يُنشر هذا التحقيق بالتعاون مع "درج ميديا"
كانت سالي (اسم مستعار) وهي سيدة لبنانية ثلاثينية، تحلم بإنجاب أخ لابنها. كانت هذه أمنيتها الوحيدة، لكن سرطان الدماغ باغتها قبل أن تستطيع تحقيق رغبتها الصغيرة، إذ حذّرها طبيبها من المحاولة التي قد تعني ولادة جنين بتشوّهات خلقية بسبب الأدوية التي كانت تتناولها.
تخبرنا إحدى قريبات سالي، فيما تغص بين جملة وأخرى، "هيدا مش كل شي... كانت سالي تخضع لجلسات علاج مؤلمة وصعبة، لكن العذاب الفعلي كان يوم اكتشفت أن زوجها يخونها في غرفة نومها، وحين سألته تحجّج بأنها تهمله ووضعها الصحي لا يسمح لها بتلبية حاجاته".
دخلت سالي في وضع نفسي صعب، أضيف إلى معاناتها الصحية مع مرض شديد الخطورة. لم تكن قادرة على ترك المنزل وتحمّل تبعات ذلك، بخاصة أن ابنها كان ما زال صغيراً. تحمّلت سالي وناضلت، "شفيتُ من المرض، لكن لا شفاء من جرح الخيانة"، تقول قريبتها.
حين سمعنا هذه القصة، لم يخطر في بالنا أن قصّة سالي ليست استثناءً، لكن البحث عن قصص أخرى، وعلى كثرتها، أذهلنا بالفعل، فكثيرات تعرّضن لما قاسته سالي وأكثر في فترة مرضهنّ، حتى إن بعضهنّ فارقن الحياة مع جرح كبير في القلب.
نروي هنا بعض القصص التي صادفناها، بمناسبة حملة الـ16 يوماً العالمية المُخصّصة لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي التي تستمر من 25 تشرين الثاني/نوفمبر حتى 10 كانون الأول/ديسمبر، لأن استسهال التخلي في لحظة الضعف واستبدال الشريكة بأخرى تبدو بصحة أفضل، ربما يكون أقسى درجات العنف. ونتحفّظ عن ذكر أسماء النساء بطلات هذه القصص، من أجل سلامتهن، وسلامة من روى لنا معاناتهن.
تزوّج عليها بعد أن أتعبَها المرض...
سرق المرض بريق عيني زينب (60 سنة)، تعبت، وتراجع وضعها النفسي أيضاً، إلا أنها كانت تحاول رغم ذلك الحفاظ على عائلتها بالطاقة الباقية في جسدها المنهك بسبب السرطان الذي أضيف إلى فشل كلوي، اضطرّت على إثره إلى استئصال إحدى الكليتين. كانت زينب تذهب إلى جلسات العلاج وتعود لتحضير الطعام لأولادها، وكأنها تريد إقناعهم بأن لا شيء تغير. إنما في الجهة الأخرى، كان زوجها يخطط لأمر آخر، فبحجة أنها لم تعد قادرة على تلبية رغباته وطلباته الجنسية، قرّر الزوج بعد سنة واحدة على بدء معاناة زوجته، أن يرتبط بامرأة أخرى، غير آبه بأثر ذلك على نفسيتها ووضعها الصحي.
تقول جارتها لنا، "بيجي بيطلّ عليها بيجبلا أكل وشرب وبيفل عند مرتو التانية". تذهب زينب إلى جلسات العلاج بمفردها أو برفقة أحد أبنائها الأربعة، فيما يعتقد زوجها أن كل ما تحتاجه لمحاربة المرض الذي يفتك بجسدها منذ نحو عشر سنوات، هو الأكل والشرب، فيما يواصل حياته في منزل آخر مع امرأة أخرى.
"لم يكن زوجها يعتني بها، كان يتعامل مع السرطان كما لو كان زكاماً أو داء سكري يجب التأقلم معه. أختي أصبحت هزيلة، لم تعد تقوى على فعل أبسط الأمور..."
لحظة مفصلية
يوضح المتخصّص في مجال الأورام السرطانية الدكتور الياس شمعون لمعدّة التحقيق، بالاستناد إلى دراسات تم إجراؤها في هذا المجال، أن "الضغوط التي يعاني منها المريض خلال فترة الإصابة بالسرطان تؤدي إلى إفراز هرمونات تساهم بنمو الخلايا السرطانية بشكل أسرع وتساعد على توليد أوعية دموية جديدة لتغذية الورم، كما أن الضغوط المزمنة والحادة خلال فترة المرض تؤثر بشكل كبير في الجهاز المناعي، ما يعطّل عملية الخلايا المناعية في محاربة المرض".
ويتحدث الطبيب في هذا الإطار عن حالات كثيرة صادفها، تخلى فيها الشريك عن زوجته، فيما نادراً ما نرى العكس. يقول شمعون، "إحدى السيدات وهي إمرأة في العقد الرابع من عمرها كانت مصابة بسرطان الثدي واضطرّت لإجراء عملية جراحية لاستئصال ثدييها، تركها زوجها في فترة العملية نفسها، وما عاد يسأل عنها ولا يزورها في المستشفى، كما قدّم في الوقت عينه أوراقاً للمحكمة تثبت أن زوجته غير مخولة صحياً أو مادياً لرعاية الأولاد وطلّقها. أدخلها ذلك في اكتئاب دام 6 أشهر، وبالتالي تأخرت عن علاجها الكيميائي، فانتشر السرطان في أجزاء متعدّدة من جسدها، وتدهورت حالتها بسرعة كبيرة وأسلمت الروح بعد نحو 3 أشهر".
