هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
بقلم رولا أبو هاشم- صحافية ومراسلة "راديو نساء اف ام" في غزّة، فلسطين
رسائل تحت القصف: اليوم الأول للعدوان... السبت 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023
إنها السادسة والنصف صباحاً. كان يُفترض أن يكون يوماً عادياً هادئاً، يتّسم بالراحة والمزيد من النوم. فهو يوم الإجازة الأسبوعية لأطفالي من مدارسهم.
لكن الواقع كان مخالفاً بشدّة، إذ استيقظت من النوم مُرعبَة من أصوات انطلاق صواريخ المقاومة بشكلٍ متتالٍ ومتزامن من جميع محافظات قطاع غزة.
للوهلة الأولى، وكجميع سكّان القطاع، اعتقدتُ أن الأمر مجرد صواريخ تجريبية للمقاومة نحو البحر فحسب... لكن العدد الهائل للصواريخ المنطلقة والتي استمرت لساعات كان يقول لنا غير ذلك. وتأكد القول بعدها مع خطاب رئيس أركان كتائب القسام الذي أعلن بدء عملية "طوفان الأقصى" رداً على انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس والمسجد الأقصى.
استيقظ أطفالي تباعاً من شدة أصوات الصواريخ، وعلى وجوههم علامات استفهام، حاولت أن أهدئ من روعهم قليلاً.
ثم هاتفني زوجي الذي كان في طريقه إلى عمله في مدرسة حكومية ليخبرني أن الأجواء متوترة وغامضة، ويطلب مني تجهيز شنطة بالاحتياجات الضرورية لأطفالي سريعاً لمغادرة المنزل. فنحن نسكن منذ عام في شقة داخل برج سكني في منطقة حدودية شمال قطاع غزة، اعتادت أن تكون بقعة ساخنة في الحروب السابقة على غزة، ولن يكون آمناً لنا أن نبقى فيها إن تطورت الأمور.
قبل أن تتضح الصورة كلياً، أعلنت وزارة التربية والتعليم تعليق الدوام المدرسي، فعاد زوجي إلى المنزل. حينها، حاولتُ سريعاً وضع ما تذكرته مما يلزمني وأطفالي الأربعة في حقيبة صغيرة، ثم خرجنا من البيت.
في طريق الخروج من دائرة الخطر، اضطررنا للسير على الأقدام قرابة الساعة قبل أن نجد سيارة تقلنا إلى موقف السيارات المتجهة نحو جنوب القطاع حيث قررنا الانتقال إلى منزل أهلي هناك، اعتقاداً منا أنه أقل خطراً من غيره. ثم انتظرنا طويلاً، مرة أخرى، قبل أن نعثر على سيارة ثانية توصلنا إلى محافظة رفح.
لا أدري كيف اختفت سيارات الأجرة فجأة من شوارع المدينة... حاولنا أن نطلب سيارة خاصة من أكثر من مكتب للسيارات، لكن المحاولات كلها فشلت.
لا أدري كيف تشكلت طوابير طويلة من المواطنين/ات سريعاً أمام جميع المخابز، ومحلات المواد الغذائية، ومحطات تعبئة الغاز... كان الطريق طويلاً وشاقاً مليئاً بأسئلة معقدة من أطفالي، ومحفوفًا بالمخاطرة والخوف.
نجونا بإرادة الله بينما سقط صاروخ من طائرة استطلاع على أحد المنازل في خانيونس لحظة مرورنا على جانب الطريق.
تنفست الصعداء لحظتها، ونطقت الشهادتين، وأكملت الطريق أتمتم الدعوات، إلى أن وصلنا أخيراً إلى رفح.
وهناك بدأت تتضح الصورة شيئاً فشيئاً...
رسائل تحت القصف: الأحد 8 تشرين الأول/أكتوبر... ماذا سيحلّ بنا؟
يصعب على الواحد منا أن يصف شعوره بعد مشاهدة ما وصلنا من صور ومقاطع فيديو، سواءً أكانت تلك التي نشرتها المقاومة، أو حتى ما نُشِر على مواقع التواصل ممن استطاعوا الدخول إلى ما بعد السياج الحدودي الفاصل والوصول إلى مستوطنات غلاف غزة.
