هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
الصورة الرئيسية: سارة الزغبي تغني في فرقة "تجلي" في الإسكندرية – تصوير حسام عزت
لم يكن الجسد، في ذاكرة الفنانة أفنان شاهر، مجرّد هيكل من عظام ولحم، بل كيان ينبض بلغة خفيّة، يحمل بوابة روحية لا تُفتح إلا لمن يجرؤ على الإصغاء. كانت تؤمن بأن الجسد، حين يُترك لحريته، ينسجم مع دوران الكواكب وموجات البحر ودقات القلب، والرقصة بالنسبة لها ليست أداءً بل طقس كونيّ ورحلة نحو الذات في صمت الدوران.
تلك كانت البذرة الأولى التي نبتت في وعي أفنان شاهر، 31 عاماً، حين وقفت على خشبة مسرح جامعة عين شمس عام 2015، تؤدي رقصة الدراويش في عرضٍ مسرحي مستلهم من رواية قواعد العشق الأربعون للكاتبة التركية إليف شافاق.
قررت أفنان أن تجعل "الدوران" نمط حياة لا أداءً عابر، وواصلت تعلّمه وممارسته عامين بعد انضمامها عام 2017 لفرقة "مشروع روح" التي تمزج الابتهالات الإسلامية بالتراتيل المسيحية.
وتباينت آراء الناس، فبينما رحّب البعض بالعروض ورآها كسراً لاحتكار الذكور للمجال، اعتبرها الغالبية خروجاً عن الأعراف والتقاليد، إذ يرون في حركة أجساد النساء “حراماً" لا يجوز.
"عندما بدأت ممارسة الدوران بشكل فردي، اكتشفت أن الناس ينظرون إليّ بغرابة شديدة. عندها فقط أدركت أنهم يعتقدون أن المولوية لا تجوز للنساء"

أول فرقة مصرية للمولوية النسائية
لم تدرِ أفنان، حينها، أنها تقتحم عالماً يُعبر حِكراً على الرجال. تقول في حديثها لـ "ميدفيمنسوية": "عندما بدأت ممارسة الدوران بشكل فردي، اكتشفت أن الناس ينظرون إليّ بغرابة شديدة. عندها فقط أدركت أنهم يعتقدون أن المولوية لا تجوز للنساء".
الرقص المولوي طقس صوفي نشأ مع أتباع جلال الدين الرومي في القرن الثالث عشر بمدينة قونية التركية، وهو ليس مجرد رقصة بل صلاة بالجسد وتسبيحٌ في الحركة، وسيلة للتقرب من الله والذوبان فيه.
يؤديه الرجال فقط، إذ تبدأ الرقصة بتقاطع ذراعي الدرويش فوق صدره رمزاً لوحدانية الله، ثم يفتحهما: اليمنى نحو السماء لتلقي البركة، واليسرى نحو الأرض لبثّها في العالم، وعيناه على كفه اليسرى، تعبيراً عن تواصل الروح بالجسد.
ومن خلال الدوران حول القلب، يعبّر الدرويش عن المحبة التي خُلق الإنسان لأجلها. وكما قال الرومي: "كلّ حبّ جسر إلى الحبّ الإلهي، ومن لم يذقه لا يعرف."
لم تكن الملابس البيضاء مجرّد زيّ لأفنان، بل كانت رؤيا تسكنها، فكرة تنبض في خيالها، وصورة لنساء يتحلقن بثيابهن الناصعة، يدُرن معاً في تناغم صوفي يشبه مجرّة بشرية تبحث عن النور. من هذا الإلهام ، وُلدت البذرة الأولى لفكرة تأسيس فرقة نسائية للرقص المولوي.
تضيف أفنان: "في تجربتي الأولى مع الدوران الصوفي، شعرتُ أن روحي تسبح في الكون، بين النجوم والأفلاك، تتخلص من كلّ ما يثقلها، وتعود إلى جسدي سالمة، محاطة بحماية ربانية. كانت تلك اللحظة دعوة لاكتشاف نفسي من جديد".
في لحظة فارقة، التقت أفنان بسارة كامل، الباحثة في علم الدوران، فالتقت رؤاهما وأسستا معاً فرقة "دوري لترتقي"، أول فرقة مصرية للمولوية النسائية. سرعان ما انضمت إليهن فتيات عاشقات للرقص الصوفي، وبإشرافهن وتدريبهن، تشكلت نواة الفرقة بسبع عضوات.
