هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
في أحد سجون الأسد كان الذهول يسيطر على وجوه المعتقلات، وكنّ خائفات من تصديق أنهنّ حصلن على الحريّة. سألت إحداهن شبان المعارضة المسلحة: "إلى أين نذهب؟". وبدت أخريات في حالة من الارتباك والضياع، وكأنَّ استعادة الحياة، أصبحت أبعد من الحلم حتى.
إنها حكايات كثيرة، تتقاطع في القسوة والظلم، لسجينات سوريات تعرضن لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي والجنسي في سجون نظام الأسد الذي سقط الآن، إلى الأبد.
البحث مستمر عن السجون السريّة
صنوف من التعذيب والتنكيل، عاشتها سجينات وسجناء بالآلاف في سوريا، وبحسب المرصد السوريّ لحقوق الإنسان، يقدّر عدد السجناء في سوريا بـ 300 ألف شخص، وقد تحدثت تقارير أخرى عن أن بين هؤلاء 40 ألف امرأة.
حتى الآن، لا تزال فرق الإنقاذ تواصل البحث عن المزيد من السجناء القابعين تحت الأرض وفوقها، فبعض السجون لا يُعرف لها طريق، كونها غير رسمية وغير معلنة، وبالتالي التأخر في إيجادها أو إيجاد معلومات حولها، يعني تهديد حياة الكثير من المعتقلين والمعتقلات، الذين/ اللواتي يمكن أن نتخيّل أحوالهم وحكاياتهم.
لقد أدخلت فرق اللإنقاذ معدات حفر إلى سجن صيدنايا لتدمير الخرسانات للوصول إلى السجن الأحمر، بعد شكوك بوجود معتقلات سرية تحت الأرض، ذلك أن الأبواب مشفرة والمداخل سريّة وتحت الأرض. هذا ليس خيالاً أو فيلماً، وليس "غوانتنامو"، إنها سجون الأسد!
في أحد سجون الأسد كان الذهول يسيطر على وجوه المعتقلات، وكنّ خائفات من تصديق أنهنّ حصلن على الحريّة. سألت إحداهن شبان المعارضة المسلحة: "إلى أين نذهب؟". وبدت أخريات في حالة من الارتباك والضياع، وكأنَّ استعادة الحياة، أصبحت أبعد من الحلم حتى.
انتشرت الفيديوات لمعتقلين ومعتقلات تنفسوا الحرية، وبينهم أطفال معظمهم ولدوا في السجن، إلّا أن المعلومات المتوفرة تؤكد أن عدد الذين تم إخراجهم ليس كبيراً مقارنة بالعدد الإجمالي لما تحويه السجون والسجلات واللوائح الموجودة لدى المنظمات الحقوقية. وقد شوهدت قوافل من المشاة والسيارات يتوجهون نحو سجن صيدنايا للبحث عن الأبناء والأحباء الذين اختفوا في غياهب الأسد.
تعذيب النساء الممنهج
ووفق "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" فإن الأوضاع في السجن كانت في أسوأ حالاتها بين عامي 2011 و2015، أي في سنوات الثورة الأولى، وتراجعت أعداد السجناء داخله بسبب عمليات التصفية. وأكدت الرابطة أن النظام السوري أعدم فيه خلال الفترة من 2012 إلى 2022 من 30 إلى 35 ألف سجين، بشكل مباشر، أو تحت التعذيب، أو نتيجة قلة الرعاية الطبية والتجويع. وكان يتم نقل الجثث بعد عمليات الإعدام ودفنها في مقابر جماعية.
أما سجون النساء تحديداً، فكان لها حصة خاصة من التعذيب والتنكيل، ففي تقرير صدر عام 2024، حذرت الشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان، من ممارسات النظام السوري بحق النساء، والتي تتراوح ما بين الاغتصاب والتعذيب النفسي والجسدي وبين الإهانات والابتزاز. واعتبرت الشبكة أن النظام والميليشيات المرتبطة به تمارس انتهاكات بحق المعتقلات السوريات بشكل ممنهج ومستمر.
