوت الأقاليم في الريف المصري وصعيد مصر، وظهرت تحديداً في الأعمال الدرامية قبل خمسينات القرن الماضي.
وقال أحمد سعد الدين لـ "ميدفيمنسوية": "أوكلت مهام المنزل وتربية الأبناء إلى النساء بالدرجة الأولى وهرب الرجل من هذه المسؤوليات بفضل المفاهيم الذكورية".
ويشير سعد الدين إلى أن الفوقية التي شعر بها الرجال جعلتهم يطلبون نصيباً أكبر من الطعام على اعتبارهم المعيلون الذين يعملون ويكدون من أجل الإنفاق على الأسرة، وبالطبع ارتبطت هذه الأفكار بمفهوم وظروف المجتمع المعرفية التي تشربتها المرأة واعتقدت أن انتقاص حقوقها أمر طبيعي، وهذا ما دفع بالنساء إلى تمييز أزواجهن واعطائهم القطعة الأكبر والأفضل من الطعام.
يضيف سعد الدين: "بفضل تعليم المرأة وخروجها للعمل، بدأت تتغير الكثير من الأعراف والمفاهيم التي تميز الرجل على المرأة، ورغم أن التمييز على طاولة الطعام مايزال موجوداً لكنه لم يعد منتشراً كما في الماضي".