يلفت الطبيب إلى أن "اللحظة التي يتلقى فيها مرضى السرطان نبأ إصابتهم بالمرض هي لحظة مفصلية تغيّر حياتهم بشكل جذري وتقلبها رأساً على عقب كما أن الصدمة النفسية التي يشعر بها المريض في حينها صعبة جداً، وبالتالي يحتاج بعدها إلى دعم كبير ومتواصل من المحيطين به لاتخاذ القرارات الصعبة في ما يتعلق بصحته. ففي تلك المرحلة لا يستطيع المريض أن يجابه المرض وحده".
يؤكد أيضاً شمعون أن "الدعم النفسي للمريض من المحيطين به هو الذي يقيه من الاكتئاب، فغالبية مرضى السرطان الذين عانوا من الاكتئاب وصلوا إلى مرحلة جعلتهم يهملون أنفسهم، أو يعتمدون أسلوب حياة غير صحي وربما دفع ببعضهم الى إهمال إجراء فحوصاتهم والأخطر من هذا كله أنه قاد آخرين للجوء الى الإدمان على الكحول أو المخدرات".
تعامل مع مرضها كأنه زكام
لم تكتمل سعادة حنين بعد إنجابها طفلتها الأولى، فبعد أشهر قليلة عرفت بإصابتها بسرطان الثدي فيما كانت ابنتها في أوج حاجتها إلى الرضاعة والرعاية.
وحنين هي امرأة جزائرية، التقينا أختها مصادفةً في لبنان، لتخبرنا بالقصة التي تتقاطع مع القصص الأخرى التي جمعناها في هذا الإطار، والتي ذهبت إلى محصلة مؤلمة واحدة: شركاء أنانيون يتركون شريكاتهم في لحظة المرض أو الضعف.
"لم يكن زوجها يعتني بها، كان يتعامل مع السرطان كما لو كان زكاماً أو داء سكري يجب التأقلم معه. أختي أصبحت هزيلة، لم تعد تقوى على فعل أبسط الأمور، لا تستطيع حتى حمل ابنتها، بسبب الآلام التي تعاني منها في الذراعين. أما زوجها فغير مهتم تماماً، لا يقدم أي دعم مادي أو معنوي لزوجته، وكأن الأمر لا يخصه".
تتولى والدة حنين رعاية ابنتها وحفيدتها بشكل أساسي، فيما تحاول الشقيقات تقديم المساعدة قدر المستطاع، مع العلم أن لكل واحدة منهن مسؤوليات وعائلة تحتاج إلى اهتمام.
الدعم النفسي والسرطان
بحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، يُعتبر السرطان السبب الرئيسي الثاني للوفاة على مستوى العالم، إذ سجّلت 1 من كل 6 حالات وفاة سببها السرطان على الصعيد العالمي.
ولم تقتصر تأثيرات السرطان على الصحة الجسدية فقط، بل تعدتها إلى الصحة النفسية للمرضى وعائلاتهم، إذ تكون الأزمة النفسية شائعة جداً لدى مرضى السرطان حتى بعد النجاة منه والانتهاء من العلاج.
إلى ذلك، يتحدث التقرير عن تأثيرات الضغوط النفسية في مسار محاربة المرض وتحسّن الوضع الصحي. ويلفت إلى أن الرعاية الملطّفة علاج يخفّف الأعراض الناجمة عن السرطان، ولا يشفيها، ويحسّن نوعية حياة المرضى وحياة أسرهم. ويمكن أن تساعد الرعاية الملطّفة الناس على العيش بمزيد من الارتياح، وهي رعاية تمسّ الحاجة إليها في الأماكن التي ترتفع فيها نسبة المرضى المصابين بالسرطان في مراحل متأخرة من المرض تقلّ فيها فرصهم في الشفاء منه.
أمام هذه الحقائق العلمية، يمكن فقط تخيّل ما قد تشعر به مريضة السرطان حين يهجرها زوجها أو يستبدلها بأخرى، كأنها مجرّد شيء غير نافع، من دون أن يأبه لمرد ذلك على صورة المرأة عن ذاتها وحالتها النفسية والصحية.
من أجل بريق صغير من الأمل، التقيتُ لينا وزوجها في إحدى العيادات وهما قريبان لي، كان يمسك يدها طوال الوقت بانتظار الدخول إلى الطبيب، وكان بين حين وآخر يمسّد شعرها الذي تساقط معظمه إثر جلسات العلاج الكيميائي. سألتُ لينا عن وضعها وقالت بثقة: "خليل زوجي هو الدواء والسند الحقيقي، 5 سنين من العلاج ما ترك إيدي لحظة، حتى لما استأصلت ثديي وما نجحت عملية التجميل، كان يقلّي إني أحلى امرأة بالعالم...".