وبالاعتماد على تقارير حقوقية دولية، اتهمت الشبكة الأوروبية النظام والميليشيات الداعمة له بممارسة انتهاكات واسعة وممنهجة بحق المعتقلات، واستخدام النظام وميليشياته النساء كورقة مساومة في عمليات تبادل الأسرى.
واعتمدت الشبكة على شهادات 10 نساء جرى اختبارهن من بين عينة إجمالية شملت 53 مقابلة مع نساء سوريات احتجزن ما بين عامي 2012 و2014.
ومن بين أساليب الابتزاز اغتصاب السجينات أمام أعين أقاربهن لانتزاع الاعتراف أو تعذيب أقارب النساء أمام أنظارهن لإجبارهن على الاعتراف.
المسلخ البشري والثقب الأسود
سجن صيدنايا يُعدّ من أكثر السجون العسكرية تحصيناً خلال عهد حافظ الأسد، ومن بعده نجله بشار الأسد. أُطلق عليه لقب "السجن الأحمر" في إشارة إلى عمليات القتل والتعذيب الدموية التي شهدها، كما لُقّب بـ "الثقب الأسود والمسلخ البشري".
أما الآن وقد فتحت السجون، فلا داعي للاعتماد على أي تقارير لمعرفة ما فعله الأسد بالنساء وبالرجال، وجوه الخارجين/ ات من أقبيته تحكي لوحدها، وجه الطفل الذي لا يتجاوز الثالثة وهو يقف متفرجاً فيما يفتح رجال المعارضة الأبواب... إنه وجه يختزل الحكاية كلها.
أحد المعتقلين السابقين قال في مقابلة تلفزيونية: "كانت الرحمة أن يقوم السجان بشتمك، بدل شتم أمك وأختك وسلالتك كلها". ثم أضاف: "لقد أمضيت سنوات تحت رحمة أشخاص مريضين نفسياً وحقودين، يختارهم النظام بدقة لتدميرنا، إنهم حاقدون على كلّ فئات المجتمع، حاقدون على كلّ الشعب السوري".
بعد هذه السنوات الخمسين الطويلة، فعلاً لقد نجونا، كل من عاش في ظل هذا النظام يمكن أن يعتبر نفسه ناجياً الآن. أما تلك السيدة الجميلة التي سألت حين دعوها لمغادرة السجن: "إلى أين نذهب"، فأريد أن نقول "إلى الحرية".
وإلى كل أهالي المعتقلين الذين التقيتهم في حياتي والذين أجريت معهم لقاءات أربكتني وهزّت إنسانيتي، أريد أن أقول أيضاً: "لا بأس! هيّا بنا إلى الحرية!".
ولنكون منصفين، كلّ التقارير الأممية والحقوقية التي روت حكايات جزء من المعتقلين مع التعذيب اليومي والإعدامات الأسبوعية والحرمان من الطعام والرعاية الصحية، والتعذيب النفسي والضرب والاغتصاب... كل تلك التقارير تبيّن أنها لم تفِ بالغرض، فالحقيقة صعقتنا جميعاً، صعقت البشرية، في تلك السراديب يقبع آلاف البشر الذين جمّدت سادية الأسد أعمارهم وقطعت عنهم الهواء والشمس.
بعد انتهاء 50 عاماً من حكم عائلة الأسد من حافظ إلى بشار، وهو بلا شكّ واحد من أهم الأحداث السياسية والإنسانية في هذا القرن، يحقّ للشعب السوري والشعب اللبناني أن يحتفل. فاللبنانيون أيضاً تحملوا عهداً قاسياً من الوصاية الأسدية التي اعتقلت وقتلت وخطفت آلاف اللبنانيين منذ الحرب الأهلية في لبنان.
بعد هذه السنوات الخمسين الطويلة، فعلاً لقد نجونا، كل من عاش في ظل هذا النظام يمكن أن يعتبر نفسه ناجياً الآن. أما تلك السيدة الجميلة التي سألت حين دعوها لمغادرة السجن: "إلى أين نذهب"، فأريد أن نقول "إلى الحرية".
وإلى كل أهالي المعتقلين الذين التقيتهم في حياتي والذين أجريت معهم لقاءات أربكتني وهزّت إنسانيتي، أريد أن أقول أيضاً: "لا بأس! هيّا بنا إلى الحرية!".