هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: English (الإنجليزية)
في الثالث عشر من آب/أغسطس عام 2012، تحوّل حلم الأسرى الفلسطينيين الذي كان في السابق يراودهم بخجل، تحديداً في أوائل التسعينات، إلى حقيقة مُذهلة. فقد رُزق الأسير الفلسطيني المحكوم بالمؤبّد، عمار عبد الرحمن الزبن، بأوّل طفلٍ كان وليدَ النطف المهربة، والذي سُمّي "مُهنّد".
اسم مهنّد مشتق من السيف المهنّد الذي يدل على القوة والصلابة وخلفهما تحدٍّ لكآبة سنين الاعتقال وإصرارٌ على انتزاع حياة جديدة رغم أنوف الحواجز الإسرائيلية والمراقبة الحثيثة وعدم السماح للأسرى بلمس زوجاتهم حتى.
تساؤلات كثيرة راودت كل فلسطيني/ة استمع إلى خبر النطف المهرّبة في بدايات قصّتها، وكان تصديق ما حدث أشبه بالمعجزة... إلى أن رأى الشعب الفلسطيني وجه "مهنّد" ووصلت إليه مشاعر ذويه واستمع إلى تفاصيل مجريات العملية التي شجّعت المزيد من الأسرى على أن يحذوا حذوَ عمار وطريقة الحمل التي، بالطبع، لم ترُق للمحتل، رغم المواثيق الدولية التي تكفل الحق فيها وفي لقاء الأزواج، وأيضاً رغم معتقدات الآباء المسلمين/ات الذين كفلت لهم شريعتهم الحق في اتّباعها.
يشرح المتحدّث باسم "هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين"، حسين عبد ربه، أكثر حول هذه القضية، ويقول لنا، "الآن وبعد مرور عقد على الحلم الأول بإنجاب زوجات الأسرى، تحديداً زوجات الأسرى ذوي المحكوميات الطويلة أو المؤبّدات التي تفوق بمرّات كثيرة العمر الزمني الفعلي للإنسان، وعبر النطف المهرّبة أو "المحرّرة" كما يُحبّ أن يسمّيها الأسرى وذووهم، تكرّر تنفيذ هذه الطريقة مع 76 أسيراً من مختلف المحافظات، بمن فيهم أسرى الداخل المحتل، أمثال الأسير وليد دقة. 56 أسيراً منهم يأتون من محافظات الضفة الغربية و13 من قطاع غزة و6 من القدس المحتلة، وبعض هؤلاء أنجبوا لمرة واحدة فقط، وبعضهم الآخر رُزقوا بتوأم أو ثلاثة..."
أمّهات مخطوبات
من بين أمّهات أطفال النطف المهرّبة، عددٌ من السيدات اللواتي أنجبن بمجرد "كتب الكتاب" أو الخطوبة. بمعنى آخر، من دون المرور بعلاقة يتخلّلها ولوج. من بين هؤلاء النساء السيدة سناء سلامة زوجة الأسير ميلاد دقة، وشيرين نزال زوجة الأسير المحرّر صلاح حسين، وآمنة الحصري زوجة الأسير أحمد جيوسي، وآمنة عوني زوجة الأسير أنور عليان من طولكرم، وهو معتقل منذ الرابع من نيسان/ابريل عام 2003 ومحكوم بالسجن لمدّة 23 عاماً.
تقول آمنة لـ"ميدفيمينسوية"، "أحببتُ أنور وقرأنا الفاتحة قبل اعتقاله ومطاردته بستة أشهر، لذا، لم نتمكّن من الزواج بسبب ظروفه وكانت الخيبة الكبيرة والصدمة عند صدور قرار بأسره لأكثر من عشرين عاماً. قرّرتُ عدم التخلي عنه وإكمال مشواري برفقته وانتظاره إلى حين الإفراج عنه. هو يناضل من داخل السجن وأنا من خارجه".