لقد كان السابع من أكتوبر يوماً تاريخياً ينتظره الغزيون والغزيات منذ سنوات، ليشفي شيئاً من الغليل الذي يعتري صدورهم، على رغم يقينهم بأنهم سيدفعون ثمن الهزيمة الساحقة التي ألحقتها المقاومة بالعدو منذ الضربة الأولى، أي سيدفعون من أرواحهم وأطفالهم وشبانهم وشاباتهم ونسائهم وبيوتهم وكل ما يملكون.
وصل رجال المقاومة إلى المساحات التي نشتاق أن تدوس أقدامنا ترابها، بعد أن اجتازوا ثكنات عسكرية وجنوداً محمَّلين بعدَّة وعتاد تفوق ما لديهم. وصلوا وتركوا لنا علامات استفهام كبيرة. والسؤال الكبير: كيف عبروا؟!
الاحتلال الذي تلقى صدمة قاسية لم تمر عليه منذ عشرات السنين، قرر أن يحاول إعادة الهيبة لجنوده الذين مرغت المقاومة وجوههم بالتراب، عبر إعلانه تنفيذ عملية عسكرية ضد غزة... ضد كل غزة.
إنه العدوان على غزة إذاً.
لم يتأخر رد الاحتلال كثيراً بعد ذلك، حيث بدأ، كعادته، بقصف منازل الناس ومقرّات لمؤسسات مدنية وعمارات سكنية على امتداد محافظات القطاع.
برج فلسطين هو أحد الأبراج القديمة والمعروفة في غزة ويضم شققاً سكنية، بالإضافة إلى مكاتب إعلامية وتجارية، كان هدفاً لطائرات الاحتلال في أول أيام العدوان.
انهار البرج وانهارت معه ذكريات أجيال من الفلسطينيين والفلسطينيات الذين عاشوا أياماً لا تُنسى داخل أروقته.
ثم امتدت صواريخ الاحتلال لتضرب خطوط الكهرباء الإسرائيلية التي تزود القطاع بالكهرباء، فحدث تعطلٌ في هذه الخطوط، ما أدى إلى وصول الكهرباء إلى منازلنا، في أحسن الأحوال، إلى أقل من 4 ساعات، مقابل أكثر من 12 ساعة من الانقطاع.
لك أن تتخيل شكل الحياة داخل منازل يضم الواحد منها ما لا يقل عن خمسة عشر فرداً على الأقل في هذه الأيام، غالبيتهم من الأطفال، من دون أن تزورهم الكهرباء سوى لساعات محدودة ومعدودة. في الليلة الأولى للعدوان، كانت المجزرة الأولى في رفح بحق عائلة "أبو قوطة" التي دمر الاحتلال منزلها فوق رؤوس أفرادها من دون أن يحذرهم،أو يطلب منهم الإخلاء قبل أن يقصف المنزل... وكم تكرّرت وتتكرّر هذه القصة.
منزل العائلة المستهدف في مخيم الشابورة لا يبعد كثيراً عن منزل عائلتي، وصوت الانفجار شكّل الرعب الكبير الأول الذي قفز إلى قلوب أطفالي بعد وصولنا إلى رفح.
24 شهيداً ارتقوا بعد قصف المنزل المكوّن من أربعة طوابق، منهم 19 من عائلة أبو قوطة، وآخرون من جيران العائلة، ما يشير إلى شدة الانفجار الذي امتدت الخسائر الناتجة عنه إلى جيران المنزل.
هكذا تنتهي الحياة في غزة، صاروخ يقتل البشر، ويفتت الحجر، ويعيث في الأرض فساداً لا يصدقه عقل...
رسائل تحت القصف: الأربعاء 18 تشرين الأول/أكتوبر... لم أعد أعدّ الأيام
استيقظتُ أمس برفقة العائلة، كبارها وصغارها، فجأة، عند الرابعة والنصف فجراً. أيقظني صوت انفجار عنيف وقريب.
منذ اثني عشر يوماً والغارات الإسرائيلية لم تتوقف على امتداد محافظات قطاع غزة. نسترق النوم في ساعات الهدوء الحذر، وما نلبث أن نستيقظ مفجوعين من شدة القصف واهتزاز المنزل.
