هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: English (الإنجليزية)
الجدران لم تتوقف عن الاهتزاز، كل شيء كان يتهاوى بسرعة، أصوات الأرض كانت تصدع الآذان، ورغم أهوال زلزال شباط/فبراير، بقيت سلطة الرجل المستمدّة من فكرة قوامة الرجال على النساء هي مفتاح نجاتهن والبقاء على قيد الحياة من عدمه.
حاولت أمينة، وهي سيدة سورية كانت تعيش في أنطاكيا، الخروج فزعة من المنزل مع زوجها، كانا يتراكضان على أمل الإمساك بالحياة قبل أن يسرقها الزلزال، لكن للأسف سقط السقف على رأس أمينة وماتت.
تخبرنا إحدى جاراتها كيف جلس الزوج منتحّباً على أمينة، التي دُفنت تحت الركام، مردداً جملة واحدة بقي صداها يتردد في وسط الناس المذهولين من هول الزلزال: "أنا الحق علي، دفعتُها لتعود إلى داخل المنزل لتجلب الحجاب، لتغطي شعرها".
الزلزال لم يتجاوز الـ 80 ثانية، لكنّ الزمن كان أسرع من أمينة. فبينما كانت تدفع الجدران عائدةً إلى داخل المنزل لتجلب غطاءً لرأسها، توقف الزمن فجأة وانتهى كل شيء. وأمينة لم تكن المرأة الوحيدة التي كان عليها أن تختار إما النجاة بحياتها أو الحجاب.
الطفلة شمس روت قصة نجاتها من تحت الركام عبر إحدى المحطات الإعلامية، وقالت، "سقط علينا الجدار، علق أبي بينما كنت أنا الأقرب إلى فتحة الخروج، لكنني كنت بلا حجاب، طلب أبي مني الخروج لمساعدتهم، وأخبرني أن الله سيسامحني ويغفر لي، و أنه عليّ الخروج وطلب العون".
لحظة طلب الأب النجاة، سقطت قدسية الحجاب وباتت مغفرة الله متاحة. هنا تحضر سلطة الرجل الذي يمنح لنفسه سلطة شرعية بتقديم الفتوى المساندة له. فتردُّد الفتاة في الخروج من تحت الركام والإصرار على معرفة الحكم الشرعي وطلبها السماح من الأب بالخروج من دون غطاء للرأس، يكشف جزءاً مهمّاً من طبيعة السلطة الأبوية في العائلة والتي هي مصدر تلقين الشريعة.
علي، شاب سوري يقطن في غازي عينتاب، في تعليقاته على وسائل التواصل الاجتماعي كان يفتخر بما أسماه عفاف السوريات، وكيف أنهن فضّلن الموت على الخروج من البيت دون حجاب. فيسرد تجربته الشخصية، قائلاً، "لقد خاطرنا جميعاً بالبقاء، أنا وأمي وأختي، لقد ارتبكنا، ومن هول الصدمة، لم نعد نجد أغطية الرأس، تشهدنا جميعاً تشهدنا بصوت عال وفضلنا البقاء سوياً في المنزل واستغفرنا، والحمدالله البناء لم يتهاوى".
بإمكان أي متابع/ة لوسائل الإعلام خلال فترة الزلزال أن يشاهد كيف كانت أجساد النساء الخارجات من الأنقاض تُلفّ بالبطانيات فوراً، وكيف كانت معظمهن يخشين الخروج من دون غطاء الرأس، فلا مجال لأن تُكشف "العورات" أمام كاميرات الناس ومئات المنقذين.
يبدو أنه حتى في أكثر اللحظات رعباً، تبقى السلطة الذكورية متحكمة في نجاة النساء من عدمها
الكثير من النساء كنّ قلقات من انتشار صورهن أثناء خروجهن من تحت الأنقاض بلا حجابهن. تخبرنا إحداهن، "الرجال يعتبرون أن هذه الصور بمثابة الفضيحة والعار لهم، ولم نكن بحاجة إلى مشاكل إضافية لحياتنا". لن نناقش هنا إذا ما كان الحجاب فرضاً دينياً، ولن نخوض في نقاشات التيارات الدينية، وإذا كان الحجاب مخصصاً لنساء الرسول فقط... لكن لا بدّ من أن نتوقف هنا عند اللحظة الأصعب، حين يجدُ الواحد منا نفسه مع الموت وجهاً لوجه، وملاحظة مدى صعوبة حياة النساء حقاً، وكيف تجعلها الأزمات أكثر تعقيداً... فالسلطة الذكورية تحضر هنا أيضاً، مرّة جديدة.
في هذا الإطار، تقول السيدة أسماء كفتارو، مديرة منتدى السوريات الإسلامي، إن الإسلام يضع في أولوياته حفظ النفس ثم الدين ثم العقل ثم العرض ثم المال.
والأصح أن حفظ النفس هو المقدم على الجميع، لأن الله أذن للمكره أن ينطق بالكفر ليحفظ روحه فقال إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالايمان (سورة النحل) وكل مقاصد الشريعة هدفها في نهاية المطاف سعادة الإنسان وكرامته. من هنا، لا صحة لما يتم تداوله بأن الستر في الكوارث هو أولى من الحياة والسلامة الجسدية والحفاظ على الأرواح. فالإنسان في الكارثة ليس مطلوب منه أن يمارس الفقه، لأن الكوارث تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت.
قضى نحو أكثر من 50 ألف شخص ما بين سوريا وتركيا في الزلزال، وهناك مئات الآلاف من الذين تشرّدوا وتوزّعوا على مراكز الإيواء والخيام. ومنذ ساعة الزلزال الأول في السادس من شباط/فبراير، لم تهدأ الأرض عن الحركة، وفي كل هزة، كبرت أو صغرت قوتها، تنهار شجاعة الإنسان منّا، لكن يبدو أنه حتى في أكثر اللحظات رعباً، تبقى السلطة الذكورية متحكمة في نجاة النساء من عدمها.