في سبتمبر 2023، شهد بيت السناري(1)وهو قصر بني عام 1789 بحي السيدة زينب الظهور الرسمي الأول لفرقة "دوري" في مهرجان سماع الدولي للإنشاد الروحي(2). كان الحضور أمام ميلاد كيان جديد، حيث تقف النساء في قلب الدائرة، يدُرن ليس لإبهار العين، بل لكشف النور الخفي.
بنات دوري في رحاب الصوفية الأنثوية
وبعد أن استقلّت أفنان بالفرقة، وسّعت مشروعها ليشمل جلسات تأمل واكتشاف الذات، فجمعت بين الجسد والروح، في تجربة تتقاطع فيها الفلسفة والفن والأنوثة بانسجام فريد.
تحوّلت فرقة "دوري" إلى فضاء آمن تتنفس فيه النساء من أعمار وتجارب متباينة، حيث تعيد كل واحدة بناء علاقتها بذاتها.

تأتي الفتيات والنساء وهن يحملن أسئلةً مؤجلة، وأحلاماً منكسرة، وقلوباً مثقلة. وفي كلّ دورة من تدريبات الدوران، يتحرر ألم قديم، وتُطلق طاقة كانت حبيسة. كثيرات لا يسعين إلى التصفيق، بل إلى لحظة صمت داخلي، إلى استعادة الهوية التي أضاعتها الأدوار الاجتماعية الصارمة.
تقول أفنان: "لم أحدد عدداً للعضوات، تركت الباب مفتوحاً لكلّ امرأة ترغب في اكتشاف جسدها معنا، أو التخفف من أثقالها بالدوران ".
اتهامات بالكفر والإلحاد للنساء فقط
ما إن بدأت فرقة "دوري" بتقديم عروضها، حتى واجهت موجة من الاتهامات الحادة بالكفر. لم تكن الانتقادات موجهة إلى الأداء أو الشكل الفنّي، بل إلى وجود النساء في فضاء روحاني طالما احتكره الرجال. اتُّهِمت العضوات بانتهاك التقاليد، رغم ارتدائهن ملابس فضفاضة تراعي ما يدعى بـ "معايير الاحتشام"، فقط لأنهن اخترن أن يدُرن لا للتزيين، بل للاتصال بما هو أعمق.
"في البداية، آلمتني التعليقات السلبية كثيراً، خاصة بعد انطلاقة الفرقة مباشرة. لكنني رفضت أن أكسر. حوّلت الهجوم إلى دافع للاستمرار، لأؤكد أن الروح لا تُصنّف، وأن الدوران لا يُحتكر، وأن التصوف ليس حكراً على الرجال"
تصاعدت الاتهامات حتى اتخذت طابعاً مؤامراتياً، ووصِفت الفرقة بأنها "واجهة ماسونية" تهدف إلى إفساد النساء وتشويه التصوف. لم تقتصر الهجمات على النقد، بل انزلقت إلى إهانات شخصية وازدراء علني، طالت العضوات وعائلاتهن.
تتذكر أفنان تلك الفترة وتقول: "في البداية، آلمتني التعليقات السلبية كثيراً، خاصة بعد انطلاقة الفرقة مباشرة. لكنني رفضت أن أكسر. حوّلت الهجوم إلى دافع للاستمرار، لأؤكد أن الروح لا تُصنّف، وأن الدوران لا يُحتكر، وأن التصوف ليس حكراً على الرجال".
رغم ضعف الإمكانيات، تمضي فرقة "دوري" بإصرار، معتمدة على التمويل الذاتي بالكامل. تتقاسم العضوات كلفة الأزياء والتدريب وتأجير القاعات، في ظل غياب أي دعم مؤسسي. ورغم العبء، يواصلن السعي لضمان استمرار هذا الشكل الفريد من الفنٍّ.
وتلخّص أفنان شاهر حلمها ببساطة: "كل ما أريده هو أن تبقى الفرقة، بتدريباتها وجلسات الحكي فيها، ملاذاً دائماً لكل امرأة تبحث عن الانسجام مع حركة الكون."