ما زال صوت القصف يرعبنا، لا يمكن أن يعتاد المرء مشاهدَ العدوان على مر الأيام. فمع كل غارة تزداد دقات قلوبنا، ونظل نتمتم بالدعوات ونذكر اسم الله، حتى يزول الخوف ويحل الاطمئنان.
خرج إخوتي سريعاً من المنزل لحظة القصف، ثم عادوا مذهولين من هول ما رأوا: منزل مكوّن من خمسة طوابق، أصبح أثراً بعد عين. إلى ذلك، وصلت الأضرار إلى المنازل المجاورة...
أشلاء الشهداء معلقة على ما تبقى من جدران المنازل المحيطة.
جهود كبيرة ومعاناة شديدة في البحث عن الشهداء والمفقودين تحت الركام، نظراً إلى أن النهار لم يطلع بعد، والظلام يلف المكان، ما جعل مهمة الإنقاذ صعبة ومعقدة.
تمكنت الطواقم الطبية من انتشال 28 شهيداً وعدد كبير من الإصابات، حيث أن المنزل المستهدف كان يضم عدة عائلات نزحت من منازلها إلى جنوب القطاع بعد تهديدات جيش الاحتلال لهم بمغادرة مدينة غزة والشمال.
غادروا منازلهم خوفاً على حياتهم، وظناً منهم أنهم متجهون إلى مكان آمن، ليرتقوا شهداء في تلك المنازل "الآمنة" جنوباً!
في الحقيقة لم يعد هناك مكان آمن في قطاع غزة، فالطائرات تشن غاراتها على مختلف الأماكن، دون أي اعتبارات ولا حسابات.
لم تمض ساعات قليلة على هذه المجزرة حتى قفزت أجسادنا إثر غارة أخرى قريبة استهدفت منزلاً جديداً... إنها مجزرة جديدة بحق مدنيين جدد...
هذه رفح، رفح التي تركت منزلي شمال القطاع منذ بدء العدوان لأبقى فيها، على اعتبار أنها الأقل خطراً من غيرها. قضيتُ نهار أمس بقلب مقبوض، وخوف شديد يعتريني. فالموت هنا قريب منا وقد يصلنا في أي وقت.
لم تكن تلك الصورة في رفح وحدها، بل شُهد على جرائم مماثلة في خانيونس واستهداف منازل المواطنين والمواطنات في مناطق مختلفة هناك وارتقاء عدد كبير من الشهداء وإصابة جرحى كثر.
كان يوم أمس يومَ المجازر بامتياز، واختتم الاحتلال بطشه في المجزرة الأعنف والأقسى، في ساحة المستشفى الأهلي المعمداني في مدينة غزة.
قرابة ثلاثة آلاف شخص من العائلات المحيطة بالمستشفى والقريبة منه كانوا اتّخذوا من ساحته وأروقة أقسامه الداخلية ملاذاً آمناً لهم بعدما نزحوا من منازلهم في المناطق الساخنة... لتباغتهم صواريخ الاحتلال مساءً بينما كان صغارهم يلهون في حديقة المستشفى، والنساء يفترشن الأرض بالقرب من كبار السنّ.
أكثر من 500 شهيد، وفق ما أعلنت وزارة الصحة، غالبيتهم من الأطفال والنساء، ارتقوا في تلك المجزرة.
هؤلاء جميعاً تحوّلوا إلى جثث وأشلاء من دون أن تشفع لهم الحماية الدولية التي تمتلكها المستشفى. فالمستشفى مؤسسة طبية تقدم خدمات صحية، وهي تتبع للجالية المسيحية في مدينة غزة، تضم بين جنباتها كنيسة يؤدي المسيحيون فيها صلواتهم. كان يجب أن تتمتع بحماية القانون الإنساني الدولي... لكن لا، ليس في غزّة.
احترقت جدران المستشفى، وجثث الشهداء، ومعهم احترقت قلوبنا غضباً وقهراً وعجزاً...
رسائل تحت القصف: السبت 21 تشرين الأول/أكتوبر... ها نحن ندخل الأسبوع الثالث من الجحيم
ها نحن نبدأ أسبوعاً ثالثاً من الحياة تحت القصف الإسرائيلي والغارات على كل زاوية وتحت رحمة الطائرات التي تحوم في سماء محافظات قطاع غزّة الخمس من دون كلل ولا ملل. ها نحن في حضرة شبح الموت الذي يلاحقنا في كل مكان من دون أن يتعب من مهاجمتنا.