تضيف آمنة، "بقيتُ على اسمه، وبعد مرور خمس سنوات على اعتقاله، من أجل إضفاء طابع رسمي على علاقتنا، وبمساعدة محامين ووسط إجراءات معقدة، استطعنا كتب الكتاب... في ذلك الوقت، كان الإنجاب بالنسبة إلي حلماً بعيداً لأنني قلتُ في نفسي: بعد خروج أنور من السجن، سأكون في الأربعينات من العمر، ما يعني أنني لن أستطيع الإنجاب وسنبقى وحيدين. استمرّ هذا الاعتقاد في رأسي، على رغم رغبتي بالأمومة التي كانت ترافقني في كل لحظة، إلى أن استمعنا إلى الأخبار التي كانت تتحدّث عن أطفال الأنابيب وتهريب النطف، فصار الحلم يراودني مراراً ولسنوات، إلى أن طرحتُ الفكرة بشكل جدّي على المحيطين بي. في البداية، رفضت عائلتي وعائلة أنور الأمر واستهجنوه لأنني كنتُ مخطوبة، أي لم أكن كالزوجات اللواتي جمعتهن علاقة مسبقة بأزواجهن الأسرى قبل اعتقالهم، وكانت مخاوفهم بشكل أساسي من نظرة المجتمع وكلام الناس... لكنني شخصياً كنتُ مصرّة على المحاولة وأقنعتهم بالأمر بعد فترة وجهد ومحاولات عدّة وبحمد الله، تحقّق الأمر، وأنجبتُ توأماً هما "عمر" و"عادل"، عمرهما اليوم 9 سنوات".
تتابع آمنة حديثها معنا والدموع تملأ عينيها، لتصفَ لقاء أنور الأول بتوأمه عمر وعادل حين كان عمرهم شهرين، وتقول بعفويّة، "أول ما شافهم صار يبكي لأنه مش قادر يحضنهم والزجاج منعه من لمسهم وبنفس الوقت كانت الدنيا مش سايعة فرحته وفرحتي... هذا المشهد خلاني إنسى الطريق الطويلة المتعبة ومشقة السفر وعناء حمل توأم بنفس الوقت وتمنيت لو بنقدر نجتمع معه بغرفة لو لدقيقة".
وعن علاقة التوأم بأنور، تشرح آمنة أنها استطاعت زرع حبّ الوالد في نفوس ابنيها، "ففي اللحظات الأولى لبداية إدراكهما للأمور، بدأتُ أعرّفهما إلى والديهما من خلال الصور وبتفنية الفوتوشوب جمعتُ صورهما مع صوره وبدأتُ أروي لهما القصص التي ستحبّبهما فيه... وفي جميع الزيارات، كنتُ أصطحبهما معي. مع مرور الوقت، بدأ أطفالي بالطرْق على الزجاج لمجرّد رؤية أنور. وفي إحدى الزيارات التي لن أنساها أبداً، طرقوا كثيراً على الزجاج وقالوا لي "دخْلينا عند بابا". على الفور قلتُ للحارس أرجوك اسمح للأطفال بالدخول للمس والدهم، فوافق في لحظتها. ركض عادل وعمر نحو باب السجن وهناك كانت خيبة الأمل الكبيرة، حيث أعادهما السجّان بحجة عدم وجود إذنٍ خاص بالدخول، فأخذا يصرخان وأذابا ببكائهما قلوبنا أنا ووالدهما من هول المشهد".
العناقُ المُكلف
لكنّ آمنة لم تستسلم، إذ تقدّمت بعد تلك الحادثة بطلباتٍ خاصة للسماح للأطفال برؤية أنور، وبالفعل، حصلت على القرار الذي بموجبه يستطيع عادل وعمر لقاء والديهما كل خمسة أشهر والجلوس في حضنه. "كان أنور يشعر أنه يمتلك الدنيا بين ذراعيه"، تقول آمنة. وتشرح لنا أن في سنوات عمرهما الأولى، كان الطفلان يرتعدان ويبكيان لدى رؤية جنود الاحتلال المدجّجين بالسلاح وهم يأخذونهما من بين ذراعيها ليضعوهما في غرفة الانتظار إلى حين الإتيان بوالدهما إليهما... وكانت هي تتابع المشهد من خلف الزجاج، تراقب عائلتها بحبّ وحسرة.
