"هذا البحرُ لي، هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي، هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ من خُطَايَ وسائلي المنويِّ … لي". أتذكر عند سماعي كلمة البحر في جدارية الشاعر الراحل محمود درويش مشاعري المختلطة كلما سافرت إلى دولة ورأيت ارتطام أمواج البحر ومداعبة أشعة الشمس لسطح مياهه وتعانق الغروب والذود مع البحر، دونما حواجز، ووقتما أشاء، وبكائي وضحكاتي اللامتناهية.
أذكر تلك الكلمات أمام كل من رافقني "ليش البحر مش معنا، ليش أكثر مكان مريح لنفسياتنا حرمونا منه؟" ثم تعيدني ذاكرتي إلى واقع الاحتلال الاسرائيلي الذي يسيطر منذ عشرات السنين على الموارد الطبيعية الفلسطينية ويحرم الكل الفلسطيني من التمتع بها. فالبحر كالنهر والأحراش وقمم الجبال والسهول والغابات والكهوف لا نستطيع الذهاب اليها متى شئنا.
وسط حياتنا التي أصفها دوما بالسجن الكبير، أبدعنا، والمرأة و/أو الأم الفلسطينية بالتحديد، بالتأقلم ومحاولة إيجاد بدائل للمساحات الطبيعية التي حُرمنا منها، للترفيه عن العائلة والأبناء والبنات.
من أزقة الشوارع والبيوت المتلاصقة، تعلو الليالي الصيفية بضحكات الأطفال الذين يسبحون في برك بلاستيكية قد لا يتجاوز عمقها النصف متر وطولها المترين، متغلّبين بذلك على حرارة الصيف والتكاليف المرتفعة للمسابح الخارجية الخاصة والتي قد "تصل كلفة الدخول إليها إلى 20 دولاراً للشخص الواحد، من دون احتساب الاحتياجات الأخرى من مأكولات ومشروبات وألعاب وغيره"، كما أفادتنا السيدة هداية جرار في حوارها مع "ميدفيمينسوية"، وهي أم لطفلين تسكن في مدينة "بيتونيا" في الضفة الغربية.
أما المحامية دلال أبو الرب، من مدينة رام الله، فأشارت لنا إنها تحاول تعويض الساعات الطويلة التي تغيب خلالها عن أطفالها بفعل طبيعة عملها التي تتطلب وقتاً طويلاً، بالخروج إلى المطاعم والمقاهي التي تخصص ساحةً خاصة للعب الأطفال، أو باستئجار "فيلا" تحوي بركة سباحة في محافظة أريحا والأغوار، حيث تشعر دلال بفرحة أطفالها الكبيرة بالمساحة الواسعة التي يستطيعون الركض واللعب فيها كما يحلو لهم.
الأم المقدسية رنيم كسواني تشكو من أن مساحات المنازل ضيقة، ومع ارتفاع درجات الحرارة ترى أن أنسب الأماكن لاجتماع العائلة والأصدقاء هي الحدائق العامة أو بعض الأحراش.
في هذا السياق، تقول الكاتبة والباحثة في المجال العلمي والناشطة النسوية تمارا حداد إنه "يجب على الجميع البحث عن بدائل للترفيه لا سيما وأن الأماكن الترفيهية محصورة جداً لدينا بفعل سيطرة الاحتلال على الموارد، وبفعل عدم وجود مساحات وخيارات ترفيهية كافية في بعض الأحيان. كما يطغى التوجّه نحو المشاركة في الندوات الثقافية والأدبية والشعرية والحوارات العلمية على الترفيه بمعناه المجرّد. فأنا كإمرأة أجد بالكتابة والاستضافات الإذاعية والمرئية وباستكمال مسيرتي التعليمية لنيل درجة الدكتوراة فسحة من الترفيه وأحاول تطوير ذاتي باستمرار عبر القراءة".
بحسب خبراء التنمية البشرية، "يعمل الترفيه كباقي الأنشطة البدنية على تعزيز القدرات العقلية للشخص وذلك من خلال تحسين أداء النواقل العصبية وتحفيز هرمون السعادة في الجسم مما يحدّ من أعراض التوتر والاكتئاب ويحسّن وظائف المخ، كما ويعمل على زيادة معدّل ضربات القلب ويزيد من تدفق الدم، وهذا ما يساعد على تجديد الطاقة وتعزيز قدرة الشخص على التحمل".
ربما فات علماء التنمية البشرية أن الترفيه شبه مستحيل تحت وطأة احتلال يحرم الأفراد والأسر من أبسط مقوّمات الحياة والتنفيس... غير أن الشعب الفلسطيني، والنساء بشكل خاص، مستمرات في اختراع الأمل والمشاريع والنزهات والمسابح الصغيرة للترفيه عن أنفسهن وعن أطفالهن.