أكثر من أربعة آلاف شهيد وشهيدة حتى الآن، وأكثر من اثني عشرة ألف جريح وجريحة.
في كل صباح، يستيقظ صغيري إبراهيم ذو الأربعة أعوام ونصف ويسألني في اللحظة الأولى التي يفتح فيها عينيه: "خلص القصف يا ماما؟!" أجدني مضطرة لأن أقول له: "إن شالله بيخلص يا ماما"... أنا التي أعرف أن لا بوادر تلوح في الأفق لتجعل هذا القصف ينتهي.
لا أحد يتحدث في نشرات الأخبار وتحليلات الساسة عن إمكانية عودة الهدوء قريباً. جميعهم يتحدثون عن عدوان طويل ومتواصل... وبالفعل، لا يمهلني العدو لأكون أمّاً صادقة في نظر طفلي لوقتٍ طويل، إذ سرعان ما يربكنا انفجار قريب يأتي لينفي قولي وطمأنتي لطفلي جملة وتفصيلًا. ومع الانفجار يتغير لون وجه إبراهيم، وترتبك ملامحه الصغيرة، وتتعثر الجمل فوق لسانه، وتتكوم الدمعات في عينيه البريئتين، فيصيبني العجز في كل مرة يتكرر فيها هذا السيناريو.
أما طفلي الأكبر ريان ذو السبعة أعوام فينتظر اليوم الذي سنعود فيه إلى بيتنا بفارغ الصبر يظل يسألني: "متى هنرجع على بيتنا يا ماما؟!" فأقول له: "لما يروح القصف يا ماما!". يتبع إجابتي بتنهيدة ودعوات صادقة "يا رب تخلص الحرب اليوم!".
حقيقةً، لا أدري كيف حوّلني العدوان على غزة إلى أمٍّ مراوغة تحتال على صغارها لدى الإجابة عن أسئلتهم البريئة، ولربما تحولت، كما كثير من الأمهات من حولي، إلى أم كاذبة في بعض الأحيان: فكيف لي وللأمهات أن نواجه هلع الصغار، صغار مثل طفلتي كرمل التي لم تكمل سنوات عمرها الثلاث...
تهرول نحوي خائفةً لحظة سماعها صوت الانفجارات حولنا. أحتضنها وأجدني مضطرة إلى أن أقلب الحقائق وأسألها "مييين فقع البالون يا ماما؟!" فيتبدل خوفها إلى ابتسامات ترتسم على وجهها وتجيبني "مش أناااا"!
أطفالنا في الحرب هم نقطة ضعفنا نحن الأمهات، وسبب خوفنا الحقيقي، وسبب نجاتنا إن نجوْنا، ومصدر عجزنا أيضاً. ماذا لو كان بإمكاننا أن نعيدهم إلى أحشائنا بانتظار أن تضع الحرب أوزارها، فلا يشعرون بخوف ولا تؤذيهم انفجارات الصواريخ؟
ماذا لو قلت لكم إنني أدعو الله في كل ليلة إن كتب لي شهادة، أن تكون برفقة أطفالي الأربعة، أن نبقى معاً، وأن يرفعنا الله شهداء سريعاً، من دون أن تختنق أنفاسنا تحت الركام... أن يكون موتنا في النهار، لا في عتمة الليل؟
رسائل تحت القصف: الأحد 22 تشرين الأول/أكتوبر... يوم جديد، مجازر جديدة
لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة. هذا ما يثبته لنا كل يوم وعلى مدار اللحظة القصف الإسرائيلي المتواصل. لليوم السادس عشر على التوالي، تستهدف الغارات الإٍرائيلية منازل المواطنين/ات المدنيين شمال القطاع وجنوبه رغم ادّعاءات الاحتلال بأن مناطق جنوب وادي غزة ستكون آمنة مقارنةً مع غيرها في الشمال. لكن في الواقع، رأينا كيف قُصفت العائلات التي نزحت من منازلها في الشمال، وهي جالسة في منازل أقاربها ومعارفها في الجنوب!
عشرات الشهداء يرتقون بعد كل غارة، وجرحى كثر يصلون إلى المستشفيات. هذا المشهد يُكرّر على مدار الساعة، لأن الاحتلال الإسرائيلي يقصف المنازل على رؤوس ساكنيها بلا أي تحذير مسبق.