سألنا آمنة إذا ما استطاعت خلال هذه السنوات الطويلة لمس زوجها، فكان ردّها: "قبل سبع سنوات، استطعتُ معانقة أنور لمدّة دقيقتين فقط، بعد السماح للأسرى بالتقاط الصور مع ذويهم. كانت تلك المرّة الأولى التي لامست جسده فيها طيلة سنوات اعتقاله التي مضى عليها اليوم 21 سنة، وما زلتُ أشعر حتى اللحظة بإحساس جميل وكأنه حلم مرّ بلمح البصر".
تعتبر آمنة أن ما قامت به وما تقوم به اليوم من تربية أطفال والاعتناء بهم من دون أبٍ حاضر إلى جانبها، تجربة مُفعمة بالأمل الذي زرعه الطفلان رغماً عن جدران السجون، وتتطلع إلى خروج أنور من السجن وتتخيل استقباله في محيطه وفي عيون أطفالهما دوماً. وتنصح زوجات الأسرى بالاستلهام من تجربتها ومحاولة الإنجاب عبر النطف المهرّبة لمن ترغب في ذلك.
الاحتلال يعاقب عائلات النطف المحرّرة
يوم 13 آب/أغسطس 2021، تاريخ ميلاد أول أطفال النطف المحرّرة "مهنّد"، أي ابن عمار الزبن، نُظّم في محافظة بيت لحم احتفالٌ واسع احتفاءً بهذه الظاهرة وفيها تحدّثت هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين قائلةً، إنّ هذه الظاهرة المستمرة تؤكّد أن "أسرانا يعشقون الحرية والحياة من خلال تحدّيهم للسجّان الإسرائيلي علماً أن الاحتلال يفرض عقوباتٍ وقيوداً كثيرة لمنع تهريب النطف، كما حصل مع ليديا الريماوي، أم مجد وزوجة الأسير عبد الكريم الريماوي التي أنجبت عبر النطف المحرّرة. فقد عوقبت بحرمانها من زيارة زوجها لـ15 شهراً وفرضت المحكمة الإسرائيلية عليها غرامة مالية قدرها 1500 دولار أمريكي، وتعرّض زوجها للعزل والتحقيق المتواصل والحرمان من الزيارة كما مُنع من مشاهدة ابنه لأشهر طويلة. ومن العقوبات أيضاً ما يُفرض على أطفال النطف المحرّرة من الأسرى المقدسيّين، حيث يُحرمون من شهادة الميلاد ومن الحقوق التي تُمنح للأطفال حديثي الولادة، ويُحرمون من الحصول على أي ورقة تُثبت أنهم على قيد الحياة، ولا يتم إدخالهم في الإحصاء المركزي الإسرائيلي، ولا في التأمين الصحي".
وقد وصل، بحسب حسين عبد ربه المتحدث باسم هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، عدد الأطفال الذين أُنجبوا عن طريق النطف المهرّبة إلى 110 طفل/ة من مختلف المحافظات، غالبيتهم من محافظات الضفة الغربية. "ازدادت هذه العمليات بعد العام 2014 ليصل العدد في العام 2017 الى 56 طفلاً/ة، وفي العام 2018 إلى 67، وإلى 80 عام 2019، و88 عام 2020 وفي مطلع عام 2022 وصل العدد إلى 104، والآن نحن نتحدّث عن قرابة 110 أُنجبوا من 76 أسيراً داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي".