عدد كبير من المنازل المستهدفة مكوَّنة من طوابق عدّة وتضم بين جنباتها عائلات، ذلك أن الشقق المُعدَّة للإيجار لا تتوفّر بكثرة في المحافظات الجنوبية، ما يعني أن النازحين إليها لا يملكون رفاهية الاختيار في هذه الأوقات الحرجة فيذهبون إلى مَن يفتح أبوابه لهم، حتى ولو كان البيت المضيف بيتاً ضيّقاً بالكاد يتّسع لأصحابه في الأيام العادية.
في مدينة رفح اليوم، قصفت الطائرات منزلاً لعائلة أبو يونس في حي تل السلطان غرب المدينة، فارتقى جميع مَن في المنزل شهداء، وعدد آخر من الجيران كذلك، عدا عن الدمار الواسع والأضرار الجسيمة التي حلت بالمربع السكني هناك.
تقول لي صديقتي التي يسكن أهلها في تلك المنطقة، إن عناية الرحمن حالت دون أن تخسر أحد أفراد عائلتها الذين كانوا يستعدون لتناول الغداء حينما باغتتهم الغارة الإسرائيلية، لينقلب الحال في غمضة عين وبدون أي مقدمات، ففقدت أسرتها نصف منزلهم جراء القصف العنيف الذي ضرب المنطقة.
وفي ساعة مبكرة من يوم الأحد، كان منزل عائلة الزطمة في حي تل السلطان هدفاً آخر لطائرات الاحتلال، وهو المنزل الذي خرجت منه الممرّضة ابتسام الزطمة (الصورة أدناه) إلى عملها في المستشفى الإماراتي في المدينة، ثم فُجعت بخبر قصف منزل عائلتها وراحت تستقبل جثث ابنها عماد وزوجته وأبنائه الخمسة، وابنتها حنان وزوجها وأبنائها...
هكذا هي الحياة في غزة، ممتلئة موتاً، ولكن تصميماً على مواصلة العمل أيضاً، رغم الخوف والقلق وإصرار الاحتلال على أن يصيب أهل غزة ويستهدف الأبرياء الآمنين.
رسائل تحت القصف: الاثنين 23 تشرين الأول/أكتوبر... متى سننعم بكوبٍ من الماء النظيف؟
متى سينتهي كل هذا ونعود إلى شيء من الهدوء؟ متى ستتوقف الحرب والموت والقصف؟ متى سترحل الطائرات الإسرائيلية عن سماء مدينتنا ويخرس أزيزها المرعب؟ متى سنأخذ فرصةً لتفقّد أحبتنا والبكاء على من رحلوا، علماً أننا لن نعرف أسماءهم جميعاً؟
في غزّة، نتعرض للقصف منذ سبعة عشر يوماً من دون أن نعرف مباشرة أين وقع القصف بالضبط؟ ومن كان ضحيته؟ لا يتسنى لنا معرفة ذلك لعدم توفر الكهرباء وانقطاع الإنترنت لساعات طويلة، ولرداءة شبكة الاتصالات. أحياناً يمكننا فقط أن نخمّن مكان القصف، فنرسل رسالة قصيرة عبر الجوال لأحد الأصدقاء هناك للاطمئنان عليه وجواره والتأكّد من الموقع المستهدف.
متى سنتمكن من أخذ حقنا في قسط من النوم من دون أن يفزعنا صوت انفجار يزلزل قلوبنا ويخيف أطفالنا؟ متى سأعود مع عائلتي إلى حارتنا التي لا نعلم حجم الدمار الذي حلَّ بها كونها في منطقة حدودية شمال قطاع غزة ولا تتوفر تغطية إعلامية هناك تصوّر هول ما تدمره الغارات الإسرائيلية؟
تشتعل في قلبي نار لا يعلم عنها أحد وأنا لا أعرف مصير بيتي ولا أستطيع الوصول إليه...
متى سننعم بالكهرباء في منازلنا من جديد؟ الكهرباء التي لم تصلنا منذ بداية العدوان بعد توقف محطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع عن العمل لأن الاحتلال قرر أن يمنع إدخال الوقود اللازم لتشغيلها...
متى سننعم بكوب من الماء النظيف للشرب؟ ومتى ستسري المياه العادية في أنابيب منازلنا لنمارس حياتنا الآدمية بشكل طبيعي؟
لن تتخيلوا، البيوت في غزة تبقى لأكثر من خمسة أيام دون أن تصلها المياه المالحة اللازمة للاستخدام اليومي والشخصي. فالاحتلال قرّر أن يعاقب الغزيين والغزاويات ويمنع إدخال المياه الواردة منه إلى القطاع.
متى سنتمكن من الحصول على ربطة خبز لنا ولأطفالنا دون أن نضطر للانتظار الطويل والوقوف في طابور قبل شروق الشمس؟
منذ سبعة عشر يوماً ونحن نصرخ ملء ما في قلوبنا من قهر بهذه التساؤلات دون أن تصلنا إجابات تشفي صدورنا وتضمّد جراحنا وتهدئ من روعنا. متى سنستريح، ولو لبرهة قصيرة؟
رسائل تحت القصف: الثلاثاء 24 تشرين الأول/أكتوبر... لكننا في نهاية المطاف بشر معرّضون للإحباط!
في كل صباح، نستيقظ غير مصدّقين أننا من الأحياء الذين ما زال في عمرهم بقية تسمح لهم أن يشهدوا على المزيد من بطش الاحتلال وقصفه.
منذ ثمانية عشر يوماً ونحن نقول "الليلة الماضية كانت الأعنف"، ثم "الليلة الماضية كانت الأقسى". ثمة صباحات نقول فيها، "الليلة الماضية كانت الأشد رعباً"، ليثبت لنا الاحتلال في كل مرة أننا في حقيقة الأمر نعيش أسوأ أيام عمرنا التي لم نتخيل يوماً أننا سنحياها بكل ما فيها من تفاصيل مُفجعة ومؤلمة.
نعلم أنّنا مطالبون بالصبر والصمود، ونحن نفعل ذلك منذ اليوم الأول، وندرك أن طريق النصر والحرية والاستقلال صعب ومضرج بالدماء والخسارات الكبيرة، لكننا في نهاية المطاف بشر، ومعرضون للإحباط والحزن والاكتئاب أيضاً.
لذا، أنا أعترف بأنني أكتب اليوم وفي قلبي وجع وخوف أكبر بكثير من طاقة احتمالي...
الليلة الماضية وصلني خبر استشهاد زميلنا الصحافي الشاب محمد لبد (27 عاماً)، إثر قصف إسرائيلي لمكان مجاور له بينما كان يجلس برفقة جدّه أمام منزلهم في حي الشيخ رضوان في مدينة غزة.
محمد الشاب المهذب، عرفناه مجتهداً خدوماً وحالماً. كان ينتظر أن يبدأ مرحلة جديدة من حياته برفقة خطيبته، لكن طائرات الاحتلال لم تتركه يحقّق ما كان يصبو إليه.
برحيل محمد لبد، ارتفع عدد الشهداء الصحافيين الذين ارتقوا منذ بدء العدوان على غزة إلى 20.
بدأ النهار مع فاجعة أخرى، تمثّلت بخبر استشهاد الصديقة سلمى مخيمر. استشهدت سلمى برفقة طفلها علي الذي لم يكمل عامه الأول بعد، وعدد كبير من أفراد عائلتها، بعد قصف منزلهم على رؤوسهم في حي تل السلطان في رفح فجراً. سلمى التي ودّعت زوجها في الأردن قبل فترة قصيرة وعادت إلى غزة لزيارة عائلتها برفقة طفلها... وكأنها جاءت إلى قدرها ونصيبها من الشهادة.
طواقم الدفاع المدني قالت إنها انتشلت 18 شهيداً بعد تدمير منزل عائلة مخيمر.
لم يتوقف القصف على منازل المواطنين والمواطنات في جميع محافظات القطاع على مدار النهار، ما رفع حصيلة الشهداء، وفق ما أعلنت وزارة الصحة حتى لحظة كتابة هذه السطور، إلى 5791 شهيداً وشهيدة منهم: 2360 طفلاً و 1292 سيدة وفتاة، و295 مسناً، يضاف إليهم 1550 شهيداً مفقودين تحت الأنقاض، فيما أصيب 16297 مواطناً ومواطنة.