"عدد الأطفال الذين أُنجبوا عن طريق النطف المهرّبة وصل إلى 110 طفل/ة من مختلف المحافظات، غالبيتهم من محافظات الضفة الغربية"
كيف تجري عملية تهريب النطف؟
تشرح المحامية والباحثة عبير الخطيب الذي صدر لها بحث معمّق حول النطف المهربة أن العملية تتم بعد أن يأخذ الأسير موافقة زوجته وعائلته وعائلة زوجته أوّلاً، أو بعد أن تأخذ الزوجة موافقة زوجها الأسير، في حال عبّرت هي عن رغبة الإنجاب قبله، ومن ثمّ موافقة العائلتين أيضاً. وأكّدت الخطيب في تصريحها لوكالة الأنباء الرسمية "وفا" أنه "في المرحلة الثانية، بعد موافقة المعنيّين/ات، يبدأ الأسير بتحضير نفسه وتحضير من سيحمل النطفة. تجارب كثيرة باءت بالفشل إذ كانت تُخرج النطفة ولكن تُحفظ بطريقة خاطئة فتصل إلى المركز الطبي تالفة. مع تكرار التجارب، تمكّن الأسرى من ابتكار طرق تحفظ الحيوانات المنوية لساعات طويلة قد تصل إلى 20 ساعة".
من الوسائل التي نقل بها الأسرى النطف: القداحة، وكيس الشيبس، وحبة التمر... عادةً ما يبلّغ الأسير مسؤولَ حركته في السجن عزمَه تهريب نطفة وطريقة حملها، وعندما تتهيأ الأمور يستخرجها ويكون اثنان من الأسرى شاهدَيْن عند باب الحمّام، إضافة إلى أسيرين آخرَين، ليكون العدد أربعة شهود مجتمعين. ثم يبلّغهم الأسير بأنه سيُخرج الحيوان المنوي من خلال الحامل أو الوسيلة "كذا"، ويحدّد موعد إخراج النطفة في يوم الزيارة التي يُسمح فيها له بلقاء أحد أفراد عائلته دون حواجز.
بمجرد تسلّم الشخص الذي يكون عادةً من أقارب الأسير من الدرجة الأولى، الغرضَ الحامل للحيوان المنوي، فإن أول ما يقوم به عند مغادرة السجن هو تسليم النطفة لعائلتَي الأسير وزوجته الذين يكونون في الانتظار. غالباً ما يكون والد الأسير ووالد زوجته تحديداً هما الذين ينتظرون وصوله، وإذا كان أحدهم متوفى أو تعذّر حضوره، فإن من يحضر بدلاً عنه يجب أن يكون قريباً من الدرجة الأولى.
وتضيف المحامية الخطيب، "بعد الاستلام يتم نقل النطفة إلى المركز الطبي من أجل التأكد من سلامتها، ثم تتم معالجتها وتجميدها وحفظها، فيما تكون زوجة الأسير مهيأة لعملية الزراعة، كما يتم التوقيع على أن هذه النطفة قادمة من الأسير "الفلاني".
من الجدير بالذكر أن مفتي القدس والديار الفلسطينية، خطيب المسجد الأقصى سماحة الشيخ محمد حسين، أكّد في السابق أنّ مجلس الإفتاء أجاز في فتوى هذه الطريقة للإنجاب، وبضوابط عدة، منها التأكد من نقل العينات من الأسير نفسه إلى زوجته، وضبط النقل والتلقيح بحضور أناس من أهل الدّين.
اليوم هناك 110 طفل وطفلة وُلدوا بالنطف المحرّرة يؤكّدون لنا باستمرار أن مواجهة الظلم والمحتل تظل ممكنة لا بل تجدّد نفسها بأساليب لن تخطر على بال ظالمٍ... كنطفٍ مهرّبة عبر ولّاعة يحدث أن تستحيل أطفالاً فلسطينيّين يحملون قضية الحرية والكرامة في قلوبهم، وأحلام شعبٍ كامل بالتحرّر.